غزيرا كماء القرب يتساقط المطر في شارع المهدي بن بركة .. تهتزّ المدينة محتضنة طقوسها العربيديّة، و نساءها الفاتنات، و تجارها العباقرة.
يتراجع منكسرا .. يحتضن أمتعته الخفيفة من أوراق الجرائد والخرق البالية، ثمّ يفترش مدخل البناية الشاهقة.. يرحب المتسولون به .. يقدّمون له نصف رغيف، وحبّات متعفّنة من تمر ( شفشاون)، أشهى تمور العالم، وأغلاها ثمنا. يحمد الله ، و يشكره ألف مرّة .. يا باري النسمة، يا فالق الحبّة .. يا أكبر من كل كبير.. يا قابض مفاتيح الغيب.. يا مطعم النمل.. يا ساقي الإبل، يا ملكا في أبّهته وسلطانه، أشملني برحمتك .
مطر السماء يخفّ رويدا.. ثمّة بقية قطرات تنقر واقيات بوتيكات النساء الملوّنة. يخرج من مخبئه.. يتأمّل الشارع. ما أجمل المطر في ساعة متأخّرة كهذه! يدندن مقطعا أندلسيا حزينا، ويغني لأجداده الميامين الذين عبروا إلى ( بواتيه وأليكانت و جبل طارق).. خذوني معكم ، أنسج لكم طواقي مزركشة، وأجلُ الصدأ عن سيوفكم.
من تداعياته الهادئة الحزينة تخرجه قشعريرة أصابع قدميه، فينزع الحذاء، و يقطع الشارع وحيدا. كم يبدو هذا الشارع أليفا على الرغم من الضباب و الأشباح، و رجال البوليس الذين يزرعونه كلما شاهدت زوجة باشا المدينة كابوسا خانقا!.
هي ذي الليلة ترسل عسكرها ليؤدّبوا الليل الذي أرّقها، ويقبضوا على الذين لم يتقيدوا بقانون منع التجول.
يهبط العسكر من سياراتهم المصفّحة .. يحيطون به.. يحاصرونه بهراواتهم الأمريكية السوداء.
ـــ بطاقة تعريفك؟
ـــ لا أملك، فقدتها.
ترنّ الصفعة الفولاذيّة عاصفة بوجهه الشاحب.. تتماوج مع قطرات المطر الخفيفة.
ـــ ماذا تفعل يا بن الداشرة في هذه الساعة المتأخّرة؟
ـــ أمارس هوايتي.. التسكع . أنا أعشق التسكع في مثل هذه الآونة.. أعتقد أني أملك هذه الحريّة في ظلّ دولة مولانا الباشا العملاقة، و عراقة قوانينه الديمقراطية. لا يحقّ لكم أن تحرموني من هذا الحقّ.
ركلة .. ركلتان.. عشر .. مائة ترفسه، فيتطوّح وسط طين الشارع.
ــ بعد الثانية عشرة ليلا يمنع التجوّل.. ألم تسمع بالقوانين؟ لماذا لا تذهب إلى زوجتك و أولادك؟؟.
ــ وبيتك.. كيف تترك بيتك.. أيترك عاقل منزله الدافئ في ليل ديسمبر هذا؟
ــ بيتي تحت سلم تلك البناية.
ــ أنت سارق و سفّاح، وقاطع طريق.. أنت الذي تخيف النساء و الأطفال، و تفسد طمأنينة سكان البنايات. أخبارك وصلتنا..
يقيّدون يديه بسلاسل نحاسيّة مستديرة، و يقذفون به راكلين إلى جوف السيارة.
في سجن المدينة المركزيّ الليل رطب و موحش و طويل.. رطوبة الزنزانة تنخر أضلاعه. يغمض عينيه، ويردد ألف مرّة: حسبي الله و نعم الوكيل .. و)):ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا((، ثمّ يرسم دوائر في الفراغ، و يشكّل امرأة جميلة ، وحصانا عربيا، ويتقلّد سيفا. لا بدّ وأن أعبر الأطلسي ذات مساء.
تضيق جدران الزنزانة .. يضغط القفص أضلاعه. يحملق في سقف الزنزانة.. الرابعة صباحا وما استطاع النوم. انتظر شروق الشمس ، ما شاهد شمسا ولا نافذة. اختفت المرأة و السيف و الحصان. أغمض عينيه، و استسلم حالما بهواية التسكع القديمة التي عشقها في رباط السجون والقلاع الأثريّة العريقة.
و كانت المدينة تعربد صاخبة على أصوات الطبّالين والزمّارين ، و أغاني الفولكلور التي ألفّها شعراء الدرجة الأولى في الذكري الثلاثين لتربع مولانا الباشا على عرش أجداده الميامين، وثراهم المقدس.
