مصطفى نصر - لقاء عابر..

يجيء يوم 26 يوليو ( موعد خروج الملك فاروق من مصر، والعيد القومى للإسكندرية ) و" سعد " فى أجازة المدارس السنوية.
تتوقف شركة الغزل التى يعمل بها صديقاه ( سيد وعوض) عن العمل، فالشركة تمنح العاملين بها أجازة لمدة أسبوع تبدأ – عادة – قبل يوم 26 يوليو بيومين أو ثلاثة.
يذهب الثلاثة إلى محطة الرمل والمنشية، حيث تتنافس الشركات والهيئات فى تقديم الاحتفالات لذلك اليوم، فتقام أقواس النصر على طول الكورنيش من رأس التين إلى المنتزه، كل شركة تظهر عن نشاطها من خلال نموذج مصغر لعملها، فهيئة النقل العام تقدم تراما صغيرا بدورين فوق قوس النصر بعرض الكورنيش، وتسير الترام ببطء ذاهبة وآيبة طوال الوقت، وشركة الشحن والتفريغ تقيم ونشا يحمل بالة قطن فوق قوس النصر المعد لذلك.. الخ.وتشكل لجنة من محافظة الإسكندرية لاختيار الهيئات والشركات الفائزة بكأس المحافظة وأوسمتها.
يخرج " سعد " – في تلك الأوقات – من بيته في الصباح ولا يعود إلا ليلا. يطوف – هو وصديقاه – شوارع الإسكندرية سيرا على الأقدام يتفقدون أقواس النصر والنماذج التي أقامتها الهيئات والشركات؛ وكأنهم لجنة التحكيم التي ستختار الأعمال الفائزة.
00
في يوم 26 يوليو يذهب الثلاثة إلى كورنيش البحر قبل الظهر بقليل؛ لأن أجهزة الشرطة ستغلق الطريق بعد ذلك ولن تسمح بالمرور فيه.
يجلس " سعد " مع صديقيه فوق السياج الأسمنتي القصير للحديقة المقابلة لمسجد القائد إبراهيم، وبجوار مبنى الصحة العالمية التابع للأمم المتحدة. الحديقة مزدحمة خاصة بالأطفال والنساء.
امرأة جميلة جلست بجوارهم مع مجموعة من النساء والأطفال، كانت تضع الملاءة اللف فوق ظهرها، وجهها أبيض وجميل، أنفها دقيق) تابعته باهتمام، كشفت عن شعرها الناعم المعقود من الخلف بشريط أحمر، وظهر فستانها الأزرق المكشكش عند الصدر ليكشف عن الثديين البارزين. ابتسمت فى حياء وانشغلت أسرتها ببعضها البعض. أطفال يلحون فى طلب الترمس الذى جاءوا به من البيت، وبعضهم يبكى يريد ماء أو طعاما؛ وتركوها لسعد يشير إليها وتشير إليه بأصابعها الرقيقة وابتسامتها الواسعة، قال " سعد " لرفيقيه:
- وجهها جميل.
" عوض" هو الذى يجلس بجوارها. قال " سيد " له:
- أترك مكانك لسعد ليكون بجوارها.
لم يجبه " عوض" الذى لم يكن مرتاحا لما يحدث.
امرأة أكبر سنا منها وأكثر امتلاءً؛ أعطتها حفنة ترمس، فأخذت تقزقزه وتدفع القشر بشفتيها فى تلذذ وهى تنظر ناحية " سعد ".
استجمع هو شجاعته ومد يده لها. لم يحدثها، كان ينظر إلى سواد عينيها، فأعطته كل ما معها. قال " سيد " مداعبا: أعطنا مثلما أعطيته.
ازداد وجهها احمرارا، وهمست في أذن المرأة الممتلئة فأعطتها حفنة أخرى، أعطتها لسعد، فأعطاها لصديقيه وظل ينظر إلى وجهها الجميل.
هى أكبر منه بقليل، وقد تكون متزوجة، فلا يمكن أن تظل بجمالها هذا دون زواج كل هذا العمر.
الحديث يدور عن جمال عبد الناصر الذي سيأتي بعد قليل، والجنود والضباط يسيرون في الطريق الخالي تماما من المارة. قالت هي لزميلتها – ومازالت تتابع وجه " سعد ":
- لابد أن أراه كل سنة.
قال " سيد " لسعد: قول لها، أن تعطينا حفنة ترمس أخرى.
أبتسم " عوض" فى تثاقل، هو غير راضى عما يحدث، لقد شغلت هذه المرأة سعد عنه، قبل أن يراها؛ كان يتحدث مع صديقيه عن عبد الناصر، وعن الاحتفالات المقامة هذا العام.
كانوا يقضون أوقاتهم – منذ سنوات قليلة – في حدائق الشلالات، بجوار شجرة طرزان الضخمة، يلعبون فوقها، يبحثون عن خنجر طرزان الذي أخفاه داخلها قبل أن يرحل إلى أمريكا ليمثل أفلامه هناك. يقسم " سيد " بأنه سيجده يوما، ووقتها ستتحدث الصحف عنه كثيرا. لذا، يكثر من الذهاب إلى حديقة الشلالات. يذهبون بعد ذلك إلى بحر جحا- وهو عبارة عن جدول صغير يمده الشلال بالماء، ويسبح فيه البط والوز أمام كازينو مشهور هناك - يسبحون فى بحر جحا، فيطاردهم الحراس، يأخذون ملابسهم – أحيانا - مهددين.
الآن تغير كل شيء، أحلامهم كبرت معهم، نسوا خنجر طرزان، وأدركوا أن حكايته مجرد خرافة يضحكون بها على الأطفال. يتابعون الآن البنات والسيدات، ويذهبون إلى محطة الرمل والمنشية، ويتحدثون فى السياسة.
مر جنديان يركبان حصانين ممتلئين ويمسكان عصا رفيعة، سارا بجوار سياج الحديقة، ثم اقتربا من مبنى الصحة العالمية.
يأتى " سعد " كل عام إلى هذا المكان وصديقاه معه. ينتظرون موكب جمال عبد الناصر. تمر عربته الكاديلاك السوداء المكشوفة، فيرفع يده عاليا مبتسما، ثم يتبعون الموكب سيرا على الأقدام حتى المنشية، حيث يخطب الرئيس فى شرفة مبنى البورصة. لكن " سعد " كبر على هذه الهتافات، نعم، عندما يمر جمال عبد الناصر لن يتحرك من مكانه، لن يقفز ويلوح بيديه كما يفعل كل عام، لا، هو أكبر من هذا بكثير. لابد أن يتعامل مع الأشياء – الآن – بحذر وعاطفة أقل.
وقفت المرأة بعد أن أعطت ملاءتها للمرأة الممتلئة، كشف الفستان الأزرق القصير عن الساقين الممتلئتين، وسارت ممسكة بزجاجة ماء فارغة، قال " سيد ":
- أذهب إليها، لقد ذهبت من أجلك.
قال " عوض": لكن، قد يمر جمال عبد الناصر فجأة.
قفز " سعد " من فوق السياج الأسمنتي القصير، ووقف لحظات مترددا. اقتربت هى من حنفية المياه بجوار سياج الحديقة البعيد عن مرور موكب الرئيس.
يحيط بالحنفية الكثير من النساء والأطفال ورجال قليلون جدا. الحنفية فمها واسع، تستخدم فى الأيام العادية لري الحديقة.
لم تدخل – هى – وسط الزحام. اقترب " سعد " منها، فستانها الأزرق ولون بشرتها الأبيض وشعرها الفاحم المسترسل رسموا أمامه لوحة جميلة.
لم يجد " سعد " ما يقوله، لم تبتسم له ككل مرة، نظرت حولها فى خوف، قال:
- انتظري حتى تقل الزحمة ؛ لتتمكني من ملأ زجاجتك.
سارت بجواره، هي تعرف أن الزحمة لن تخف إلا بعد أن يمر جمال عبد الناصر بموكبه، لكنها لم تأت من أجل الماء، لقد جاءت من أجله هو، سارت معه. وقفا أمام السياج القصير في مواجهة سينما راديو، لن يمر جمال عبد الناصر من هذه الناحية، لذا، لا يقف بجوارها أحد.
وضعت زجاجة المياه الفارغة فوق السياج، قال لها: وجهك جميل.
نظرت حولها في خوف ثانية. قال: متزوجة؟
قالت في حياء وهى تمسك زجاجة المياه ثانية:
- بعد أن يمر الرئيس سنتكلم، أخشى أن يرانا أحد الآن.
وعادت مسرعة. لم تعد إلى الحنفية، ذهبت إلى أسرتها بالزجاجة الفارغة، قالت:
- الزحام شديد حول الحنفية.
قالت هذا بصوت مرتفع من قبل وصولها إليهم بخطوات، كأنها تقدم تبريرا لكل الحاضرين في الحديقة عما بدر منها.
وجلس " سعد " في مكانه الذي حجزه له صديقاه، وابتسمت هي له، لكن هذه المرة في جرأة أكبر، سأله " سيد ":
- كلمتها ؟
- نعم.
- عرفت اسمها وعنوانها؟
- بعد أن يمر الرئيس.
مر ضابطان يركبان موتسيكلين إيذانا بقدوم الرئيس، وهبت الجماهير من أماكنها تصيح وتستعد لملاقاته.
نزل " سيد " و" عوض" عن السياج، وقفا على أرض الشارع، لكن " سعد " ظل كما هو. وهى – أيضا – ظلت كما هي، بعد أن تركها أقاربها ووقفوا استعدادا لرؤية الرئيس.
ابتسمتْ له وقد أحمر وجهها وابتسم لها فرحا، سيظل هكذا مهما حدث، مرور الرئيس سيعطيه فرصة أكبر للاقتراب منها؛ فسينشغل الناس برؤيته ومتابعة موكبه. مد يده إليها فلمستها بأصابعها، قال: ألن ترى الرئيس؟
ابتسمت فى حياء: إنني مرتاحة لهذا الوضع.
يستطيع من خلال جلسته على السياج متابعة الطريق أفضل من الواقفين على أرض الحديقة وأرض الشارع خارج السياج. صاحت الجماهير القريبة منه فقد مر الرئيس أمامها، صوتهم كان كالهدير، لم يستطع أن يتمالك نفسه ويقاوم رغبته فى رؤيته. مرت السيارة الكاديلاك السوداء المكشوفة، ورفع جمال عبد الناصر يده ككل مرة وابتسم بوجهه الأسمر فتزاحم الناس وحجبته عن عيني " سعد "؛ فأسرع بالوقوف فوق السياج مع من وقف حتى لا تفوته رؤيته، وصاح فى شبه جنون وهتف مع الهاتفين.
تداخل الناس وقتذاك وصرخوا وهللوا، لمحها وسط الذين هبوا واقفين عندما رأوا الرئيس، فستانها الأزرق تداخل وسط ألوان الملابس الأخرى التي كانت تتزاحم.
عاد " سيد " و" عوض" إلى " سعد "، قال " سيد " فرحا: رأيته يا " سعد ".
وقال " عوض": نظرت عيناه لعيني؛ فلوح لي بيده مبتسما.
ساروا فى طريقهم إلى المنشية، كانوا يتحدثون عنه: "بذلته الأنيقة، والشعر الأبيض فى فوديه ". يتمنى " سعد " أن يكون له فودان بيضاوين – مثله – عندما يكبر.
بعد أن اجتازوا الكورنيش تذكر " سعد " المرأة الجميلة ذات الفستان الأزرق، لقد وعدته بأن تحدثه بعد مرور موكب الرئيس، سيعرف اسمها وعنوانها وإن كانت متزوجة أم لا. سيعرف كل شيء عنها، لعلها تنتظره للآن بجوار حنفية المياه، أو ربما تبحث عنه وسط الجماهير هناك.
قال " عوض":
- لابد أن نسرع إلى المنشية لنلحق خطاب الرئيس من أوله.
- والمرأة التي تنتظرني و.........
قاطعة " سيد ":
- أجرى، ألحقها، إنها فرصة قد لا تتكرر.
وقف للحظات مترددا ثم قرر أن يستكمل السير مع صديقيه إلى المنشية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى