لحسن أوزين - علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: من جدل النفي الى جدل متعدد التخصصات

تمهيد:
يحاول ساري حنفي في كتابه الأخير ( علوم الشرع والعلوم الاجتماعية نحو تجاوز القطيعة) أن يدفع، تكوينيا وتطورا، في سياق سيرورة انشغاله المعرفي والاجتماعي السياسي والثقافي، نحو بناء وبلورة مقاربة بديلة للعلاقة الصراعية المحكومة بجدل النفي، والاقصاء وعدم القبول والتقبل والاعتراف بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. وهي مقاربة ليست ناتجة عن رغبة ذاتية استجابة لأخلاقياتالانتماء لهوية زائفة في التماسك والتوحد الأحادي المغلق ضد التنوع والتعدد والاختلاف، أو ملغومة بهلوسة المؤامرة بمختلف تعبيراتها الدينية والسياسية التي تستهدف المسلم والاسلام( الصهيونية، الامبريالية...). بل هي نتيجة سيرورة تقاطعت وتضافرت فيها مجموعة من الأسباب والعوامل الذاتية كتجربة ومعايشة فردية وعلائقية جماعية ومجتمعية. بالإضافة الى سياقات ومسارات التحصيل المعرفي والعلمي المتنوع والمتعدد، و الموجه( براديغم) بالسؤال السوسيولوجي المنفتح.لذلك يمكن القول إنه يفكر كونيا في الوقت الذي يقارب واقعه المحلي، أي ينطلق من واقع التعدد والتنوع والاختلاف، كمعطى موضوعي يفرض نفسه، وما يطرحه من تحديات ومخاطر وفرص، ومهمات لا مفر من الاستعداد لمواجهتها، انطلاقا من تحمل عناء ومشقة التفكير في بناء الاقتدار المعرفي والعلمي والأخلاقي القادر على خلق التماسك انطلاقا من وعي ضرورة عيش ثراء التنوع والاختلاف والتعدد.
أولا- عرض بعض مضامين الكتاب
وتحقيقا لهذا الهدف كان ساري حنفي واضحا في منهجيته العلمية والنقدية بوضع القارئ في الصورة الراهنة لما هو سائد من علاقات النفي والتكفير والاقصاء بشكل متبادل بين الفاعلين في كلا الحقلين: علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، تبعا لسطوة وهيمنة أيديولوجية عمياء تقود الطرفين نحو الاحتراب الرمزي أو المادي. كل هذا يؤطره واقع الاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يتغذى على النفي والتصحر والموت كشكل سياسي يسمح له بمعاودة إنتاج سيطرته وتأبيد وجوده السياسي. ولفهم هذا الواقع في تعقد علاقاته السياسية والاجتماعية والدينية عاد بنا المؤلف في ثلاثة فصول الى ولادة ونشأة وتكون وتطور سيرورة علوم الشرع من الجوامع الى الجامعات( الزيتونة، القرويين، الازهر)، بالإضافة الى معاهد التكوين الإسلامي في الغرب. ولم تكن هذه السيرورة لتخلو من سطوة متفاوتة القوة والتحكم السياسي من طرف الدولة. كما أنها تميزت بضحالة فكرية ومحدودية في الوعي والرؤية حالت بينها وبين إدراك وفهم التحولات الاجتماعية وما تتطلبه من حيوية معرفية واستنارة عقلية وتغييرا في المناهج والبرامج والمواد التعلمية التي ظلت تقليدية الى حدود الثورات العربية، حيث عرفت تغيرا طفيفا في الربط بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وذلك بسبب السياقات الاجتماعية والسياسية وما تفرزه من متغيرات وتحولات أمنية وثقافية ومجتمعية وبيئية...
وقد بقيت القوى الدينية السياسية التي أنتجتها الجامعات السابقة، أو كليات الشريعة المرتبطة بها متأرجحة بين الاخوان والسلفية بتياراتها المختلفة، وما بينهما من عداء صريح الى حد التكفير. في الوقت الذي ساد الاتجاه المقاصدي في تونس والمغرب.
وقدم ساري حنفي توصيفا لجميع هذه التيارات الدينية ولوضع التعليم الديني المأزوم الذي صار محط ندوات ومؤتمرات، لأنه ظل جامدا وبعيدا عن الواقع. واختلف المثقفون اليوم في تحليلهم للأزمة، وكيفية تجاوزها بين الرافض للدين في المجال العام، وبين الداعي الى التعامل الموضوعي والنقدي والأخلاقي مع الواقعة الدينية. في الوقت الذي يفضل المؤلف مقاربة تدريس مادة دينية تشمل وظائف الدين كافة في عيش التجربة الدينية وجدانيا وروحيا وإيمانيا، بمهارات تداولية وفكر نقدي. وهذه الازمة وما عرفته من نقاشات لم تخص العالم الإسلامي وحده، بل عرفتها كل بلدان العالم بشكل متفاوت في التفكير والمقاربة والمعالجة الميدانية معرفيا و تربويا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا...
وفي تعامل كليات الشريعة مع العلوم الاجتماعية يسود نوع من الرفض الصريح، أو اللجوء الى الأسلمة، أو انطلاقا من التفاعل وفق منهج التكامل المعرفي الذي تؤطره المقاربة الأخلاقية للظواهر الاجتماعية التي تعتمد الثقافة المنهجية والعلمية المستنيرة المتجاوزة للإنسان البياني.
وعند تناوله للتعليم الشرعي قدم المؤلف توصيفا للحقل الديني مشيرا بشكل مبتسر الى الآراء المختلفة حول دور الوقف/المادي في ضبط المجال الديني والتحكم في أشكال التدين. حيث يصعب الحديث اليوم عن استقلالية الحقل الديني عن الدولة وعن تحيزات الحركات الدينية.
وعن علاقة التدين بالاجتماعي والسياسي هناك أربعة أنماط من التدين: الإسلام المؤسسي الرسمي الازهر مثلا، والتدين الشعبي بمختلفة أشكاله الصوفية، الفلسفي والعرفاني والشعبي، و الاحيائي الاخواني/الإصلاحي، أو السلفي، وهذا التيار الذي شكك في العلوم الاجتماعية باعتبارها كفرا، يختلف عن الإصلاحيين الذي توافقوا مع مستجدات التحديث والقوانين الوضعية.أما ما بعد الإسلامية، فهي التي تقبل لعبة المشاركة، لكنها متباينة في سيرورة ولادتها وتكونها وتطورها الى أحزاب سياسية. فحركة النهضة في تونس ليست هي العدالة والتنمية البعيدة كليا عن صيرورتها إسلامية جديدة تبعا للشروط الأربعة التي يطرحها ساري حنفي، أو ما أشار اليه خليل العناني. والغريب في الامر أنه يربط حركة التجديد بالشخص، وليس فكريا وبنيويا.
وفي الخصائص التي يحددها ساري لهذه الأنماطما يُبين التقاطعات ونقاط الالتقاء والتحول والعبور الموجودة بينها أكبر من النظر بنظرة التباين والاختلاف. فالتجليات المختلفة لحضورها الاجتماعي السياسي لا ينفي أساسها المشترك العقدي والفكري السياسي. ويظل السؤال معلقا حول سر الخاصية الرابعة التي يحددها لأنماط التدين كونها قائمة على الجماعة والجماعية. ونتفق معه على أن الفهم الأفضل لكل هذا مرتبط بالعلاقة الجدلية بين التدين والعلمانية بأشكالها الأربعة: الصلبة، المرنة، الصورية، ومدنية الدولة. ويرى الباحث أن تطور الحركة الاجتماعية في الدول العربية تمضي في هذا الشكل الأخير من جدل التدين والعلمنة مع التركيز على الجانب القيمي و الأخلاقي من الدين، بما يعني الحرص على دولة المواطنة والمساواة والحريات الفردية والجماعية. وتتفاوت تيارات التدين السابقة في علاقتها بالديمقراطية سلبا وايجابا. ويبدو أن ما بعد إسلامي هو الأقرب الى الممارسة الديمقراطية، وعيا منه باللحظة التاريخية لمجتمعات ما بعد العلمانية لا ترفض الدين، ولا تقلل من مصداقية خطابه غير الاستبدادي.
وعلى مستوى علاقة المتدين بالفتاوى يلاحظ تعقدها في عصر الانترنيت حيث المعرفة الدينية متحكم فيها من خلال مواقع مؤسسات دينية رسمية، ومواقع للمشايخ...
وفي هذا السياق تناول حالة الهجرة/اللجوء، حيث يلاحظ مدى سيطرة اللغة الدينية الإنغلاقية التي تنظر للآخر كمشرك وكافر الى درجةيحريم بعض المشايخ على المسلم رغبته في الحصول على جنسية بلد اللجوء/الهجرة. وتتجاوز الفتاوى هذا كله الى التحكم الحياتي والنفسي و الوجداني، خوفا من موالاة الاخر المحبة والاعجاب، أو تخفيف شعور الكراهية " لما هم عليه من كفر بالله تعالى ومنكرات وانحلال، فالنفس تألف ما اعتادته"113. ويزداد الامر تضييقا وتحريما كلما تعلق ذلك بالمرأة. وعلى العموم تسيطر لغة ومفاهيم دار الكفر ودار الإسلام لأغراض سياسية، إلى حد تحول الناس الى حطب للحرب ترضي أمراء الحرب بالوكالة.
لكن بالمقابل هناك براديغم فقهي جديد متمثل في كثير من الفعاليات التنظيمية المدنية كالمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث. فقد ظهرت أفكار جديرة بالتقدير والاحترام تعكس تبلور وعي الفاعل الديني الإسلامي باللحظة التاريخية، التي تستوجب فقه العيش المشترك وفق الشرط الحضاري المتاح على المستوى العالمي. وتفعيل قيم القبول والاعتراف والاحترام للآخر، انطلاقا من القيم الإنسانية في الحرية والكرامة والمساواة، والايمان بالتنوع والتعدد والاختلاف، مع احترام حرية الضمير والاعتقاد، وفق أخلاقيات الحوار والتواصل مع الاخر. وحتى بين المذاهب والمشارب الفكرية المختلفة.
زاوية نظر أخرى تعتمد لغة وقيم ومفاهيم الحداثة السياسية ورؤية للتفكير تأخذ بمبدأ الجدل التكاملي بين الذات والأخر بما يتجاوزن المنطق الضحل لازدواجية نحن و"هم" في المعاملات و العلاقات الاجتماعية، مع الاستفادة من تفاعل العلوم الاجتماعية والإنسانية مع علوم الدين، قصد التجديد وعيا بضرورة فقه الحياة المنفتح على الانسانيةفي تعدديتها الدينية والثقافية. هكذا يقدم لنا ساري حنفي صورة إيجابية عن الفاعلية والدينامية الفكرية والاجتماعية والثقافية التي يقوم بها المجلس الأوربي في التأسيس لفقه العيش المشترك، بما يحقق الاندماج الإيجابي، وهذا ما يتلاءم والواقع الراهن في العلاقات الدولية، خاصة أمام الأوضاع المؤلمة التي يعيشها المسلمون وانغلاق حدود الخليج في وجوههم. واللاجئ اليوم ينصت لواقعه القهري أكثر من فتاوى موجهة استبداديا.
يستهل ساري حنفي محور التجديد الإسلامي بثلاث مقاربات لفهم التغيير المجتمعي، يبدأ بمقاربة ماركسية،ومقاربة هوياتية، ثم مقاربة فيبيرية تركز على القيم. وقد حملتها الانتفاضات العربية في مضامينها الاجتماعية والسياسية والقيمية بتأثير من الحداثة التي تشربها الشباب والنخب بشكل أو بآخر. وفي هذا السياق برز التجديد الإسلامي من خلال مثقفين عملوا على ربط الجسور بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. لكن الوثائق الحزبية، أو بعض خطابات الرموز الإسلامية،التي يسردها ساري، كدليل على ديمقراطية الحركات الإسلامية لاتعبر عن حقيقتها السياسية في الممارسة الاجتماعية، فهي مجرد شعارات مؤقتة غير مؤسسة على فهم ووعي ومعرفة علمية، وإرادة سياسية في عيش التغيير وممارسته. وانطلاقا من سيرورة التغيير هذه في تغيراتها التاريخية والسوسيولوجية يوسع ساري الرؤية للنظر الفكري النقدي في ما يعتمل في الواقع الحي بكل تناقضاته وتعقيداته. وذلك لفهم تباينات النخب في تطرفها ومرونتها سواء العلمانية أو الإسلامية. وضمن هذا التوجه ينظر الى الحركات التجديدية التي أسست وجودها من خلال مشروع أسلمة المعرفة الذي مثل عطاء الكثير من الأقلام، بالإضافة الى مشروع العلاقات الدولية في الإسلام. حيث برز اتجاه شبابي تجديدي مابعد إخواني، وما بعد سلفي، ومابعد حركة الصحوة. و تمثل هذا التجديد في شبكات للنشر ومراكز بحثية في الخليج أو خارجه.فقد قامت بمجهود تجديدي في كل ما عملت على نشره والبحث فيه من منطلق الاستفادة، ولو على الأقل من منهجية العلوم الاجتماعية لا منتجاتها. وهي في الغالب بتمويل وتخطيط وتأطير من طرف دول الخليج. وهذا ما يشكل المفارقة التي تحتاج الى أسئلة جذرية، وتوسيع الرؤية للسماح للعلوم الاجتماعية: السياسية والتاريخية...، أن تقول كلمتها من زاوية تعدد التخصص عند بحث مشكلات وإشكاليات العلاقة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. وقد يستغرب القارئ المهتم والمتتبع لبوادر هذا التجديد أن يتم تحت المظلة الاستبدادية الخليجية. الشيء الذي يجعلنا نؤكد أن مشكلة علوم الشرع في انفتاحها على الواقع الحي في تغيراته السوسيولوجية والتاريخية، وما يتطلب ذلك من ربط الجسور بالعلوم الاجتماعية والانسانية، هي مشكلة سياسية استبدادية بالأساس في وجه براديغم جديد لجدل التكامل المتعدد الرؤى والتخصصات بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية.وفي هذا السياق التجديدي تحضر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث المتميزة بانفتاحها على الدراسات والبحوث النقدية والتحليلية للموروث الديني ، وربط الاواصر المعرفية والفلسفية مع كل آفاق العلم والمعرفة والمنهجيات الحديثة، مع ربط الصلة بين التجديد من الداخل والتجديد الذي أنجزه بعض المفكرين من منطلقات حداثية. ويمكن إضافة الى هذه الحركة التجديدية توجهات ومواقف وكتابات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الساعي الى الوسطية والاعتدال. وهي في الحقيقة اجتهادات مشروطة بالاعتراف بشرعية الاستبداد الحاكم باعتباره الحاضن والممول والداعم والموجه لعملية إنتاج نظام الخطاب التجديدي، سواء تعلق الامر بفقه الواقع القرضاوي، أو مقاصد الريسوني التي تتحايل على الواقع الاجتماعي السياسي في تناقضاته وصراعاته بلغة المقاصد تحصينا ودفاعا عن مواقع سياسية في الصراع على السلطة أكثر منها حركة تجديدية تجذر فلسفة مقاصدية في التناول الديني لقضايا الواقع وحياة الناس، وما يفرضه هذا من مد الصلات الفكرية وتشبيك العلاقة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. وهل حقا بعض المشاريع الفردية الصادرة من الخارج كانت نخبوية أم أن الشرط السياسي الاجتماعي والثقافي للاستبداد هو الذي قوى من التصورات الدينية المحافظة والتقليدية، ومنحها عمق المجتمع تعبث فيه كما تشاء خدمة لديمومة وتأبيد الاستبداد، ونجاح جدل النفي بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وتفكيك وحدة النسيج الوطني في تنوعه وثرائه وتعدده؟ ووكيف يمكن تفعيل المقاربات الثلاث لفهم ما يحدث في السعودية من تجديد من طرف الأمير؟ وهل هو تجديد ديني أم شكل سياسي لتجديد السيطرة، أي بشكل أدق معاودة إنتاج العلاقات الاجتماعية السياسية الاقتصادية، بغطاء إيديولوجية المعرفة الدينية التجديدية؟ ما جعلنا نطرح هذه الأسئلة هو أن ساري لا يعرف مدى نجاح أو فشل مثل هذا التجديد الديني. والأكثر من هذا أن المجتمع العميق لا تزال القوى المحافظة والمتشددة تسيطر على بنياته الثقافية والسوسيولوجية، كمكونات مجتمعية.
واستكمالا لفصل الحقل الديني قدم المؤلف دراسة ميدانية، في المجتمع اللبناني بسنته وشيعته،حول المعرفة الدينية ودورها وفاعليتها من خلال خطب الجمعة، وما تقوم به من تأثير وتأطير وسيطرة على الوعي والتحكم في الادراك.وهؤلاء العلماء ينقسمون الى فئات مختلفة تتفاوت في قربها من الدولة والخضوع لما يمليه استفادتها من ريعها، أو في استقلالها عنها. الشيء الذي يؤدي الى اصطدامات فيما بينها أو مع السلطات السياسية. لكن في لبنان نوع من الاستقلالية النسبية رغم الارتباط المادي بالجهات الفاعلة في الحقل الديني. ويستند أغلب الخطب على الانترنيت كمصدر للمعرفة، بالإضافة الى القنوات التلفزيونية، وقراءة الكتبالسياسية والأدبية والعلمية. وعادة ما يستخدمون في خطبهم قضايا تاريخية ماضوية، واجتماعية وسياسية راهنة، لكن بعيدا عن العلوم الاجتماعية. وعلى العموم معرفتهم لا تختلف عما هو سائد لدى عامة الناس. وهذا ما يجعل الخطاب الديني ضحلا ومترهلا بعيدا عن مشاكل الحاضر وهموم الناس الذين يمارسون التزامهم الديني دون اهتمام بضامين الخطب، التي كانت عاجزة عن التفكير النقدي، حيث ظلت تمارس منظورا دينيا في المسائل الاجتماعية والسياسية. وهذا قصور في وعي اللحظة التاريخية للحداثة، وضحالة في التكوين المعرفي والفكري الحديث، الذي يمنح أدوات البحث والتشخيص والتفكير النقدي، عوض اجترار المنظور الديني، المسيج بثقافة الحدود، في التناول للقضايا الاجتماعية والسياسية والاخلاقية. وذلك بعيدا عن التبعية للسياسة الرسمية، وانتصارا حقيقيا دون تحيز مذهبي طائفي للانتفاضات العربية، و للحرية والديمقراطية التي ظلت غائبة في خطب الجمعة.وكل ما يرفضه الخطيب( السني أو الشيعي) فهو مؤامرة علمانية ضد الدين. وهي خطب بعيدة عن الطرق الأربع للتفكير النقدي الاجتماعي التي أشار إليها ساري حنفي.من هنا ضرورة تأهيل الخطباء وتدريبهم في المؤسسات الدينية من منظور العلوم الاجتماعية. وذلك تفاديا للاستراتيجيات الخطابية التقليدية في الوعظ والدعوة الى الانغلاق والكراهية والتكفير ضدا لقيم العدالة الإنسانية والحرية والديمقراطية...
انطلاقا من تحليل نقدي لما يعرف بأسلمة المعرفة يبين ساري حنفي مدى فداحة هذا التصور، واختزالية هذا النمط من التفكير للعناصر الأساسية التي تشكل العلوم الاجتماعية. حيث يبعد هذا التيار( المتنوع الى حد التناقض) نفسه بشكل انغلاقي عن طبيعة الإنتاج المعرفي في الغرب. فقد رفض بعضهم مفهوم الأسلمة مبعدا كليا العلوم الاجتماعية، في الوقت الذي اهتم اتجاه آخر بمسألة التأصيل من خلال مغالطات تاريخية متوهمة السبق التراثي والإسلامي في باب العلوم الاجتماعية( ابن خلدون...). بالإضافة الى المشاريع التوفيقية ذات الثنائيات النمطية: التراث والحداثة، الاصالة والمعاصرة....
ومقابل الأسلمة يستعمل ساري مفهوم التوطين الذي يتأسس انطلاقا من عناصرالتراكم المعرفي العالمي، والحضور القوي للثقافة المحلية في أنظمتها المعرفية وتركيباتها الذهنية، ومختلف أشكال التفاعل الجدلي بين المعرفة والجمهور. بالإضافة الى التكامل بين العلومالاجتماعية و الفلسفة الأخلاقية وعلوم الشرع. وفي هذا السياق قدم المجهود العلمي الذي قام به تشاودري في الاقتصاد السياسي الإسلامي، وفق منهجية تختلف عن أسلمة المعرفة، حيث سعى الى نوع من التكامل بين الاقتصاد الإسلامي والعلوم الاجتماعية. كما أشار أيضا الى العمل الذي أنجزته هدى هلال في الجمع بين الفقه وعلم النفس والعلوم المعاصرة لدحض الرؤى التمييزية بين الرجل والمرأة. وإذا كانت المحاولات الجدية قليلة فإن المحاولات الترقيعية كثيرة وهي تتلبس اللغة الدينية والمنطق الأخلاقي في حدوده ومحدوديته التي لاترقى الى مستوى البحث العلمي. لأنها كانت خاضعة لسياقات هوياتية واجتماعية محكومة بدوافع سياسية ومصالح اقتصادية، وبنوع من الحذر والعداء للعلوم الاجتماعية، مما جعل مشاريع الأسلمة والتأصيل تغرق في الاختزالية لكل ماينتج معرفيا وعلميا في الغرب، لسبب قومي ثقافي. هكذا تم تجاهل ضرورة الوعي بأفق الاسهام المحلي في العلم الاجتماعي الكوني. وتقوم بفصل تعسفي بين المعياري والوضعي، مفتقرة الى بعد القلق والتوتر الخلاق بينهما، حيث السقف الأخلاقي الديني الضيق عاجز عن الالمام بالواقع الحي الذي يعيشه الناس. من هنا ضرورة تفعيل الفقه المقاصدي في فهم النصوص والتقعيد القانوني لأحكام التشريعات. هذا هو الأفق القانوني الدستوري الديمقراطي الذي طرحه عبد الله المالكي في كتابه سيادة الامة قبل تطبيق الشريعة. مما يستلزم من دعاة الشريعة الإحاطة بالعلوم السياسية والاجتماعية. وإلا فإن المحاولات الترقيعية التي تعلي من شأن النظرية وتبخس الواقع، هي التي ستسود بفعل التصحر الفكري والنقدي الذي تنشره البنيات الاجتماعية والسياسية والثقافيةللاستبداد، الذي ينشر تفكير وقيم الانغلاق غير الواعية بضرورة العالمية في الاعتماد والتفاعل المتبادل، كتعاون دولي يفرض ضرورة تدويل العلم، من خلال الفعل الجماعي للباحثين. في ظل هذه المعطيات تبدو المجتمعات العربية بعيدة جدا عن شرطي رشدي راشد لتوطين العلم. خاصة على مستوى السلطتين السياسية والاقتصادية.
ولتجاوز جدل النفي هذا السائد بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، يؤسس ساري تصوره البديل انطلاقا من المفاهيم( الاتساق...) التي بلورها سمير أبو زيد، معتمدا في ذلك منهجه فيالفصل والوصل، أي بناء على جدل التكامل المتعدد المنظورات بين العلم والجوانب المعيارية الأخلاقية المستمدة من الدين. جاعلا من نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني موجها إرشاديا لأعماله.
وفي محور آخر تناول ساري التعليم الشرعي في المشرق، في لبنان بشكل خاص. مبينا طبيعته الدينية المتنوعة المذاهب والطوائف، وارتباطاته السياسية، ومدى تفاوته في التطرف والانغلاق، أو في المرونة والانفتاح، حسب المصالح السياسية للجهات الداخلية والأجنبية( السعودية ، الكويت، ايران...). كما بين كيف يتم إنتاج المعرفة الشرعية، وما المؤسسات التي (دار الفتوى) تتحكم في إنتاج العلماء وضبط خطابهم. وأشار المؤلف الى نوع النصوص والكتب والمواد الشرعية والقانونية المدرسة بجامعة بيروت الإسلامية في مختلف المستويات. فبعض هذه الكتب المدرسة غارق في التقليد واجترار الماضي البعيد عن حياة الطالب. وكتب أخرى قليلة تحاول الجمع بين التيار التقليدي والاسئلة المعاصرة، أي جعل التراث الديني مرتبطا بالواقع المعاش، من خلال تحليل تاريخي مبسط وأحادي، لكن لا يخلو من جدية التناول النقدي- الى حدما- للمقاربة التقليدية للدين. حيث يعتبر كتاب" أزمة العقل المسلم"لعبد الحميد أبو سليمان نموذجا في هذا الشأن من الوصل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية. وعلى العموم يمكن القول إن الكثير مما يدرس في لغته ومفاهيمه ومناهجه ومضامينه بعيد عما يعيشه الطالب اليوم، وغارق في طرق النظر والبحث النصي المحض، والاجترار تبعا للبراديغم الاشعري التقليدي. وهذا البرنامج التعليمي يستحيل فيه الاجتهاد( الإفتاء) لأنه لا يساعد على فهم وتفسير الواقع. ويغرق الطالب في نوع من الكراهية للغرب ولإنتاجه المعرفي، مما ينعكس سلبيا على معرفته، و وعيه بضرورة احترام النسيج الاجتماعي الوطني في اختلاف اثنيته ومذاهبه وطوائفه ودياناته...
في سورية لعبت الكثير من العوامل والأسباب التاريخية والسياسية والعلمائية دورا كبيرا في رسم حدود وترابطات وتفاعلات التعليم الشرعي بالواقع الاجتماعي السياسي. وهذا التحكم السياسي الاجتماعي المحافظ بعلوم الشرع جعل تعليمها تقليديا في جوهره. يجتر نصوص الماضي البعيدة عن التحولات الاجتماعية التي مست العلاقات الاجتماعية والعلاقات الإنتاجية الاقتصادية، محليا وعالميا. ورغم ما يبدو على هذا التعليم من اتساق بين القوانين المدنية والفقه، فهو غارق في النصية والتفكير خارج الوعي باللحظة التاريخية الراهنة للتحديث والحداثة. الشيء الذي يجعل هذا التعليم الشرعي يحمّل الإسلام أكثر مما يطيق من مغالطات تاريخية علمية. كما أجهز البوطي ومن معه على مقاصد الشريعة بعدائهم الصريح للمفاهيم التجديدية للمصلحة. فأغلقوا باب الجدل والنقاش بعد أن جعلوا من كتبهم المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا متمرد على النظام الحاكم، أو محب للحداثة، في الحرية والكرامة والديمقراطية...
صحيح أن بعض العلماء رغم تقليدية نتاجهم المعرفي قد أخذوا موقفا معارضا للنظام نظريا وعمليا، من خلال الفعل العسكري. لكن فعلهم الفكري والميداني لم يختلف عن استبدادية النظام. فطبيعة المعرفة المكتسبة لم تكن لتؤهلهم للتحليل النقدي والتقدير الموضوعي للواقع، وما يتطلبه من تغيير سياسي واجتماعي وثقافي، تبعا للقيم المحلية في جدليتها مع القيم الكونية الانسانية.إلا فئة قليلة منهم تميزت في انفتاحها المحدود على العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ولا يختلف التعليم الشرعي في الأردن كثيرا رغم ضحالته وتبعيته المعرفية والعلمائية لما كان سائدا في سورية ومصر. فمحتوى المناهج الدراسية يتكون من المذهبين الشافعي والحنفيوالعقيدة الاشعرية. وقد تطور الحقل الدين والفاعلين بالموازاة مع نشأة وتبلور الدولة التي أخذت بعدا مدنيا( علمانية محافظة)في التشريع والقوانين، وفي رسم التوجهات الرئيسية للحقل الديني ومؤسساته، بالتعاون مع الفاعلين فيه دون أي اصطدام بجماعة الإخوان، لأهداف سياسية تخدم شرعية الدولة، وسندا لها ضد مد المشروع القومي واليساري. لذلك عملت الدولة على ضبط مضامين المناهج والمقررات الدراسية من المدرسة الى الجامعة، حيث تم إلغاء مادة الفلسفة. كما أن وزارة الأوقاف من خلال مديرية الوعظ والإرشاد تتحكم في كل صغيرة وكبيرة في الحياة الدينية والثقافية للمجتمع. وفي سياق سيرورة التغيرات السوسيولوجية، والصراعات السياسية الاجتماعية، وتأثيرات الوفرة المالية النفطية السعودية، برز الوجود السلفي، بمختلف تلويناته، في الحياة المجتمعية، وصار له أتباع، ونمط حياة خاص في اللباس والاعتقاد بالفرقة الناجية. وهذا ما فتح باب العداء تجاه الأنظمة والحداثة، وتجاه التيارات الأخرى. هذا ما قام به حزب التحرير المكفر للغرب والديمقراطية. وخاضت أيضا صراعات مع الدولة،و مع جماعة الاخوان المسلمين الذين استطاعوا التغلغل في عمق المجتمع، بفضل الخدمات السياسية التي قدموها للدولة في تسطيح الوعي والتحكم في الفكر والطاقات الشبابية...
والى جانب هذه التيارات الدينية هناك الحركات الصوفية.
فالتعليم الديني في الجامعات الأردنية لم يتجاوز السقف الدعوي والوعظي ليفتح في وجه الطالب أفق البحث العلمي والمنهجي في إنتاج المعرفة الدينية. لذلك ظل التدريس مخنوقا بحبل التلقين وتكرار ما قيل، مع التنفير من التفكير الجدلي والفكر النقدي. وتكريس التصلب العقدي الى حد الكراهية للتنوع والاختلاف مع الاخر من نفس الديانة، أو من ديانة أخرى. يمارس كل هذا بعيدا عن التعامل العلمي مع الأطروحات المخالفة، والرفض القاطع لأي محاولة تجديدية.والمواد التي يدرسها الطلاب محكومة بمنطلقات فكرية ضعيفة وهشة قروسطية ( دار الحرب ودار الكفر، الايمان والالحاد...) وقائمة في وجودها على أساس الخوف والقمع، حيث تعتمد في آلياتها الدينامية على الدفاع والتصدي، الشيء الذي يغرقها في ردود الفعل عوض ممارسة الفعل البحثي والعلمي من منطلقات فكرية مغايرة تقوم على الفكر النقدي والعلوم الاجتماعية القادرة على تحصين الطالب بدل رفع شعار الخائف المهزوم " الغزو الفكري أو الثقافي". والمضحك المؤلم أن يتم إغراق الطالب في عوالم امتلاك الحق المطلق، و الأفضل فكرا وثقافة ودينا وأخلاقا...، بآليات الدفاع المرضي في الانكفاء على الذات والتمركز عليها والعداء للآخر تحصينا من هوامات الغزو الثقافي. هكذا يسيج الطالب بمنظومة ناجزة ونهائية ولا تقبل السؤال والصيرورة، وهي واحدة أحادية لا تقبل التأويل والمقاربة من منظورات معرفية علمية مخالفة ومختلفة. لأن ما عداها كفر وهرطقة وإلحاد.
لقد أدت الهيمنة الارثوذكسية الدينية الى تهميش وإقصاء الأصوات النقدية والمقاربات التجديدية. وحالت دون اغتناء المناهج بالمواد العلمية والاجتماعية التي يمكن أن تفتح آفاقا معرفية ومنهجية تحليلية في وجه الطلاب/الدعاة، أو على الأقل تنمية قدراتهم المعرفية الهزيلة والمحدودة أصلا. لهذا سادت الأحادية المطلقة في امتلاك الحقيقة، والنمطية والاجترار، و الحذر من تعددية المنظورات والمقاربات، مع تغييب لمقاصد الشريعة.
و لا يختلف الحقل الديني في الكويت عما رأيناه سابقا على مستوى النزعة التقليدية السلفية بمختلف تلويناتها وتكتيكاتها في المشاركة السياسية أو عدم المشاركة المباشرة، أو في صراعها الاجتماعي السياسي مع حركة الاخوان التي لها حضورها السياسي القوي داخل المجتمع الكويتي. بالإضافة الى هذا فإن الدولة تتحكم في الحقل الديني من خلال وزارة الأوقاف. وقد قام ساري حنفي بعرض لمادة المنهاج التربوي للإخوان " زاد الأخيار" وسجل بعض الملاحظات حول هذا الكتاب، كلها تتمحور حول التجديد والوسطية. لكنأكد بأن مضامينه تنتمي الى الإسلام التقليدي، أي باعتباره دينا شاملا لكل مظاهر الحياة، و بالتالي لا مكان للوضعي القانوني أمام ما هو تشريع إلهي.وهذا يؤدي الى نسف قيم المواطنة والديمقراطية، و الاجتهاد، ومجهود العقل البشري، وكذا القول بمقاصدالشريعة. ويتقاطع هذا المنهاج مع سلفية محمد بن عبد الوهاب في الشرك الأكبر والأصغر، والولاء والبراء، في وقت استقبلت فيه الدول الغربية اللاجئين السوريين. والمنهاج يسيج وعي الناس ويحاصر عقولهم بلغة الغزو الفكري والمؤامرة ضد الإسلام. وذلك لحرمان الناس من التعرف والاستفادة مما يتيحه الشرط الحضاري الحداثي من قيم إنسانية، وانفتاح على العلوم الاجتماعية للوعي باللحظة التاريخية محليا وعالميا، وما تتطلبه من تفاعل وإبداع خلاق. وقد تميز كتاب الاخوان هذا بتبني السلمية في نشاطهم الدعوي والاجتماعي السياسي، احتراما للقوانين. ولكن هناك نوع من الانفصال النفسي والفكري بين ما يتضمنه المنهاج والواقع، حيث يورط الكتاب أتباعه في حالة من الاغتراب، والانفصال النفسي والمعرفي عن الصيرورة المجتمعية في تغيراتها السوسيولوجية، وما أنتجته من تحولات اجتماعية، في سياق تفاعل عالمي مضاء مكشوف عن آخره، لم يعد يقبل بالانحدار الزمني نحو كهوف الماضي.
في عصر الدولة الوطنية والمواطنة تحتضن كلية الشريعة في الكويت مقررات دراسية كمادة السياسة الشرعية، وهي مغرقة في التثبيت المرضي على ما حصل في الماضي فكرا وممارسة، واعتقادا ومعاملة وأخلاقا...، تبعا للسقف المحدود لثنائية دار الكفر ودار الإسلام، بسبب سطوة الحكام والتغلب القهري السياسي الاستبدادي، والخنوع والخضوع والطاعة. وبالتالي تكفير الديمقراطية وحقوق الانسان، بدعوى أنها نتاج غربي. ولجم الحرية بالنص الشرعي .ويتم تدريس أيضا فقه الجريمة والعقوبة( الحدود) وفق فهم حرفي ولا تاريخي خارج منطق التطور التاريخي البشري بسياقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهذا يعني حرمان المجتمع من المتاح الحضاري الإنساني.من خلال ضرب عرض الحائط بأخلاق باقي الديانات، باستعمال أحكام قيمية سلبية في حقهم، وحق باقي الفرق الدينية الإسلامية. وبعبارة واضحة تكاد تقول جميع المواد إن النصوص القرآنية والتراثية هي الأفضل، وتحتوي جميع المعارف والعلوم...
يتميز الحقل الديني في المغرب بالانتشار التاريخي للمذهب المالكي. وهو حقل يتحكم فيه الإسلام الرسمي للدولة، من خلال المراقبة والضبط. و العمل على إعادة هيكلته كلما رأت الدولة ضرورة في ذلك، حتى لا تفلت الأمور من يديها. لأن هناك حركات إسلامية مصطنعة، وأخرى معارضة. تتباين في وظائفها السياسية بين التأييد للدولة، والمعارضة للتوجهات الحداثية والعلمانية واليسارية. ركز ساري على حزب العدالة والتنمية مقدما عنه نظرة وسطية منفتحة وقابلة للحوار والتفاعل الحضاري مع الاخر المحلي والاجنبي. كما تناوله في بعديه السياسي كحزب، والدعوي حركة التوحيد والإصلاح. وافق ساري على الصورة التي رسمها الحزب حول نفسه والتي يقدمها للآخرين للتعرف عليه في نشأته وتطوره وممارساته الدعوية والسياسية. في الوقت الذي نعرف أن هذا الحزب تقريبا مصطنع حيث تلبس جبة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وهي حزب إداري رسمي. بعد أن أدى- العدالة والتنمية- خدماتللدولة في محاربة التيارات اليسارية بالعنف الرمزي والحركي مستخدما سلاح الدين في الاغتيال المعنوي والمادي( عمر بن جلون). ما نريد قوله إن هذا الحزب بكل ما تروجه نخبته على الواجهة السياسية والدعوية من اعتدال واحترام للقيم الحداثية في الحرية والعدالة والديمقراطية والايمان بالتعددية، كل هذا لا ينعكس في الخطاب الشعبي الذي تحرض وتكفر و تعبئ على أساسه المجتمع. هذا يعني أنه حزب مزدوج الخطاب حيث لايكفي تناوله من خلال خطاب النخبة على الواجهة الإعلامية السياسية، بل من خلال ممارسته السياسية الإعلامية الدينية وسط الطبقات والفئات الاجتماعية.وهنا يجد تساؤل حسن أوريد الذي يوافقه فيه ساري حنفيبعض الإجابة على أن الحزب ليس برغاماتيا ولا متأقلما، بل مصطنع حسب السياقات والظروف التاريخية والتغيرات السوسيولوجية، وما تفرزه من تحولات سياسية اجتماعية واقتصادية وطنيا وعالميا. فهل يمكن القول إن هذا الحزب في توجهاته التجديدية الاجتماعية والسياسية، مجرد وجه آخر للإسلام الرسمي، أي يمثل جزءا من الشرعية الدينية للدولة وواجهة لأجندتها؟ وبتعبير آخر كما قال سلمان بونعمان " الاستبداد قادر على توظيف الدين والموروث الحضاري والتقاليد والأعراف لتأبيد هيمنته، كما يستطيع توظيف نسق الحداثة وقيم التنوير والعقلانية والحريات لضمان استقرارهواستمراره"457. وهذا ما يتضح أيضا حول تأهيل الدولة للفاعل الصوفي والتحكم فيه. وتقييم دور الدولة هذا ليس انطلاقا من انتماء المغاربة الضئيل للاتجاه الصوفي، كما يستغرب ساري، بل لكون المغربي المتدين وغير الملتزم بالطقوس والشعائر يدبران حياتهما اليومية : في طلب الرزق ونماءزراعته، أو تجارته...، وفي الزواج والشفاء وفك الشر والسحر وطلب الحماية والحصانة...، من خلال العلاقة مع الاضرحة والأولياء. كما لو أننا أم المعادلة التالية: المسجد مخصص للتعبد والتدين للآخرة، بينما الاضرحة والزوايا والينابيع والكهوف...، فهي لتصريف الحياة الدنيا. قد يقسم المغربي بالله لو كان كاذبا دون ذرة خوف، لكن يستحيل أن يقسم بوليه الصالح. لذلك الدولة واعية بضرورة الضبط وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية، من خلال تجديد دماء الفاعل الصوفي. هكذا تتمكن الدولة من احتواء كل الفاعلين في الحقل الديني، وتقييدهم بشكل أو بآخر بالعمل المؤسسي، ومساعدتها في تدبير الإسلام اليومي في التأطير والسيطرة على الوعي الشعبي، من خلال ما تقوم بهذه الحركات الدينية على مستوى العمل الخيري والاجتماعي، والتعليم(الكتاتيب القرآنية) والوعظ والارشاد الديني. يشير المؤلف الى أن التعليم الديني بالمغرب تعود جذوره الى التعليم العتيق للكتاتيب القرآنية. كما أن ظاهرة التدين الشائعة بين الشباب تدفع بهم الى الانخراط في برامج الشريعة والدراسات الإسلامية. يمر ساري على هذا المعطى دون أن يقدم تفسيرا سياسيا ، اجتماعيا ، اقتصاديا، أو نفسيا.
ويتناول ساري كلية أصول الدين بجامعة عبد المالك السعدي، وكلية الشريعة بفاس بين الوسطية والاعتدال، والانفتاح على العلوم الإنسانية والاجتماعية والتسامح، وقبول التعدد، بعيدا عن التكفير، التي تميز البرامج والمناهج. حيث نجد المواد التالية: مقاصد الشريعة، الاجتهاد قديما وحديثا، و مادة الفرق والمذاهب الكلامية. وتمكين الطالب من التعامل مع الواقع في تنزيل النصوص الشرعية، والقدرة على ممارسة البحث العلمي. لكن على مستوى الواقع نجد أن إقبال الطالب على كلية أصول الدين والشريعة هو بسبب السهولة في الحصول على الدبلوم/ الشاهدة، للعمل أو الترقية بالنسبة للموظفين الذين التحقوا بالمهنة بمستوى البكالوريا. وموادها عبارة عن مطبوعات مملة تعتمد أسلوب الحفظ " بضاعتنا ردت إلينا". وكلية يعتبرها عميدها حسن الزاهر متراسا في وجه المد الشيوعي، ألن تكفر بعض المواد القريبة من العلوم الاجتماعية بذريعة أنها غربية ومادية وإلحادية وعلمانية، وتخلق انتظارات سلبية لدى الطالب بالتركيز على ما هو غير مرغوب فيه في هذه المواد ومناهجها؟ ولا يقل حذرا وشكا وريبة منهاج الدراسات العليا عما قيل سابقا حول العلوم الاجتماعية التي تؤطرها- حسب وجهة نظر المنهاج- افتراضات ميتافيزيقية وأنطولوجية غير واضحة، الى جانب تحيزات إيديولوجية.
حاول ساري أن يكون موضوعيا في عرضه لنشأة شعبة الدراسات الإسلامية، حيث أفسح المجال لجميع الآراء المختلفة والمتناقضة. لكن تنزيل الشعبة ومناقشة ولادتها يحتاج الى منظور أوسع يأخذ الصراع السياسي الاجتماعي مع النظام السياسي حيث اعتبرت الحركة الطلابية في توجهاتها اليسارية شرا ينبغي الاجهاز عليه، كما أن مفهوما للهيمنة على مستوى الوعي والثقافة تبلور في صورة إغلاق المؤسسات العلمية والثقافية المنتج للفكر النقدي بما في ذلك معهد السوسيولوجيا بالرباط، ثم جاء الإصلاح الجامعي لإغلاق شعبة الفلسفية وتعويضها بشعبة الدراسات الإسلامية. إنه سياق القضاء على العلوم الاجتماعية وكل الشعب الحية في العلوم الإنسانية. وكان نجاح الطلاب في هذه الشعبة تقريبا مائة في المائة وهذا ما أغرى الباحثين عن شهادة للعمل في المؤسسات التعليمية وغيرها للإقبال بكثرة على هذه الشعبة. فكانت هذه الشعبة أرضية خصبة لتكون التيارات الإسلامية التي اكتسحت الساحة الجامعة. حيث حاربت بمعنى الكلمة الى جانب القمع التيارات الاحتجاجية خاصة اليسارية، والفكر النقدي والقيم الحداثية. وهذا التعاون بينهما يجد بعض أسسه في مضامين الرسائل التأسيسية لبروز وتكون حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية. وهي رسائل بعث بها الأمين العام للجماعة يومئذالى وزير الداخلية لمحاربة اليسار والالحاد على حد تعبيره، وكافأته الدولة بعد هذه الخدمات بمعاش قل نظيره أخلاقيا.
استعرض ساري المناهج المقررة في هذه الشعبة حاليا بجامعة محمد الخامس، فوقف عند انفتاحها ووسطيتها الشكلية دون التجرّأ على الذهاب بعيدا في التعامل مع ضرورة الواقع اليومي في تدبير التنوع والتعدد والاختلاف بالحديث عن الديمقراطية، ودون التهجم على الفكر الغربي العلماني. وأشادة بمادة التفسير التي تقبل المخالف والمختلف بانفتاح وجدل. والامر نفسه بالنسبة لمادة مناظرة الأديان في خلق الحوار والتسامح والاحترام. وأيضا مقرر أصول الفتوى اشترط على المفتي الجمع بين علوم الشرع وعلوم العصر وفقه الواقع. وباقي المواد لها الشحنة الإسلامية نفسها في الأسلمة والتأصيل ولا علاقة لها بالعلوم الاجتماعية إلا شكليا.
وفي تناوله للأطروحات والرسائل الجامعية بكلية أصول الدين في تطوان أشار ساري الى أنها تدور بين تحقيق المخطوطات، أو دراسة سيرة أو أعمال شخصيات فقهية وعقدية. كما لاحظ جدية بعض الاطروحات كالتي أنجزتها جميلة المصلي. وهذا اتجاه قد يخلق جدل صحي داخل المجتمع كما وضحته نعيمة بنواكريم في دراستها حول تجربة الحركة النسائية المغربية.
هكذا أخيرا لا يخفي ساري حنفي إعجابه بالتعليم الشرعي الجامعي والدراسات الإسلامية بالمغرب، بناء على وسطيته وانفتاحه على فقه الواقع. وأن الدروس التي تميز الدراسات العليا جديرة بالتقدير في جرأتها على تحقيق نوع من التفاعل بين علوم الشرع و العلوم الاجتماعية. ويشير أيضا الى بعض العوائق التي تصعّب عملية التفاعل بينهما. إنها عوائق متجذرة في الواقع الاجتماعي التاريخي وما ميزه من صراع سياسي بين قوى التغيير وقوى مناهضة للتغيير. الشيء الذي رسخ نوعا من الحذر والاستعلاء الديني والمعرفي والسياسي في العلاقات الاجتماعية، وتجاه القوى الحداثية. بالإضافة الى عائق الاستبداد السياسي الذي تحكم في البعد النقدي في المعرفة الدينية والاجتماعية، الى حد هدر الفكر العلمي و النقدي.
لعبت في الجزائر عوامل كثيرة – الاستعمار وطبيعة النظام السياسي- دورا كبيرا في نشأة وتطور الحقل الديني باتجاه سيطرة السلفية الوهابية في بلد عرف بالمذهب المالكي والعقيدة الاشعرية. وهي سيطرة شملت الطلاب وأغلب هيئة التدريس، بسبب هشاشة المؤسسات والكفاءات الرسمية. فكلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر تعرف سطوة التقليد، مع تطفل أساتذة الأقسام الشرعية على تدريس العلوم الاجتماعية التي تنظر إليها العلوم الإسلامية نظرة إنقاص وازدراء. معتبرة نفسها أشرف العلوم، وهذا ما جعل أساتذة كلية العلوم الإسلامية يعتمدون مصادر المعرفة الدينية نفسها، متبعين مقاربة تكرارية نمطية محكومة بالثوابت التي تعيق عملية الوصل بين الحاضر العلماني، و الغائب الديني. وحتى مادة مقاصد الشريعة تظل محدودة في منهجيتها. وهذا ما يظهر بوضوح في مذكرات الماجستير وأطروحات الدكتوراه، التي تختزل سؤال المنهج والمنهجية في مجموعة من الخطوات التقنية، والعرض والجمع، لا البحث والفهم والتحليل، في اختلاف كبير عما هو سائد في كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما أنها مسكونة بهاجس إبراز المرجعية الدينية، وهي تعتقد في القيمة المعرفية والدينية لابن تيمية.وهاجسها سلطوي، عينها على السيطرة والهيمنة والسلطة والسيادة. وغارقة في قداسة التراث تجتره دون شعور بالتقزز والغثيان من الدوار الأبدي في محراب ما قيل. خانقة نفسها العلمي في المبحث اللغوي والاصطلاحي، بعيدا عن المراجع الأجنبية، نتيجة عدم تمكنها من اللغات الأجنبية، واعتقادها أن تراثها الديني والفكري يحتوي أفضل الفكر والعلم دينا ودنيا. هكذا هي هذه العلوم الإسلامية في أطروحاتها ومذكراتها ومجلاتها لا تقوى على الخروج عن دائرة حديث الكتب عن الكتب الى الواقع المجتمعي وملامسته، وممارسة البحث العلمي في قضاياه وظواهره ومشكلاته، بما يسمح بنوع من التكامل المعرفي المتعدد التخصصات، من خلال مد الجسور مع العلوم الاجتماعية عوض النظر إليها على أنها علوم مؤدية الى الإلحاد، وهي بذلك تناقض المنهج المقاصدي الذي تزعم الكلية أنها تدرسه، لكنها لا تختلف عن الأفكار السلفية التي يتشبع بها الاساتذة.
بينما تميزت جامعة الأمير عبد القادر في برامجها ومقرراتها الدراسية بتبني نوعا من التكامل بين التخصصات، والانفتاح بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية والإنسانية ضعيف، كإنتاج معرفي علمي يفتقر الى أدوات البحث العلمي لفحص الواقع الحي وتحليله. إلا أن بعض المقالات التي تضمنتها المجلات المحكمة التي تصدرها الجامعة تتميز بالانفتاح على المعارف واعتماد الأسلوب العلمي في التناول، في حضور بارز للعلوم الاجتماعية. وعلى العمومفالكلية تسعى الى تكوين طلابها تبعا لضرورات العصر، رغبة في التكامل المعرفي، بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، هذا التكامل الذي ظل متفاوت الترسيخ على مستوى الإنتاج العلمي الذي يسيطر فيه المكون الديني التقليدي كمقاربة ومصدراللمعرفة.