انتهت .
أ. د. محمد عبد الرحمن يونس
يتراجع منكسرا .. يحتضن أمتعته الخفيفة من أوراق الجرائد والخرق البالية، ثمّ يفترش مدخل البناية الشاهقة.. يرحب المتسولون به .. يقدّمون له نصف رغيف، وحبّات متعفّنة من تمر ( شفشاون)، أشهى تمور العالم، وأغلاها ثمنا. يحمد الله ، و يشكره ألف مرّة .. يا باري النسمة، يا فالق الحبّة .. يا أكبر من كل كبير.. يا قابض مفاتيح الغيب.. يا مطعم النمل.. يا ساقي الإبل، يا ملكا في أبّهته وسلطانه، أشملني برحمتك .
مطر السماء يخفّ رويدا.. ثمّة بقية قطرات تنقر واقيات بوتيكات النساء الملوّنة. يخرج من مخبئه.. يتأمّل الشارع. ما أجمل المطر في ساعة متأخّرة كهذه! يدندن مقطعا أندلسيا حزينا، ويغني لأجداده الميامين الذين عبروا إلى ( بواتيه وأليكانت و جبل طارق).. خذوني معكم ، أنسج لكم طواقي مزركشة، وأجلُ الصدأ عن سيوفكم.
من تداعياته الهادئة الحزينة تخرجه قشعريرة أصابع قدميه، فينزع الحذاء، و يقطع الشارع وحيدا. كم يبدو هذا الشارع أليفا على الرغم من الضباب و الأشباح، و رجال البوليس الذين يزرعونه كلما شاهدت زوجة باشا المدينة كابوسا خانقا!.
هي ذي الليلة ترسل عسكرها ليؤدّبوا الليل الذي أرّقها، ويقبضوا على الذين لم يتقيدوا بقانون منع التجول.
يهبط العسكر من سياراتهم المصفّحة .. يحيطون به.. يحاصرونه بهراواتهم الأمريكية السوداء.
ـــ بطاقة تعريفك؟
ـــ لا أملك، فقدتها.
ترنّ الصفعة الفولاذيّة عاصفة بوجهه الشاحب.. تتماوج مع قطرات المطر الخفيفة.
ـــ ماذا تفعل يا بن الداشرة في هذه الساعة المتأخّرة؟
ـــ أمارس هوايتي.. التسكع . أنا أعشق التسكع في مثل هذه الآونة.. أعتقد أني أملك هذه الحريّة في ظلّ دولة مولانا الباشا العملاقة، و عراقة قوانينه الديمقراطية. لا يحقّ لكم أن تحرموني من هذا الحقّ.
ركلة .. ركلتان.. عشر .. مائة ترفسه، فيتطوّح وسط طين الشارع.
ــ بعد الثانية عشرة ليلا يمنع التجوّل.. ألم تسمع بالقوانين؟ لماذا لا تذهب إلى زوجتك و أولادك؟؟.
ــ وبيتك.. كيف تترك بيتك.. أيترك عاقل منزله الدافئ في ليل ديسمبر هذا؟
ــ بيتي تحت سلم تلك البناية.
ــ أنت سارق و سفّاح، وقاطع طريق.. أنت الذي تخيف النساء و الأطفال، و تفسد طمأنينة سكان البنايات. أخبارك وصلتنا..
يقيّدون يديه بسلاسل نحاسيّة مستديرة، و يقذفون به راكلين إلى جوف السيارة.
في سجن المدينة المركزيّ الليل رطب و موحش و طويل.. رطوبة الزنزانة تنخر أضلاعه. يغمض عينيه، ويردد ألف مرّة: حسبي الله و نعم الوكيل .. و)):ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا((، ثمّ يرسم دوائر في الفراغ، و يشكّل امرأة جميلة ، وحصانا عربيا، ويتقلّد سيفا. لا بدّ وأن أعبر الأطلسي ذات مساء.
تضيق جدران الزنزانة .. يضغط القفص أضلاعه. يحملق في سقف الزنزانة.. الرابعة صباحا وما استطاع النوم. انتظر شروق الشمس ، ما شاهد شمسا ولا نافذة. اختفت المرأة و السيف و الحصان. أغمض عينيه، و استسلم حالما بهواية التسكع القديمة التي عشقها في رباط السجون والقلاع الأثريّة العريقة.
و كانت المدينة تعربد صاخبة على أصوات الطبّالين والزمّارين ، و أغاني الفولكلور التي ألفّها شعراء الدرجة الأولى في الذكري الثلاثين لتربع مولانا الباشا على عرش أجداده الميامين، وثراهم المقدس.
انتهت .
أ. د. محمد عبد الرحمن يونس