د. كاميليا عبد الفتاح - موت الزعيم حلقة من حلقات الانكسار العربي في القصيدة العربية المعاصرة .

يبقى جمال عبد الناصر بطلًا إشكاليا ، يثير من الاحتلاف على قدر ما امتلك من المحبة والتقدير والثقة ، يثيرُ من الجدل حوله ، على قدر ما حقّق لمصر والأمة والعربية ، وعلى قدر ما عجز عن تحقيقه . يثيرُ من الأسى والشجن ومشاعر الفقد الجمعية ما يؤكدُ استقراره في ضمائر الملايين بطلا مُخلّصا ، رُفعَ في قلوب الملايين إلى مصاف أسطورية ، ونال منه كثيرون إلى حد تجريده من الثقة ، واتهامه . وهذا لا يكونُ ولا يحدث إلا حين تلدُ الأمّةُ بطلا إشكاليا ، فالصغار يأتون الحياة ويمضون منها بلا ضجيج ، وبلا أثر من غبار .
وعلى الرغم من الإدانة الحادة التي وجهها بعض الشعراء إلى بعض ممارسات الحكم في عهد جمال عبد الناصر ، وتحميلهم إياه مسئولية فشل المشروع القومي وتحقيق الذات العربية ، فإن ذلك لم يمنع هؤلاء من الإحساس الحاد بأن وفاته حلقة كبرى في سلسلة الهزائم المعنوية والمادية في المجتمع العربي ، إذ مثَّل الزعيم للضمير الشعبي وللشعراء الجدارَ المعنوي والمظلَّة والأبوّة والقوة والأسطورية التي اضطلعت بتحقيق كثيرٍ من أحلام الصغار والكبار على السواء، ومن هنا كانت إدانتهم له تحمل من المرارة والحزن - والثقة في قدرته على تحقيق ما لم يحقق - أكثر مما تحمل من الغضب و انعدام الثقة . وكان رثاؤهم مفجّعا حين فقدوه للأبد، فعلاقة كثير من الشعراء المعاصرين بالزعيم علاقة حالمة أقرب إلى الحميمية والدفء منها إلى النمط الرسمي المعروف . وقد أوضح حجازي هذه العلاقة بدقة متناهية في ردِّه على د. عبد المنعم تليمة الذي كان يعتقد بوجود علاقة بين جيل الخمسينيات والسلطة، فقال حجازي مُعقبا : "وكان أدق لو قال د. تليمة كانت علاقة جيلٍ بالحلم وليس بالسلطة، والحلم هنا هو المشروع القومي ، هذا المشروع الذي قام على تحقيقه أقلام المصريين والعرب عامة وبالتقدم والتحرر والحرية وتحرير فلسطين".
انعكس هذا الوعي في شعر حجازي - ورفاقه من شعراء الواقعية في الخمسينيات والستينيات - وتجلَّى وعيُه بهذه الحقيقة في ديوانه "مرثية العمر الجميل" الذي أظهر عنوانُه تصوّر الشاعر لطبيعة المرحلة التي قادها عبد الناصر ، فوصفها بالعمر الجميل ، بكل ما فيها ، وكل ما شهدت من قوة وضعف ، ونجاح وإخفاق .
لقد مثَّل جمال عبد الناصر ضمير الشعب المصري ، والضمير العربي كله ، ولم يكن مسئولا عن مرحلة حكمه وحدها ، بل كان مؤثرا في ما بعدها تأثيرا عميق الغور ، ولذلك لم يكن رثاؤه من هذا النمط التقليدي المعروف في الشعر العربي ، بل كان رثاء عمر وأجيال ، رثاء مرحلة فكرية وسياسية وإبداعية كاملة ، كما قال أحمد عبد المعطي حجازي الذي حدّدَ "العمر الجميل" بتلك الفترة في حياته - و حياة مصر والأمة العربية - التي انتهت مع هزيمة 1967م والتي تطايرت أشباحها الأخيرة مع وفاة جمال عبد الناصر.
لم يقتصر وعي حجازي في رثائه لعبد الناصر عند حد الانتباه إلى هذا التضافر المصيري بين الزعيم والأمة ، بل تعدّى إلى براعة التصوير لأدق المشاعر التي اختلجت في قلوب البسطاء تجاه الزعيم : الثقة والانكسار ، الحب والخوف ، اليتم والفقد ، الأسى واضطراب الرؤية . يقول في قصيدة "الشاعر والبطل":
ماذا أقول!
أخافُ أن يكون حبي لك خوفا
عالقاً بي من قرون غابرات