يستعرض ساري حنفي نماذج رائدة لكليات الدراسات الإسلامية في كل من قطر والمغرب، فيرى أنها تربط بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية بشكل مبدع وخلاق. وقد تأتى له هذا الحكم من خلال اطلاعه على مناهجها وبرامجها، ومختلف المقررات الدراسية المتعددة التخصصات التي تلتزمها في التدريس والبحث، تبعا " لبراديغم جديد لربط الدين – لا بوصفه تشريعا، بل بوصفه أخلاقا- بالعلوم الاجتماعية."579 لذلك تعتبر كلية الدراسات الإسلامية نفسها جزءا من العلوم الإنسانية والاجتماعية. حيث تنفتح وفق مقاربة مقاصدية على الكوني باعتماد برامج قوية، مكنتها من الاهتمام بالدراسات المقارنة، الى جانب تمتعها بهيئة تدريس مرموقة قادرة على إنتاج معرفي متميز. ويعتبر برنامج الاخلاق التطبيقية الإسلامية من بين برامجها القوية الذي منحها تميزا نوعيا عن كليات الشريعة التقليدية التي تخنق سقفها المعرفي ورؤيتها الكونية، باعتماد الفقه أرضية للبناء. لهذا اهتمت كلية الدراسات الإسلامية في قطر بالدرجة الرئيسية بالأخلاق الإسلامية في حقول المعرفة الإسلامية المختلفة، وكيفية تناولها للقضايا المعاصرة، وتفاعلاتها مع الأخلاقية الغربية. كما تتميز هذه الكلية على مستوى برامجها الدراسية التي تمكن الطالب من تكوين علمي متين يربط بين المعارف الإسلامية وتحديات المجتمع الحديث. مع تعلمه المهارات البحثية في التعامل مع مصادر ومناهج البحث، في الدراسات الإسلامية في ارتباط مع الواقع وانفتاح على المعرفة الإنسانية في مختلف التخصصات من فن العمارة الى الاقتصاد.
وللكلية مجموعة من المراكز أهمها مركزدراسات التشريع الإسلامي والأخلاق الذي يسعى الى الموازنة بين الاطار الشرعي الفقهي والآفاق الأخلاقية، وفهم العلاقة بينهما، من خلال من منهج تركيبي تنتجه العلاقة الجدلية التفاعلية بين علماء النص وعلماء السياق، أي يجمع جماعة علمية من باحثين بخلفيات معرفية علمية مختلفة تتبادل الأفكار وتتفاعل في سيرورة إنتاجها المعرفة المشتركة بنوع من التكامل المتعدد التخصصات.
وقداحتضنت الكلية عددا مهما من الأطروحات بموضوعات تهتم بقضايا معاصرة، وذات مستوى معرفي علمي عال جدا لا يماثله في الجدية إلا ما ينتج في دار الحديث الحسنية بالرباط. وهذا ما يؤهل الطلاب لإنهاء الدكتوراه في دول مرموقة في العلوم الاجتماعية وعلوم الأديان...، لكن هذا المنهج المتعدد التخصصات ليس وحده في الكلية، بل تحتضن أيضا تصورات مختلفة تتراوح بين جدلية الانغلاق والانفتاح حول مسألة التراث والحداثة، وهي جدلية تعكس الكثير من التوترات والتحديات التي تعيشها الكلية.
ويقدم ساري تلخيصا مقتضبا حول مؤسسة دار الحديث الحسنية، مركزا على طبيعة المناهج التي تعتمدها وفق مقاربة مقاصد الشريعة، حيث لا حديث إلا عن النوازل و المآلات والواقع. هذا في علوم الشرع، أما المواد الأخرى فتشمل اللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية. وإنتاجها المعرفي على مستوى أطروحات الماجستير والدكتوراه لا يختلف عن الكتابة الاكاديمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، على مستوى المنهج والموضوع.
وأيضا من ضمن النماذج الرائدة التي تناولها ساري حنفي في كتابه الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، حيث كانت البداية الأولى لمحاولة الجمع بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، من خلال تجربة أسلمة المعرفة الإنسانية، أي ما يعني عندهم المنظور الإسلامي، أو تكامل المعرفة. وكان وراء هذه التجربة كل من محمد العطاس على مستوى "إصلاح الفكر من خلال تأسيس النظرة الإسلامية". وإسماعيل الفاروقي الذي بلور من خلال دمج القيم الاسلامية منهجا أكثر جدلية و تفاعلا مع المعرفة الإنسانية. وقد ركز ساري على كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية التي تضم أقسام علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، بما يسمح للطلاب بالتكوين المزدوج في كلا الاختصاصين واحد رئيسي والأخر ثانوي.
و رغم انفتاح الجامعة الإسلامية العالمية على البلدان الأخرى واحتضانها للعلماء الأجانب، فإن ظروف العمل صعبة لا تساعد على البحث العلمي، خاصة بالنسبة للأجانب الذي يعيشون ظروفا تمييزية مشحونة بعدم الاستقرار. وفي برامجها وموادها الدراسية تتراوح بين مواد تقليدية وقليلة التكامل،إلى تكامل أساسي. كما نجد أخرى تحمل في محتواها منظورا إسلاميا واضحا. وهذا ما يظهر جليا في الكتب المدرسية التي تعالج الرؤية الكونية الإسلامية. فرغم اعترافها بجهود العلماء الغربيين، فإنها ترفض وجهة نظر الغرب. وهناك كتب مخصصة للأخلاق والفقه في الحياة اليومية في ارتباط بالقضايا المعاصرة، إلا أنها غير أكاديمية وبعيدة عن الجدل العلمي.الى جانب هذا نجد كتبا تقدم المنظور الإسلامي لعلم الاجتماع والانثروبولوجيا، وذلك من زاوية أسلمة المعرفة الإنسانية. والكتاب المثير للاهتمام والتفكير هو الذي يخص العلاقة بين مقاصد الشريعة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، لتأسيس نظام اقتصادي ومالي إسلامي، قصد تنمية بشرية شاملة. وأشار ساري في تناوله لبعض أطروحات الماجستير والدكتوراه الى اهتمامها بالقضايا المعاصر من منظور إسلامي أخلاقي يسعى الى إنتاج معرفة محلية لفهم السلوك البشري والعلاقات الاجتماعية. إلا أنها تغيب الاجتهاد ومقاصد الشريعة حين يتعلق الامر بالشريعة الإسلامية والفقه. هكذا تواجه عملية مد الجسور بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية تحديات عويصة.كما أن الأخذ برؤية منهجية متعددة التخصصات، هذه التعددية تظل مشروطة بأنظمة ديمقراطية تقوي مناعة العلاقة بين المجتمع والوسط الأكاديمي.
والفصل الثالث عشر خصصه ساري لكليات الشريعة كواقع لعلاقة النفي والعداء، الى حد التكفير، السائدة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وفق برامج ومناهج تقليدية ماضوية، محدودة السقف وضيقة الرؤية، وأنماط تفكير يؤطرها حديث الكتب عن الكتب التراثية، بعيدا عن الواقع وما يفرضه من ضروريات إعمال عقل.كما تسود أيضا علاقات بيداغوجية وتربوية يسيطر فيها التحكم القهري، حيث المناقشة والسؤال محط اتهام وريبة،مع اغتيال للعقل بشروحات، وتلفيقات، وملخصات ما سطره السلف الصالح فيما وصفناه بحديث الكتب عن الكتب. في رفض للمعارف التي تختلف عن مرجعيات ومصادر المعرفة الدينية، مع تغليب النقل على العقل. وقلة من المدرسين الباحثين من يرفضون تسييج العقل بالمقدس البشري الذي سطره القدماء والسلف. ولهم طموحات ووعي ضرورة الإلمام بالعلوم الاجتماعية لفهم الواقع وما يفرضه من مشكال وتحديات ومخاطر، وكيف يمكن الاستفادة من فرص تعدد التخصصات، وعيش التعددية على المستوى الكوني، وليس فقط محليا. لكن كل ذلك التحجر والجمود والتصلب العقلي والمعرفي، في أغلبه، يصاب بنوع من الصد المعرفي، والضحالة الاكاديمية في بحوث الماجستير والدكتوراه. وإزاءهذا التكلس ترتفع بعض الأصوات النقدية لإعادة صياغة التعليم الديني بما يناسب الواقع الحي للمسلم المعاصر.
وفي خاتمة الكتاب يطرح ساري بدائل منهجية في ربط علوم الشرع بالعلوم الاجتماعية، ممهدا لذلك بأسئلة وأفكار تشتغل كمسوغات للوعي باللحظة التاريخية المعاصرة وما تعرفه من تحولات وصيرورة مفتوحة النهايات، ولاتقبل غير التعددية في المقاربة والرؤية، واتساع المنظور لرؤية كل الوجوه التفاعلية بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، التي لم تتجاوز في تطور سيرورتها جدل النفي الى جدل التكامل المتعدد التخصصات. إنها أسئلة لا تخلو من توترات القلق النقدي للعلوم الاجتماعي المغيبة- الى حد ما- للمستويات السياسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية... التي يمكن أن تفجر أسئلة أكثر جذرية مما طرحته مضامين الكتاب، في مجتمعات يكن الاستبداد عداء لهذا الانفتاح الأصيل والأخلاقي والمعرفي بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، حيث من الصعب فيها" على العقل والفلسفة محاولة حل التناقضات والمعضلات المطروحة على البحث"697. والامر لا يتعلق بتكامل المعارف، بقدر ما يتطلب كمقاربة أولى جهدا كبير في التبيئة، أي إعادة إنتاج تلك المفاهيم والمبادئ بما يسمح بتكون وتطور سيرورة الفصل والوصل، ذات الأفق الاتساقي، بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، بعيدا عن إبستمولوجيات هوياتية، في عالم تعددي ما بعد علماني، لم يعد ينظر، أو يفكر بطريقة ثقافوية الى الدين كشر وتخلف شرس ومتوحش ينبغي استئصاله. بقدر ما يعترف به كنمط تفكير وجودي، وأسلوب حياتي، ورؤية للعالم ذات معنى أنساني. من ضرورة تفاعل الرؤى ووجهات النظر.
ويمكن أيضا تجاوز حالةالاختلال بين علم أصول الفقه والمقاصد، من خلال المقاربة الثانية المنهجية المقاصدية التي تتطلب تكوينا مزدوجا يجمع بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، كما هو حاضر في كتاب عبد الله الكيلاني في كتابه: السياسة الشرعية مدخل الى تجديد الخطاب الإسلامي. وذلك لتجاوز الانكفاء على الذات في حدودها وخصوصيتها. وتبعا للمنهجية المقاصدية قامت الجامعات العربية بإنتاج معرفي متميز على مستوى بحوث الماجستير والدكتوراه..
بينما تهتم المقاربة الثالثة بالمستوى الأخلاقي في الشريعة والعلم، أي جعل الاخلاق بمثابة روح الدين يعضدها الفقه والتشريع. فواقع التعددية استلزم براديغم مد جسور التفاعل والتعاون بين العلوم الاجتماعية و علوم الشرع بوصفها أخلاقا ناظمة للعلاقات البشرية. وهذا يعني الانتقال من جدل النفي الى جدل تكامل التفكر في الفكر الديني والفلسفة. حيث تأخذ كل أبعاد الفلسفة الأخلاقية قيمتها: الانثروبولوجية والسوسيولوجية...، في أية قراءة تأويلية للنصوص الدينية.
اليوم يمكن القول إن هناك نوع من التلازم البنيوي بين الاخلاق والقانون. يفسد مشاعرنا وقلوبنا المافة والرحبة في وجه معاناة الاخرين مهما كانت المسافات غير العنف السياسي والديني الاستبدادي، أو الوجه الاخر للديمقراطية الغربية الذي تأسس بحكم وحدة التاريخ العالمي للتراكم الرأسمالي والنيولبيرالي على أنقاض الانسان في مجتمعات الجنوب،و لا يخجل أن يستثمر في خصوصية وحميمية ووجدان الانسان، وفي كلما يخص القيمة الإنسانية.
وليس غريبا أن يكون الدين أخلاقيا، إذ هو ينطلق من ضعف وهشاشة الانسان، ومن غروره وتوحشه الزائد. فمهما فتحت له الحياة ذراعيها في الحرية والمسؤولية، فهو في أمس الحاجة الى وازع داخلي أخلاقي، مهما كان مصدره ديني أو غير ديني، ينمي ذكاء الانفعال الاجتماعي في القدرة على الاحساسبآلام ومعاناة الاخرين، وفي قبول وتقبل والاعتراف بهم حماية للتعددية وثرائها الاجتماعي الإنساني، في إطار أخلاقية/إتيقية جدل الاقتناع والمسؤولية، والعدل والرحمة...
وهذا لن يتأتى إلا من خلال بناء الانسان في شخصيته وذهنيته، وعلى المستوى الوجداني، و العقلي والاجتماعي، وتزويده بأدوات وآليات الفكر النقدي القادر على الفهم والمعالجة والتحليل والنقد والغربلة بدل الرهان الاستبدادي على التخويف والخوف من التغيير والتنوع والاختلاف، وكل ثراء قيم التعددية الإنسانية. وهذا ما يمكن أن يحققه مد جسور التفاعل الجدلي بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية.
ثانيا : حرقة الأسئلة التي تلازم سيرورة القراءة
يضع ساري حنفي بين يدي القارئ الكثير من المعطيات النظرية والميدانية المتعلقة بواقع علوم الشرع، في تكون وتطور سيرورتها التاريخية من الجوامع الى الجامعات. محاولا تجميع معطيات الازمة والانسدادات التي وقفت في وجه تطور هذه العلوم بالشكل الذي يجعلها في مستوى وعي اللحظة التاريخية والحضور الوازن والفاعل علميا وفكريا، وسياسيا وأخلاقيا وحضاريا في الشرط الحضاري الحديث والمعاصر، عوض الإصرار على الممارسة المرضية في إنكار الواقع الحي الذي يتجاوز الأوهام الضيقة التي يتحصن وراءها الفاعل الديني الرسمي ، وغير الرسمي،الاكاديمي، وطبقة العلماء. يتناول ساري الحقل الديني وما يحتضنه من أشكال التدين في علاقاتها المعقدة بالاجتماعي والسياسي. بما في ذلك الفتاوى وخطب الجمعة. مبينا حدود ومحدودية بعض المشاريع التجديدية كأسلمة المعرفة، وما ميز بعضها الاخر من محاولات جدية في التكامل المعرفي.
ففي الفصول التي خصصها ساري للتعليم الشرعي في المشرق والمغرب يقف القارئ على مادة معرفية علمية مثيرة للتفكير والتساؤلات النقدية، بسبب الثراء المنهجي والتحليلي. وهو يمارس بذلك بناء موضوعه وصوغ إشكالاته، التي تسمح بوضع لبنة في البحث العلمي نحو تجاوز القطيعة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. لهذا يعرض الحقل الديني العربي في شروطه التاريخية الاجتماعية والسياسية، ومستوى التطور المعرفي الذي واكب البنى الاجتماعية الاقتصادية. واقفا عند مختلف أدبيات وممارسات الجماعات والتيارات والحركات الإسلامية من الاخوانية، الإصلاحية ، الاحيائية والسلفية المرنة والمتطرفة. كما يأتي بشكل دقيق ومفصل على المناهج والبرامج التي احتضنتها الجامعات و كليات الشريعة بمختلف أسمائها. وأمام هذه المعطيات يجد القارئ المهتم والنقدي نفسه أمام أسئلة كثيرة تبلورها سيرورة القراءة، خاصة وأن ساري حنفي يقدم هو أيضا أحيانا بعض الملاحظات النقدية. هكذا يتساءل القارئ إزاء ما يطرح من عرض تحليلي واقعي ومعرفي وعلمي لواقع علوم الشرع ، اذا كانت الأنظمة السياسية تتجاوز دساتيرها البراقة والساحرة وتعطل ممارستها السياسية كل الإصلاحات والمؤسسات الحداثية، فكيف يمكن للنماذج الرائدة التي يقدمها ساري في المغرب أو في قطر أن تفلت من المراقبة والتجاوز السياسي؟ وهو ما ثبت بالملموس في كل ما تناوله المؤلف حول مختلف الحركات والنخبة الإسلامية في قربها أو ابتعادها من السلطة. كما أن انطباعا يتسرب الى ذهن القارئ حول خطورة التناول المنهجي للموضوع، حيث يكاد أن يكون ثقافويا مفصولا عن العلوم الاجتماعية، أي عن ترابطات كثيرة يسمح التحليل الشامل بطرحها خاصة على المستوى العلوم السياسية وعلم التاريخ في منهجياته النقدية، بما يوضح أن القطيعة في مستواها الرئيسي بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية سياسية لصيقة بالقهر والتسلط والاستبداد السياسي الذي فرض الواحدية والأحادية المطلقة، التي لا شريك لها، في النظرة والتفكير والعلاقات الاجتماعية. واعتبر- الاستبداد- التنوع والتعدد المعرفي والفكري والاعتقادي، وكل ما له ارتباط بالفكر النقدي والتفكير العلمي العقلاني، وما يمت بصلة إلى العلوم الاجتماعية، والخلفيات المعرفية للمقاربات والمنهجيات النقدية الحديثة، شرا من حصة الشيطان. هذا المعطى الصريح والمرتبط بطبيعة أنظمة الاستبداد، أو قل الطغيان السياسي العربي، هو الذي يمكن أن يجيب على أسئلة محمد عبده، وعلى تساؤل ساري حنفي" ولعل أسئلة إصلاح التعليم الشرعي التي أرقت الشيخ محمد عبده في بداية القرن الماضي لم تختلف كثيرا عن أسئلة اليوم. وهنا أتساءل: هل المادة المعرفية لهذه المعاهد والجامعات تصلح لشباب اليوم الذي يمتلكون بصيرة عميقة للتدبر والنقاش الفكري والسياسي، والذين هم مؤهلون لخوض غمار الفعل الاجتماعي والسياسي على قاعدة الإنتاجية الخلاقة، والبحث عن أفق اجتماعي رحب وغنيبالعدل والديمقراطية؟ وهل المادة تصلح لشباب أثرت فيه الانتفاضات العربية، وأغواهم التغيير الديمقراطي والاجتماعي؟ وهل هذه المادة تولد العقل السجالي الذي بشر به غاستون باشلار في مواجهة العقل التكديسي حسب تعبير المفكر الجزائري مالك؟ هذا العقل السجالي الذي يعترف بوجود الآخر داخل التراث والذي يسعى الى محاورته على أسس علمية واضحة، تتيح عملية الأخذ والرد وحسن الإصغاء ثم دحض الحجة بالحجة وتقويم البرهان بالبرهان."321 هكذا يتبين لنا بوضوح كامل سر القطيعة المدبرة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. وأنه في غياب سيرورة تغيير اجتماعي سياسي وطني وديمقراطي وحداثي، فلا يمكننا الحديث إلا عن جزر أو بؤر رائدة ونموذجية معزولة عن سياقات البنى الثقافية والاجتماعية التي تهيمن وتسيطر فيها البنى السياسية الاستبدادية التي من مصلحتها تكريس وتأبيد القطيعة، لمعاودة إنتاج العقل الجمعي المحافظ والغارق في التقليد، واجترار النقل الماضوي المسؤول عن سيادة العقل التكديسي. لأن من هذا الموروث الثقافي والديني، المشبع بثقافة التسلط، والتحكم القهري، وبمفاهيم الطاعة والخنوع والخضوع والعبودية، يؤسس الاستبداد بنى وجوده السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.وهذه السيطرة السياسية للأنظمة تجعل من طبقة العلماء التقليدية وجها آخر للنظام في عنفه التسلطي مهما كانت معارضتها للنظام وانضمامها للاحتجاجات والمعارضة المدنية أو العسكرية، فإنها تعيد إنتاج الشمولية القهرية نفسها، لذلك لاجدوى من الآمال المعلقة على مثل هؤلاء الخرجين وأساتذة كليات الشريعة التي تناصب العلوم الاجتماعية العداء الوجودي." وهو ما يظهر أهمية العامل السياسي في مآلات الاستخدام الأيديولوجي للدين. وكما تستخدم المعارضة الدين لأغراضها التعبوية التنظيمية يستمر النظام في تدجين المؤسسة الدينية لمصلحته... فالنظام السوري لاينظر الى العلمانية ولا الى نقيضها إلا بمقدار ما تتيح له من تكريس أدوات السيطرة والتحكم في المجتمع السوري ومقدراته العامة."323و324 هذه هي السياقات التي كان من الضروري أن تتعمق فيها الأسئلة حول أسباب هذا التجذر التاريخي والاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي للقطيعة، والعداء تجاه الشك والسؤال النقدي، والاجتهاد الفكري العقلي، بعيدا عن طابو الموروث البشري الذي تلبس وجه القداسة المفارق للتاريخ وانتظام الاجتماع الانساني، سواء من طرف التسلط الديني لطبقة العلماء، أو التسلط السياسي. ورغم ما بينهما من تعارض وتناحر، فلهما وجه واحد في القهر والانغلاق والشمولية الأحادية التسلطية، المانعة للتعددية السياسية والفكرية والدينية، والاختلاف والتنوع الاجتماعي والثقافي. وهذا التحالف الجهنمي، بينهما غالبا، هو أكبر عقبة في وجه الإصلاح الديني، وانفتاح علوم الشرع على العلوم الاجتماعية. ويظهر ذلك بشكل جلي في المناهج والمقررات والمواد التي تدرس بكليات الشريعة والدراسات الإسلامية. " مثل مادة السياسة الشرعية – تُنظّر بشكل واع أو غير واع لما نادت به الدولة الإسلامية( داعش)، وهذا لا يتعلق بمساق ما في هذه الجامعة فقط، ولكن بمساقات كثيرة يمكن أن نجدها في دول مثل السعودية أو مصر أو سوريا."439 وفي ظل هكذا واقع يسوده التجريم السياسي والتحريم الديني، ينتشر الفكر التلقيني التكفيري، ويتقوى التعصب والتطرف. " إذن نحن أمام مأزق فكري عميق في مناهج بعض كليات الشريعة، حيث لم تعد تطلع على الفكر الإنساني ولا على التراث الإسلامي المتعدد المتسامح من علماء وفقهاء من أمثال الشاطبي والغزالي و ابن رشد ولا على الأدبيات المعاصرة لفكر الواقع."426
وإذا كان ساري ينتقد- وهو محق في ذلك- التعامل الأيديولوجي مع التراث العربي الإسلامي، مثلا في مادة علم الاجتماع الديني التي تجعل ابن خلدون ومالك بن نبي، حول موضوع التغيير الاجتماعي، أقرب الى رؤية الشريعة الإسلامية للتغيير الاجتماعي، فإن ساري أيضا يمارس هذا التعامل الانتقائي لنصوص ابن خلدون بمعزل عن خلفياتها الابستمولوجية والدينية المعادية للتعددية الفكرية الى حد التكفير والاقصاء لما يسميه- ابن خلدون- أهل البدع والأهواء(المعتزلة). ففي الصفحة نفسها682 يتنازع ساري مع التيار المحافظ التكفيري681 نصوص ابن خلدون المعزولة والمبتورة عن مضمراتها وسياقاتها المعرفية الدينية والابستمولوجية المكفرة للآخر من أهل البدع والأهواء، رافضا- ابن خلدون- حقهم في الوجود الفكري والاجتماعي. هكذا يسقط ساري حنفي في نوع من التعامل المزدوج الذي يكرس التوظيف الأيديولوجي الذي يجتر التلفيق المنهجي المناقض كليا للعلوم الاجتماعية في تناولها المنهجي للموضوعات والمشكلات، ويشارك هذا التيار العملية الانتقائية نفسها دون حذر منهجي.
ونستغرب إشارة ساري الى المجهود الأخلاقي الذي يبذله طه عبد الرحمن. حيث نلاحظ في كتبه أن مايطرحه من أفكار وهميّة في الاتساع، هي ليست أكثر من اختيار أحادي صراطي بين الإسلام والطّاغوت، تحت شعار من ليس منا فهو عدونا، أو بتعبير أدقّ من ليس مني كبنيّة فكريّة، فهو من عبدة الطّاغوت، والكفر والإلحاد. فكلّ هذه الأوصاف القدحيّة الملعونة بالفطرة والتّشهيد، وكلّ آليات التّنزيل للعالم الغيبيّ في العالم المرئي على حدّ تعبير طه عبد الرّحمن ، تجمعها وتجسدها في نظره العلمانيّة كشر شيطاني طاغوتي يجب سحقه والتّخلص من أسسه الخصبة الّتي تولدها السّياسيّة كأساس تملكي ينتج نزعة التّملك السّلطوي المؤدّي إلى الاستبداد والطّغيان والتّعبد للطّاغوت. مجرّد مبرّرات إيديولوجيّة لا علاقة لها بالفكر والتّفكير، بل تشتغل في أفق إنتاج آليات إيقاف التّفكير وهي تتوهّم نفسها أنّها وحيا منزلا يكفر بالسّياسة باعتبارها جاهليّة مولدة للطّغيان والتّعبد للطّاغوت. إنّه تهجم عدواني للتّأسيس لشرعيّة الحاكميّة والسّلطة الإلهيّة، وهي تؤسّس لقرية روحيّة لأتباعها يسميها “حيزات بلا دولة”، أي لعبيدها على هامش الإنسانيّة. وتكريس الجماعة والفرقة العبوديّة وفق منطق الملّة الّتي لا يزيغ عنها إلاّ هالك، في زمن ما بعد الملّة. والأخطر من ذلك أنّها تسعى للقضاء على إمكانيّة إنسانيّة الإنسان في أن يكون فردا حرّا مستقلّا قادرا على التّفكير والسّؤال والاختيار لنفسه وهويّته وإيمانه.
انطلاقا مثلا من عنوان كتابه (روح الدين) وعبر صفحاته الّتي تتجاوز الخمسة مائة صفحة ينصب المؤلّف فخاخه ليصطاد المتعبين الّذين أرهقهم عبء المتخيّل الدينيّ التّاريخي الموروث كالشّفرة الوراثيّة من خلال آليّة القصص الدينيّ الأسطوريّ المسيّج بالقداسة الإلهيّة. يوهم قارئه بأنّه المنقذ من الضّلال والتّعبد للطّاغوت المتجسّد في العلمانيّة كنظام سياسي يمثّل سطوة النّفس واستبدادها إلى حدّ الطّغيان المولّد للطّاغوت الممانع والقاهر للرّوح في قمع بروز انطلاقها الرّحب الواسع في عالم الملكوت الغيبيّ منزّلا في العالم الأرضيّ المرئيّ.” باعث الفاعل السّياسي على العمل هو نقيض الباعث الّذي يدعو الفاعل الديني إلى العمل، فهذا باعثه حبّ التّعبد، وذاك باعثه حبّ التّسيّد، وما هذا الفرق التّقابلي بين الباعثين إلّا أن الفاعل الديني يستمدّ حبّه للتّعبد من الذّاكرة الفطريّة الّتي أودعت في روحه وهو في عالم الغيب، ملاحظا تنزّل هذا العالم على عالمه المرئي، أمّا الفاعل السّياسي، فإنّه يستمدّ حبّه للتسيّد من نفسه الّتي تكوّنت في عالم الشّهادة، والّتي قد تخالف نوازعها معاني الفطرة، إن نقضا لها أو حرفا عنها، طامعا في تنزّه عالمه المرئيّ.”94 كتاب روح الدّين لا يتستّر في خطابه على عدوانيّة شرسة في حقّ كينونة وصيرورة الإنسان في نشأته وتكوّنه وتطوّره، في تحوّلاته وثوراته، في الانطلاق بما يسمح به الفعل الخلاّق المبدع للعقل الإنسانيّ. يجرّد روح الدّين الأفراد والجماعات والمجتمعات من أرضيتها الماديّة الحيّة في صراعاتها السّياسيّة الاجتماعيّة ليحوّلها إلى قطيع من العبيد، أي مجرّد جثث بأقنعة دينيّة فاقدة لقيمتها وحصانتها الإنسانيّة غارقة في عوالم هلاوس العروج والتّرفع عن كلّ أشكال الفعل السّياسي، باعتباره من تسلّط النّفس النّاسبة والنّزاعة نحو تحقيق سيادة الإنسان كشرك طاغوتي يتماهى مع السّيادة الإلهيّة. فكيف يمكن لمثل هذا الفكر أن ينتج مشاعر وعواطف واقتناعات ومسؤوليات أخلاقية تجاه الاخر الذي في نظره يتعبد للطاغوت، أي العلمانية؟ وهل سنحس أخلاقيا بآلام ومعاناة الاخرين ونحن نعيش تصورات ومعتقدات وأفكار حدية: الإسلام ضد الطاغوت، أم ستأخذنا فرحة غضب الله المسلط على أهل الطاغوت؟
هذه الملاحظات أو الانطباعات لا تقلل من القيمة العلمية لكتاب ساري حنفي، بل ما كان لي لأسجلها لولا الثراء المعرفي والعلمي الذي ميزه. والفضل كبير لهذا الكتاب علي وهو يفتح نافذة أمل لتجاوز الانغلاق والاحادية وصراعات الحقيقة المطلقة سواء من طرف الاسلامين أو العلمانيين، للوعي بضرورة التنوع والتعدد والاختلاف المُنمي للذات والآخر. هذا الكتاب راهني للوعي بضرورة التعدد في إطار التماسك قصد بناء المشترك المحلي والاسهام بفعالية في المشترك العالمي الانساني. والمقاربة المنهجية البديلة التي يطرحها المؤلف في الفصل والوصل تسمح بمد الجسور بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية.
الهوامش

ساري حنفي علوم الشرع والعلوم الاجتماعية نحو تجاوز القطيعة( أليس الصبح بقريب)
الناشر مركز نهوض للدراسات والبحوث الطبعة الأولى2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى