أسامة كمال أبو زيد - بيت البحر

سرد

مدينة البحر ما بعد الواحدة ليلا ً
منتصف تسعينيات القرن الفائت

التقيته أول مرة ليلاً بجوار البحر، وكأنه والبحر تمردا معا ًعلى رتابة وجفاء الأيام، هي نفسها السكينة التى تسكن مياه البحر تلمع فى عينيه، وهو ذاته تمرد الموج يجتاح روحه وقت فورانه وفوران عاطفته ..
وقت اللقاء كان دافئاً دفء الوحدة وحنوناً حنان أول لمسة يد لطفل وليد ..عرفت أنه صحا من نومه بعد منتصف الليل، وسكنت نار أفكاره داخل بيت القلب ودفعته قدماه إلى جولة جديدة لغسيل الروح برحيق الورود الطافية على الشاطئ ، تلك الورود التي تطفو في الضوء الاول لدخول النهار وعادة ما يظل هائماً على أطيافه مع أحد أصدقائه حتى يرمى البحر بآخر أمواجه ويتسلل خيط النور من سنابل الشمس الوليدة .. بمجرد أن تحدثنا تركت له الأحلام كى يعيد نسجها وترتيبها وتنسيقها وبث الحياة فيها .. مع حديثه اختفى العالم وبدأت صفحة جديدة من صفحات بدء التكوين، فى حديثه يعيد ترتيب الحياة وكأننا أبناء اللحظة التى لم تغادرنا بعد الى الغياب .. يتحدث معك وكأن غيمة عابرة حان وقت سقوط ولمعان قطرات مائها الطازجة على الارض ..
كنت تخرجت تواً من كلية الآداب بجامعة القاهرة وعقلى معلق فى سماء: جابر عصفور، نصر حامد أبوزيد، السيد البحرواى، أحمد شمس الدين حجاجى.. مهموما ًبالتراث والمعاصرة منكباً على اجتهادات الشيوخ: محمد عبده، محمد أبو زهرة، على عبد الرازق، عبد المتعال الصعيدى، محمود أبو ريه .. ومتابعا ًبشغف لمعارك: فرج فودة، خليل عبد الكريم، المستشار محمد سعيد العشماوى، حسين أحمد أمين، السيد القمنى.. مفعماً بدهشة قصائد النثر التى انفتح بابها على ما بعد المدى والحداثة مستظلة بثمرات قصائد وديع سعادة وأنسى الحاج ونثارها على غبار شوارع القاهرة وغرف شعرائها الغارقين فى تفاصيل حياتهم اليومية الحميمية والمنقبين عن ايقاعاتهم الذاتية ليخبئوها فى حروف ودهشة الشعر .. وكان السرد ينقب عن دفئه فى فضائات جديدة من الكتابة، فما زال محفوظنا نجيب ممسكاً بقلب الوهج ويكتب أصداء سيرته الذاتية وكأنه ابن الكتابة الجديدة العابرة للنوعية وأدراج التصنيف المدرسية، الكتابة التى بشر بسحرها واختلافها: ادوارد الخراط وظل نبياً لها ولأتباعها طوال الثمانينات والتسعينات، وصار أدباء الستينيات ومنهم: جمال الغيطانى، ابراهيم أصلان، صنع الله ابراهيم، بهاء طاهر، يوسف القعيد ... نجوماً تلمع على كل الشاشات بعد رحيل يوسف ادريس عام 1991الى سمائه تاركاً لهم سماء القاهرة ولمعانها .. وكان هناك ظلاً يحبو ويجوس فى كتابات جديدة تنقب عن فضاء النص الأدبى بعيداً عن تباينات القصة والقصيدة ..
وكانت بوبينة السينما تبث وميضها الآخاذ فى سينما فرسان الواقعية الجديدة: عاطف الطيب، محمد خان، خيرى بشارة، دواد عبد السيد، رأفت الميهى .. قبل أن تتحول من داخلها الى سينما الواقعية السحرية وتعبر المفازة البيضاء الى سحر الواقع ودهشته من خلال نسخ بديعة من أفلام: ليه يا بنفسج، الطوق والاسورة،الكيت كات، سارق الفرح، قفص الحريم، سمع هس، الهروب، فارس المدينة ، الغرقانة، ليه يا مهلبيه يا ... و.. و ... لم يكن كل ذلك الفضاء الفنى المدهش يعنيه أو يتلاطم على شواطئه برغم متابعته بشغف لكل ما تخرج به دور النشر والعرض وقاعات الموسيقى والسينما، فهو الأثيرى المتعالى على كل شىء، كلما لمح اعجابا ًيطفو على عينى بقصيدة أو قصة أو رواية أو مسرحية أو فيلم أو ... أو .. ما يلبث أن يهدم أركان بناء العمل حتى يزول ويختفى ويغرب مع شمس اليوم التالى دون أسف عليه .. كل كتابنا الكبار بالنسبة له حواجز منيعة أمام لمعة خياله الدافق المتوتر الذى ينقب داخل صفاء الحروف، كل الروايات المصرية والعربية مجرد حكايات تعيش داخل حكايات أخرى، كل الأفلام مجرد أضواء عدسات لقصص باليه، كل قصائدنا نسخ باهتة من قصائد أجمل تتوهج هناك على شواطىء أخرى .. كل ... كل ... نادراً ما يتورط فى الانتشاء أو البهجة بأى عمل .. لكن ذلك لم يمنعه من الغرق فى أشعار محمود درويش والخروج منها ببعض الأصداف المختبئة داخل ثنايا ابداعاته دون أن يشعر أو يعترف، والاعجاب بفنان عبقرى استثائى مثل أحمد زكى بشرط ألا تتحول الجلسة إلى قصائد اطراء على أدائه حينها ينتقل الى الضفة الأخرى ويهيل عليه التراب وعلى فنه ...
هام عشقاً بالمخرج الساحر رضوان الكاشف وفجأة دون مقدمات واضحة أو مفهومة اتهم كل مخرجى السينما الجديدة بأنهم يقدمون سينما مهترئة وباهتة ... لكنه عاش فترات من حياته متوحداً مع شخصيات شكلوا نسائج روحه .. منهم: عبد الحليم حافظ ، انجذب روحه لتلك الحالة الانشادية التى تحول فيها المطرب الأوحد والأشهر إلى صدى النشيد الحى داخل كل قلوب المصريين والعرب حتى أنه تقمص روحه وغنى لأسراب الأطفال حوله أثناء فترة تهجير عائلته خلال حرب الاستنزاف، غنى لهم أغنية ( عدى النهار ) بنبرة صادقة صدق وحساسية المطرب الراحل، وصدقوه وغابوا مع (حالميته) ..
واستمر ( حليم ) معه كمعنى ورمز لم يصل اليه أحد من المبدعين .. والثانى: محمود ياسين ابن نفس مدينة بحره خاصة أن توهجه السينمائى كان موازياً لفترة تعلقه بمتاهات الفن أثناء صباه وشبابه، كذلك لأنه خرج من نفس بقعة حلمه، من المسرح، والذى يقترب منه يدرك على الفور أن ظلاً من ظلال (ياسين) امتد اليه وعاش داخله لفترة حتى اغتوى وتركه بعد ذلك كعادته الى ظل جديد ..
والمدهش أنهما التقيا ذات مرة واعترف له أنه كان يتنقل فى فترة شبابه داخل انعكاسات مرآته المغوية .. وظل ( ياسين ) داخله كصوت موج بحر عميق لا يغادر ذاكرته ... والثالث الناقد الكبير: ابراهيم فتحي، فهو الأستاذ بألف ولام العهد، لا يجبه أو يعلو عليه استاذ ولا يتجاوزه أكاديمي مهما كانت درجاته العلمية أو الوظيفية .. ربما لآنه نال احترام الجميع برغم انه عاش طيلة عمره على هامش المؤسسات الثقافية والاعلامية، وهذا ما يتوائم مع خبايا روحه وقناعاته وما يعيشه بالفعل ..
وآخرهم المؤلف الكبير محفوظ عبد الرحمن الذى يعكف لفترة طويلة على عمل واحد فقط ليخرج به من دار اعتكافه إلى الشاشتى الفضية والسحرية في التلفزيون والسينما، وهو نفس انغماسه وشغفه مع أعماله التي نادراً ما تكتمل أو ينتهى منها ويكتفى بما عاشه من فيض لمعانها داخله وكأنه أحد العارفين بالحياة المؤمنين بأن طريق الوصول وصول ..
حكى لى يوماً حكايته: هو الطفل الذى تأخرت طلته الأولى فى الحياة لسنوات، وحين ضاق الأب والام انفرجت الدنيا لحظة ميلاد طفل ليس كمثله طفل، أبيض بلون الأحلام، عيونه خضراء لون الشجر، لم يبرح القمر غرفته ثلاثة أيام ملتمعة، وكأنه جاء محمولاً على ماء البحر فى رحلة استغرقت سنوات من الامل والانتظار ..وجاء الطفل مهموماً ضعيفاً فذهبوا بملابسه لاحدى العجائز فنصحتهم: اتركوه .. هو والأحلام قرينان من بهجة الميلاد الى حزن الرحيل وحيداً طافياً على الماء ..
يوم التقيته كان عائداً من تغريبة جديدة استمرت سنوات فى مساءات ومقاهى ( نص البلد ) بالقاهرة القديمة، عائداً يحلم بالسينما فهى ملاذ خياله الأخير .. خياله الذى أرهقه وأرهق عائلته، فالكائن الأثيري الذى يشعر الجميع بألمعيته واختلافه، تخرج فى الثانوية العامة مع رحيل عبد الحليم حافظ صوت قلوب المصريين وصوته إلى حبيبته الأولى التى تحول مع حبها إلى - حليم موازى - يغنى على الأوراق شعراً مقطراً برائحة النرجس وسرداً مفعما ًبصفاء البنفسج ... وتتابعت أيامه أمام طيفها الفاتن والمغوى دون مذاكرة أو اهتمام بمناهج خلت من لمعة الخيال حتى رآه استاذه المدرسى هائماً بين السماء والبحر فى قصة ستتكرر مع أخريات كلما دخل من باب الحب الى رحابة المدى والبحر، ونصحه أستاذه بنبرة حانية بالجد والاجتهاد حتى يمسك بأهداب حلمه وينال حبيبته، وبشق الروح وشقائها تجاوز الثانوية العامة الى كلية الحقوق، وتزوج الاستاذ الناصح حبيبته التى فاقت فى جمالها عرائس البحر فى الحكايات القديمة .. ولم تكن قصة الحب الوحيدة فى حياته اذ توالدت منها قصصاً أخرى فى فترات اخرى التمعت فيها قطرات الندى على زجاج نافذة بيت البحر الذى حافظ فيه على رائحة الحب دائماً ..
وكم من شوارع سار فيها متيقناً بانبلاج القمر فجأة عن احدى حبيباته وبالفعل تنفتح السماء بكل صفائها عن وجه حبيبياته وجها وجها ...
فى كلية الحقوق أدرك منذ الاسبوع الاول أن أحلامه وشغفه تسكن هناك فى أكاديمية الفنون فى شارع خاتم المرسلين فى ضواحى الجيزة، فألقى بكتب القانون من أعلى سطح اقامته لتتناثر على الأرض ومعها كل القيود التى تكبل روحه والتحق بالأكاديمية دون أن يعرف والده ..
وولج بقدميه إلى باب أحلامه، وحين علم والده برسوبه عامين فى دراسة الحقوق توحد الأهل والجيران لحماية الابن الخارج على قانون أبيه حتى لا يسقط بين يديه فى ثورة غضبه ..
فى سنوات الدراسة أدرك الجميع أن المادة الخام للخيال تجلس بجوارهم على مقاعد الدرس لكن حصان الخيال الجامح المتهدج المنكب على كل جديد ظل يطرح الأسئلة تلو الأسئلة ويعود بكل شىء إلى أصله وبداياته، بل ويبدأ بتصور جديد ببداية مختلفة لتتراكم الأوراق والتصورات والرؤى حتى تداهم روحه فكرة جديدة فيلقى بأوراقه من نفس السطح الذى ألقى من أعلاه بكتب القانون، فلا قانون أمام ثورة الخيال، ولا نهاية أو حتى بداية ... البحر ليس له بداية واحدة وليس له نهايات يقينية، أنا والبحر قرينان، أنا بيت البحر .. و كم من سجالات ومناقشات جرت بينه وبين أساتذته وتنبأ معظمهم بنبوغه وجلوسه على مقاعدهم لكن روح الفنان الهائم خلف آبار الدهشة المخبوئة فى فضاء زرقة السماء لا تتوائم مع الأكاديمى سجين اللغة الجافة الخالية من دفء الحروف وأسير المنهج المدرسى الصارم الضيق التى تضيق معه الروح الوثابة وتتوقف عن التحليق .. وظل طيلة عمره موزع الهوى بين معارف وفنون شتى: الشعر، السرد ، الرواية ، المسرح ، السينما ، النقد الادبى والمسرحى .. كل يوم له مشروع جديد .. قصيدة .. قصة .. رواية .. دراسة .. مسرحية .. وأثناء اشتعال روحه بالفن يتنقل بين الشوارع ويعيش أفكاره على المقاهى وينقلها لأصدقائه طازجة دافئة متوهجة بنار عقله، وكم من أفكار تسللت الى دراسات لأصدقاء شاركوه نفس الجلسة والمقهى ..
حين يحكى لك عن مشاريعه يتواطىء الليل مع موجات سرده المتدفقة ويبث فيها لمعة مستحيلة تغلف المكان حتى مطلع غبشة ضوء النهار الأولى .. لكن ما أن يصل الى غرفة وحدته فى بيت البحر حتى ينداح عبير حروفه الى داخل بناء كونى جديد يحاول فيه أن يلصق بدائعه فى سماء أخرى وأخرى ...
هو شخص من روح ودم وبحر، ليس له اسم سوى صاحب بيت البحر الذى يفتح بابه على الندى والمدى وتلك اللمعة المستحيلة التى غاب فيها دون أن يمسكها بيديه ..

أسامة كمال أبو زيد
كاتب وشاعر ومحرر ثقافى حر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى