منذ أن تلمحه عيني للوهلة الأولى، يسرح خيالي مادا أمواجا من الأحاسيس المخيفة، والتطلعات الغامضة فأقف تائها وسط زحمة الأسئلة وسطوتها، ويخيل لي أني فقدت بوصلتي لحظتها، وأن هواجس منغصة هجمت على بواطني، وعصفت بعقلي، وعكرت صفو مزاجي، وكل هذا الألم سببه الشيخ "المتورك" على عكازته، والسائر نحو مكانه المعتاد في ركن ضيق من مقهى الحي..
يجلس الشيخ جلسته المعاكسة تماما لجهاز التلفاز، الذي كثيرا-ولعدة مرات- رفع صوته على النادل محتجا على رفع صوت الجهاز الرهيب، أو كما يحلو له أن يسميه بالتنين الآتي على الأخضر واليابس، والمستبد بعقول الكثرة الكاثرة من الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية.. ففي غفلة من الجميع تقريبا يتسرب الوقت تحت جسر هذا الجهاز، وتضيع منه قطع ثمينة دون مردودية تذكر.
... هكذا كان الرجل يتصور تلك المسألة التي تتعالق-أنا الناس- بهذا الجهاز، وما مدى الضياع والخسارة اللتين يتساهل الناس فيها وعلى حساب أغراضهم الملحة، وحوائجهم الأسرية والشخصية، التي تعلق إلى إشعار آخر.
... يسرع النادل في إحضار إبريق من الشاي الأخضر المنعنع، مرفقا بكأس من حجم صغير جدا، وهو كأس أخبرني الشيخ بقصته في صباح يوم من الأيام.
-لماذا يا عزيزي المحترم أراك تحرص على شرب مشروبك المفضل في هذا الكأس الصغير الحجم؟
-يا ولدي الغر إن لي معه حكاية عجيبة؟
-هلا لخصت لي بعض خطوطها؟
-مهما سعيت وحاولت فلن أختزلها! فالحكاية تشمل عمري وأيامي من بدايتها؟
-يا شيخ -عافاك- لا تحرمني من بعض عناوينها، فقد فتحت شهيتي، وأيقظت في غريزة حب المعرفة والاستطلاع.
-أعدك يا فتى إلى وقت آت أو مناسبة لاحقة، وأطلب منك أن تتأمل في حياتك التي تستمد عنفوانها من عنف ما يضخ فيها من قيم وأنماط عيش حديثة، والتي تخاطب فيك وفي أمثالك الجوانب المظهرية الخارجية، وتحرص بهندسة عالية التقنية، وبإخراج واع دقيق على تغييب الجوهر وحقيقة الأشياء والكلمات، أفلم يسبق أن سمعت تلك الحكمة "ليس كل ما يلمع ذهبا". إن هذه الحكمة، يا ولدي التائه الواقع فريسة بين أنياب التنين الضخم، إذا ما تأملت فيها اكتشفت الكثير من العبر والدروس قد تساعدك على مراجعة ذاتك وترتيب شتات أفكارك، ورجعت غانما وسالما إلى خويصة سكناك، بلا ضجيج ولا حديث مرنق، أو يسبب لك الانهيار العصبي والوجداني، بل إن حكمة الآباء والأجداد تلقحك بلقاح تقبله كل تربة مهما قربت أو نأت، وتعصمك من الأهواء والملل، وكل ما من شأنه أن يجعلك، يا ولدي البار، تفقد توازنك وتخسر عمرك حتى، وتعيش الضنك في متاهات غير مرئية ولا متناهية. فهل وفقت في إدراك جانب من بعض خطوط حكاية الكأس الصغير الذي لم يعد يُرى في حضور الكؤوس الكبيرة التي تراه عين المرء المعاصر، لكن بعين خارجية ومتسرعة، تحول دون العين الباطنية المتأنية والرزينة، إنها عين متفرسة وحادسة، وشديدة الحرص على الإصغاء الجيد لكل تفاصيل وأشجان وسحائب ورياح اللحظات المعاصرة..-وأنا يا خلي الفاضل- أعاكس المعادلة وأختزلها في هذه الهنيهة وبرفقة كأسي الصغير الحجم الذي يعود بي إلى تجارب كثيرة وحكمة واسعة، منها أرتشف وأتزود وأصحح وأرسم الحدود لما يأتي من أيام عمري الباقية!؟..
.. ومُذاك رجعت إلى نفسي أخاطبها، وإلى أفكاري أغازلها، فتحصلت لدي قناعة راسخة، أن الشيخ وعكازته يمتلكان مفاتيح لما من شأنه أن يصعب على الناس والجيل الجديد استيعابه وفهمه وضبط إيقاعاته بحكمة وتعقل يتزاوجان مع روح العصر ولغته، ويعملان على نبذ الخصومة والضرب على أوتار تضيع أصواتها ونغماتها شذر مدر.. وتساءلت أخيرا: لماذا الحيرة والهواجس المنغصة، ولم التوجس والشعور بالهزيمة الداخلية والعناوين بارزة واضحة؟ الشيخ.. الحكمة.. و...و...و..؟!
محمد البغوري
يجلس الشيخ جلسته المعاكسة تماما لجهاز التلفاز، الذي كثيرا-ولعدة مرات- رفع صوته على النادل محتجا على رفع صوت الجهاز الرهيب، أو كما يحلو له أن يسميه بالتنين الآتي على الأخضر واليابس، والمستبد بعقول الكثرة الكاثرة من الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية.. ففي غفلة من الجميع تقريبا يتسرب الوقت تحت جسر هذا الجهاز، وتضيع منه قطع ثمينة دون مردودية تذكر.
... هكذا كان الرجل يتصور تلك المسألة التي تتعالق-أنا الناس- بهذا الجهاز، وما مدى الضياع والخسارة اللتين يتساهل الناس فيها وعلى حساب أغراضهم الملحة، وحوائجهم الأسرية والشخصية، التي تعلق إلى إشعار آخر.
... يسرع النادل في إحضار إبريق من الشاي الأخضر المنعنع، مرفقا بكأس من حجم صغير جدا، وهو كأس أخبرني الشيخ بقصته في صباح يوم من الأيام.
-لماذا يا عزيزي المحترم أراك تحرص على شرب مشروبك المفضل في هذا الكأس الصغير الحجم؟
-يا ولدي الغر إن لي معه حكاية عجيبة؟
-هلا لخصت لي بعض خطوطها؟
-مهما سعيت وحاولت فلن أختزلها! فالحكاية تشمل عمري وأيامي من بدايتها؟
-يا شيخ -عافاك- لا تحرمني من بعض عناوينها، فقد فتحت شهيتي، وأيقظت في غريزة حب المعرفة والاستطلاع.
-أعدك يا فتى إلى وقت آت أو مناسبة لاحقة، وأطلب منك أن تتأمل في حياتك التي تستمد عنفوانها من عنف ما يضخ فيها من قيم وأنماط عيش حديثة، والتي تخاطب فيك وفي أمثالك الجوانب المظهرية الخارجية، وتحرص بهندسة عالية التقنية، وبإخراج واع دقيق على تغييب الجوهر وحقيقة الأشياء والكلمات، أفلم يسبق أن سمعت تلك الحكمة "ليس كل ما يلمع ذهبا". إن هذه الحكمة، يا ولدي التائه الواقع فريسة بين أنياب التنين الضخم، إذا ما تأملت فيها اكتشفت الكثير من العبر والدروس قد تساعدك على مراجعة ذاتك وترتيب شتات أفكارك، ورجعت غانما وسالما إلى خويصة سكناك، بلا ضجيج ولا حديث مرنق، أو يسبب لك الانهيار العصبي والوجداني، بل إن حكمة الآباء والأجداد تلقحك بلقاح تقبله كل تربة مهما قربت أو نأت، وتعصمك من الأهواء والملل، وكل ما من شأنه أن يجعلك، يا ولدي البار، تفقد توازنك وتخسر عمرك حتى، وتعيش الضنك في متاهات غير مرئية ولا متناهية. فهل وفقت في إدراك جانب من بعض خطوط حكاية الكأس الصغير الذي لم يعد يُرى في حضور الكؤوس الكبيرة التي تراه عين المرء المعاصر، لكن بعين خارجية ومتسرعة، تحول دون العين الباطنية المتأنية والرزينة، إنها عين متفرسة وحادسة، وشديدة الحرص على الإصغاء الجيد لكل تفاصيل وأشجان وسحائب ورياح اللحظات المعاصرة..-وأنا يا خلي الفاضل- أعاكس المعادلة وأختزلها في هذه الهنيهة وبرفقة كأسي الصغير الحجم الذي يعود بي إلى تجارب كثيرة وحكمة واسعة، منها أرتشف وأتزود وأصحح وأرسم الحدود لما يأتي من أيام عمري الباقية!؟..
.. ومُذاك رجعت إلى نفسي أخاطبها، وإلى أفكاري أغازلها، فتحصلت لدي قناعة راسخة، أن الشيخ وعكازته يمتلكان مفاتيح لما من شأنه أن يصعب على الناس والجيل الجديد استيعابه وفهمه وضبط إيقاعاته بحكمة وتعقل يتزاوجان مع روح العصر ولغته، ويعملان على نبذ الخصومة والضرب على أوتار تضيع أصواتها ونغماتها شذر مدر.. وتساءلت أخيرا: لماذا الحيرة والهواجس المنغصة، ولم التوجس والشعور بالهزيمة الداخلية والعناوين بارزة واضحة؟ الشيخ.. الحكمة.. و...و...و..؟!
محمد البغوري