فمُر رئيسَ الجند أن يخفضَ سيفه الصقيل
لأن هذا الشعر يأبى أن يمر تحت
ظله الطويل
ماذا أقول؟ أهل أقول
إنك أعطيتَ وجوه الفقراء مسحة
من كبرياءْ
وأنَّ عمرك الجميل
مُوزعُ بالعدل في أعمارنا
يحثنا أن نغلبَ الحزنَ ونتبع الدليل
يظلمك الشعر إذا غناكَ في هذا
الزمان
لأنه لا يستطيع أن يرى مجدكَ
وحده، بدون أن يرى
ما في هذا الزمان من عذاب وهوان"
كانت رثائيات جمال عبد الناصر – عند كثير من الشعراء - قصائد جمعت بين بكاء الزعيم وتقييم المرحلة ، وكان حجازي مميزا في رثائه فقد كان كما يقول د. لويس عوض "ينظر إلى عبد الناصر نظرته إلى المهدي المنتظر ، بالمعنى السياسي طبعا ، أو فلنقل أنه كأنه يريد أن ينظر إليه على هذه الصورة، فحتى في وقت الوهم الأعظم كان الشاعر تساوره الشكوك " .
وفي القصيدة ذاتها - التي سُمي الديوان باسمها – " مرثية العمر الجميل " ، يرثي الشاعر ذاته - لا الزعيم وحده - و يؤبّنها ، داعيا إلى تأبين الحلم وبكاء غرناطة التي حملت في هذا الطرح دلالة رمزية للحلم العربي الضائع ، والهوية المُستلبة . وكأن بكاء عبد الناصر كان فاتحة كل بكاء عربي . يقول حجازي:
"فوداعا هنا يا أميري
آن لي أن أعود إلى قيثارتي
وأواصلَ ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
وتعودُ إلى قبرك الملكي بها
وأعودُ إلى قدري ومصيري".
ويطرحُ حجازي ذاته معادلا للذات الجمعية التي استشعرت بعد موت الزعيم الضياعَ وافتقاد الرؤية ، والخوف من المجهول ، بل من عدو معلوم رأى حزنها ثغرة يتسللُ من خلالها ، يقول حجازي :
من تُرى يعلمُ الآن في أي أرض
أموتْ؟
وفي أري أرض يكون نشوري؟
إنني ضائعُ في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيل
وتاريخي المستعاد
حامل في دمي نكبتي
حاملُ خطئي وسقوطي .
• ويكتب أمل دنقل قصيدته (لا وقت للبكاء) ويلقيها بحزن بالغ وصوت متهدج - كما يصف د. عبد العزيز المقالح - في حفل تأبين عبد الناصر بعد أربعين يوما من وفاته . يتكلمُ أمل دنقل في هذه القصيدة بلسان الشعور الجمعي القومي – مقابل غلبة الذات الفردية على طرح عبد المعطي حجازي - ويتخذ من موت عبد الناصر منطلقا لاستنفار الأمة ، واستنهاضها من مناخ الانكسار والهزيمة ، على النقيض ممّا طالعنا في قصيدة حجازي من غلبة البكاء الرومانسي والمناخ الاستسلامي لمشاعر اليأس والضياع . يقول دنقل :
"لا وقتَ للبكاء
فالعلمُ الذي تتكسينه على سرادق العزاء
مُنكّسٌ في الشاطئ الآخر
والأبناءْ...
يستشهدونَ كي يقيمونه.. على "تبَّه"
العلمُ المنسوجُ من حلاوة النصر ومن مرارة النكبةْ
خيطا من الحب.. وخيطين من الدماء
العلمُ المنسوج من خيام اللاجئين للعراء
ومن مناديل وداع الأمهات للجنود
في الشاطئ الآخر..
ملقىّ على الثرى
ينهشُ فيه الدودُ.. واليهودْ"
لم يكن نداء دنقل للأمة - بأن لا وقت للبكاء - نيلا من حجم الزعيم أو استهانة بجرح وفاته، بل تأزما من مصائب أكبر تحيطُ الأمة وتشدها إلى السقوط ، فكان لا بد أن يُذكّر بأنّ الأرض التي أنجبت صلاح الدين قادرة على مخاضه مرة أخرى . يقول دنقل :
"رأيتُ في صبيحة الأول من تشرين
جندكَ يا حطين
يبكون
لا يدرون
أن كلَّ واحد من الماشين
فيه.. صلاح الدين !



• من كتاب " القصيدة العربية المعاصرة ، دراسة تحليلية نقدية " ، 2007م






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى