محمد السلاموني - الرحيل من المشهد: مقاربة أوَّلية "للحب كفقدان".

[لقد تدلّى العالم بأكمله في دمعةٍ فريدة؛ دمعة تعكس الغياب في كثافته...].
جاك دريدا


[كل الأحبة يرتحلون، فترحل من العين شيئا فشيئا ألفةُ هذا الوطن].
أمل دنقل
الأفكار لا تبقى أبدا، الأفكار خفيفة، سرعان ما تتطاير، تُنسى، تتحول إلى أفكار أخرى... أما البشر "لاسيما الأحبة والأصدقاء" فيَزِنون أكثر، لأنهم يمتِّلون الحضور؛ حضورك أنت نفسك
، فى عالم غريب، تعرفه بالكاد...
لست هنا فى معرض الحديث عن "الموت"، بل عن "الحب" حين ينقلب ويصير موتا.
منشغل أنا هذا الأيام بالحب، كـ "سؤال"، تغافلت عنه طوال عمرى، أهملته تماما، أو ربما ركلته بشدة ليخرج من وجودى؛ تماما كالقطط التى لا أطيق رائحتها - أنا المريض بحاسة شم ثاقبة .
حضور ما بعد الغياب:
كثيرا ما يَلِد الغيابُ الحضورَ... ويصير كثيفا.
كأنما الغياب قشرة، واااااااهية.... أو قطعة زجاج تفصل بيننا دون أن تحجب شيئا.
تحدث الكثيرون من قبل عن أن الشعور بالفقدان، بالغياب، هو ما يضعنا عنوة أمام الحضور الكثيف لما افتقدناه...
هنا يصير الفقدان خسرانا فادحا... خسرانا لألفة الوجود فى عالم نعرفه بالكاد .
// ندنو "من" ونبتعد "عن" العالم، لأن هناك آخرون هم جسر العبور إليه أو العودة منه .
إذن، الآخرون هم المسافة التى "نقطعها" إلى العالم...
من الغريب أن كلمة "نقطعها" التى تدل على قطع الصِّلة، هى نفسها الكلمة الدالة هنا على الصِّلة نفسها !.
وهو ما يضعنا من جديد أمام مفارقة "الغياب حين يصير حضورا" .
نعم، ينطوى الحب على الشعور بالحياة، بما هى الحضور، حضورنا فى العالم، وحضور العالم فينا... لكنه هَش، الحب هَش بما لا يوصف، وسريع الموت... حتى إن لاشئ يتبقى لك منها سوى شبح، يبدو كأنما يطارك... فتتساءل: أين هى؟، أين ذهبت؟- على الرغم من أنها معك، لا تزال...؟!.
وما أن يفترق الطرفان ، ويذهب كل إلى حال سبيله، حتى ينفجر الشعور بالفقدان؟!.
"لقد فقدتها!... ألم تكن معى؟!، لماذا رحلت؟، لماذا تركت يدها فى يدى ورحلت؟!، لماذا...؟!."...
فى الغياب، غيابها... تحضر كقمر عنيف .
يتحدث "دريدا" عن أن حضورها الذى يسكننى الآن، يسكننى بوصفه تجسيدا للغياب.
ربما كان جوهر الحب هى حتمية فقدانه.
نعم، [فيوما ما لن يرى أحدنا الآخر]- كما يقول "دريدا" أيضا.
لهذا أعرضت عنه، ولم ألتفت إليه إلاَّ حين باغتنى فقط .
الغريب فى الأمر هو أن تلك المباغتة، انبثقت من داخلى أنا حين انبثقت...!.
أيعنى هذا أننى أنا الذى باغَتُّ نفسى؟.
وهى؟... ما الدور الذى لعبته هى فى تلك المباغتة؟.
ثم هناك شئ آخر:
إذا كان "جوهر الحب هى حتمية فقدانه"، فهذا يعنى أن ما انبثق بداخلى على نحو مباغت كان هو الحاجة "حاجتى" إلى "الشعور بالفقدان"، بما هو الشعور بـ "الحضور الكئيف"، الذى هو "تجسيد الغياب"...!.
وهو ما يضعنى أمام السؤال: وما حاجتى لـ "تجسيد الغياب"؟.
لكى أنعم بالحضور، حضور "نفسى" الغائبة دوما بحكم التصاقها البدهى بى.
// هكذا، فى الحب نبحث عن "أنفسنا" التى تحوَّلت إلى أشباح تقيم بدواخلنا، لنعاود الشعور بحضورنا الكثيف؛ ذلك الحضور لن نتحَصَّل عليه أبدا سوى برحيلها "هى" من المشهد الخاص بحياتنا .
إنه الحب، وياله من مفارقة...!.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى