في الوقتِ الحاضرِ ونتيجةً للتلاقحِ مع آدابِ الأمم الأخرى تغيّرتِ الكثيرُ من المفاهيم وأخذ الشعرُ بالامتداد إلى أماكنَ أخرى كان يحتلها النثرُ بجدارةٍ والعكس صحيحٌ أيضا، فالنثّار أخذوا ينشدون القصيدةَ النثرية كالشعراء الذين كانوا ينشدون ويكتبون قصيدتهم المعروفة بأوزانها وقوافيها، وشاهدنا وجودَ قصائدَ خاليةٍ من الموازين وبحورها وفيها تقنيات حديثة من مثل السرد والمفارقة والتكثيف وغيرها من التقنيات المعروفة التي أشِّرتها سوزان برنار في كتابها المعروف (قصيدة النثر من شارل بودلير حتى أيامنا)، القصيدةُ اليوم باتتْ بلا شكلٍ عمودي ولا عدد معين من التفعيلات أو الأسطر، ولم يعدْ البند والموشّحُ والمخمّس وغيرها تستهوي الشعراء(إذا كان بعضهم يعرفونها)، بل اليوم نجدُ أنفسَنا أمامَ أشكالٍ وامتزاجٍ ما بينَ ما هو شعري وبين ما هو نثري، فقد نقرأ نصّاً شعريّاً فيه سرد، وقد نقرأ نصا شعريا فيه بلاغة اللغة الشعرية من استعارات وكنايات وغيرها مما يجعلُ التفريق صعباً بين القصيدة (النثرية –الشعرية) وبين الفنون السردية المتمثلة بالقصة القصيرة والقصص القصيرة جدا وهذا يبدو واضحاً وجلياً بين قصائدِ الومضة والقصص القصيرة جدا حيثُ لم يعدْ واضحاً من منهما الشعرُ ومن منهما النثرُ.
علينا أولا أن نعرفَ سماتِ اللغةِ (أيَّةَ لغةٍ في العالم) وكيف تبدأ وكيفَ تنتهي، وحسب (بول ريكور) فاللغة تمرُّ بثلاثِ مراحل، الأولى هي اللغة الشعرية التي تعتمد على الاستعارة في بنائها، أي أنها تستخدمُ الاستعارة للتقريب بين شيئين متباعدين وهي نابعة من كون اللغة في طور النمو والنضوج وتحتاج إلى وسائل غير المترادفات(غير المتوفرة في البداية) للقبض على المَعنى أو المعاني المختلفة، وبالتالي فمن يقرأ النصوصَ القديمة سيجدها مكتوبةً بلغة الشعرِ وهي تتحدث عما يفعلهُ الآلهة أو من هم بمنزلتهم من البشرِ المكرّسين من قبل الآلهة، والمرحلة الثانية هي المرحلة الكنائية، حيث تكون اللغة قد امتلأت قاموسيا وتمَّ التقعيدُ لها نُحويا وعرفت معانٍ أخرى، وبالتالي فالكناية ستكون مرحلة نثرية أو ما بعد الاستعارة الأولى، وبالتالي فاللغة الشعرية في واقع الحال تكتب حتى بعد اكتمال اللغة لاستعادة مجد الاستعارة لأنها تحنُّ إلى أصولها الأولى فوظيفة الشعر والشاعر هو إحياء الاستعارات في اللغة والغوص إلى جوهر الأشياء في وجودها البدئي وهوما لا تستطيعه لغة النثر المتمثلة بالكناية، أمّا المرحلة الثالثة فهي اللغة الوصفية وهنا ستكون اللغة في مرحلة اكتمالها وبلوغ القمة فقد باتت اللغة خزينا في العقل الجمعي لجمهور المتكلمين(بحسب سوسور) مع تقاليد راسخة تحيا بها الكلمات ويموت بعضها ولها القدرة على خلق مترادفات للكلمة الواحدة وتدخل في تفاصيل الزمن من خلال زمن الأفعال واستخدامات البنى النحوية، وهي مزيج من الاستعارة والكناية.
ولكن هنالك نصوص تجمع ما بين الشعري والقصصي وهي تذكرُنا بما نراهُ بالنغماتِ الموسيقية، فالمطّلعين على السلالم الموسيقية والمقامات يعرفون أن هنالك حدوداً بين نغمة ونغمة(مثلا بين الفا والصول)، ولكن رفع درجة الفا بنصف درجة ليكون فا دييز، وتخفيض الصول بنصف درجة(لتكون صول بيمول) سنجد النغمتين تلتقيان بنغمة واحة هي خليط ما بين الفا والصول، وبالحقيقة ستتكون نغمة جديدة مختلفة عنهما بالرغم من كونهما متشاركتين بها على مستوى الاسم، أي أننا أمام نغمةٍ واحدة لها اسمان هما (الفا دييز والصول بيمول)، وهذا ما يحدث ما بين توسع النثر على الشعر، فنجد جنساً جديدا يحتوي على الشعر والنثر من خلال مكوناتهما الأصلية وهي الاستعارة والكناية ونوعية الزمن فيما لو كان مجانيا أو متراكما..
لو أردنا التفريق بين الجملة الشعرية والجملة النثرية، علينا أن نعرف بلاغتها(استعارة أم كناية) أولا وثانيا نوعية الزمن المتحكم فيها، ولكن ذلك قد لا يكون هينا إلا إذا قمنا بتحليل عدة جملٍ في النص لمعرفة نوعية المجاز أو طبيعة الزمن، وكذلك غرض النص الأساسي هل هو حكائي أم يريد الغوص لجوهر الأشياء، وهما ملمحان من طبيعة الكد الشعري الراسخ والسردي أيضاً،
هنالك شيءٌ آخر في النص الشعري والحكائي متمثل بنوعية الحدث،
فالحدث الشعري يكون زئبقيا ومن الصعوبة المسك به، فالنص الشعري قد يجمع عدة أحداث في جملة واحدة، لكن النص الحكائي يعمد إلى توضيح الحدثِ وتوصيفهِ بصورة متمعنةٍ، يعني يبني عدةَ جملٍ لبناء حدثٍ واحدٍ، وهذا يعني أن الشاعر يأخذ ملمحا من الحدث ليشير إليه(كجثة طافية على سطح الماء) للتعبير، عن شخص غريق ولكنّه لنْ يشرحَ من هو الشخص وكيف غرق ومتى غرق، وهذه الأشياء مهمةٌ في السرد لكنّها في الشعر ليستْ مهمة بل المهم ما تخلقه صورة الغريق في نفسية المتلقي، وهنالك ملمح آخر نستطيع أن نفرِّق ما بين الشعري والحكائي، وهو تأثيرهما في القارئ، فالشاعر كما أسلفنا يحاول نقل إحساسه للمتلقي ليتركَ المتلقي بالحالة النفسية ذاتها للشاعر، لكنَّ الساردَ يعمل على أن يكونَ القارئُ أحدَ المشاركين في الحدثِ القصصي أو يجعلهُ يتقمص الشخصية التي يجدها قريبةً له أو تذكّره بأحداثٍ مرّت بهِ، وربّما يجعله يتخيل أحداثا لم تحدثْ من خلال إبقاء النهاياتِ مفتوحة أمامه.
من هذه المقدمة المقتضبة يمكننا أن نجدَ مشتركاتٍ واختلافاتٍ ما بينَ ما هو شعري وحكائي في النصوص المفتوحة والنصوص الصغيرة غير واضحة الملامح، فالجمل هي المكونات الصغرى والوحدات المعول عليها في تحليل بنيةِ النص لمعرفة جنسه الخالص شعريا أو نثريا أو الهجين الذي يقع بينهما متأثراً بكليهما بحسب المسافة التي وصلها في حدود الجنس المغاير له.
بابل
- الأحد 04/10/2020
علينا أولا أن نعرفَ سماتِ اللغةِ (أيَّةَ لغةٍ في العالم) وكيف تبدأ وكيفَ تنتهي، وحسب (بول ريكور) فاللغة تمرُّ بثلاثِ مراحل، الأولى هي اللغة الشعرية التي تعتمد على الاستعارة في بنائها، أي أنها تستخدمُ الاستعارة للتقريب بين شيئين متباعدين وهي نابعة من كون اللغة في طور النمو والنضوج وتحتاج إلى وسائل غير المترادفات(غير المتوفرة في البداية) للقبض على المَعنى أو المعاني المختلفة، وبالتالي فمن يقرأ النصوصَ القديمة سيجدها مكتوبةً بلغة الشعرِ وهي تتحدث عما يفعلهُ الآلهة أو من هم بمنزلتهم من البشرِ المكرّسين من قبل الآلهة، والمرحلة الثانية هي المرحلة الكنائية، حيث تكون اللغة قد امتلأت قاموسيا وتمَّ التقعيدُ لها نُحويا وعرفت معانٍ أخرى، وبالتالي فالكناية ستكون مرحلة نثرية أو ما بعد الاستعارة الأولى، وبالتالي فاللغة الشعرية في واقع الحال تكتب حتى بعد اكتمال اللغة لاستعادة مجد الاستعارة لأنها تحنُّ إلى أصولها الأولى فوظيفة الشعر والشاعر هو إحياء الاستعارات في اللغة والغوص إلى جوهر الأشياء في وجودها البدئي وهوما لا تستطيعه لغة النثر المتمثلة بالكناية، أمّا المرحلة الثالثة فهي اللغة الوصفية وهنا ستكون اللغة في مرحلة اكتمالها وبلوغ القمة فقد باتت اللغة خزينا في العقل الجمعي لجمهور المتكلمين(بحسب سوسور) مع تقاليد راسخة تحيا بها الكلمات ويموت بعضها ولها القدرة على خلق مترادفات للكلمة الواحدة وتدخل في تفاصيل الزمن من خلال زمن الأفعال واستخدامات البنى النحوية، وهي مزيج من الاستعارة والكناية.
ولكن هنالك نصوص تجمع ما بين الشعري والقصصي وهي تذكرُنا بما نراهُ بالنغماتِ الموسيقية، فالمطّلعين على السلالم الموسيقية والمقامات يعرفون أن هنالك حدوداً بين نغمة ونغمة(مثلا بين الفا والصول)، ولكن رفع درجة الفا بنصف درجة ليكون فا دييز، وتخفيض الصول بنصف درجة(لتكون صول بيمول) سنجد النغمتين تلتقيان بنغمة واحة هي خليط ما بين الفا والصول، وبالحقيقة ستتكون نغمة جديدة مختلفة عنهما بالرغم من كونهما متشاركتين بها على مستوى الاسم، أي أننا أمام نغمةٍ واحدة لها اسمان هما (الفا دييز والصول بيمول)، وهذا ما يحدث ما بين توسع النثر على الشعر، فنجد جنساً جديدا يحتوي على الشعر والنثر من خلال مكوناتهما الأصلية وهي الاستعارة والكناية ونوعية الزمن فيما لو كان مجانيا أو متراكما..
لو أردنا التفريق بين الجملة الشعرية والجملة النثرية، علينا أن نعرف بلاغتها(استعارة أم كناية) أولا وثانيا نوعية الزمن المتحكم فيها، ولكن ذلك قد لا يكون هينا إلا إذا قمنا بتحليل عدة جملٍ في النص لمعرفة نوعية المجاز أو طبيعة الزمن، وكذلك غرض النص الأساسي هل هو حكائي أم يريد الغوص لجوهر الأشياء، وهما ملمحان من طبيعة الكد الشعري الراسخ والسردي أيضاً،
هنالك شيءٌ آخر في النص الشعري والحكائي متمثل بنوعية الحدث،
فالحدث الشعري يكون زئبقيا ومن الصعوبة المسك به، فالنص الشعري قد يجمع عدة أحداث في جملة واحدة، لكن النص الحكائي يعمد إلى توضيح الحدثِ وتوصيفهِ بصورة متمعنةٍ، يعني يبني عدةَ جملٍ لبناء حدثٍ واحدٍ، وهذا يعني أن الشاعر يأخذ ملمحا من الحدث ليشير إليه(كجثة طافية على سطح الماء) للتعبير، عن شخص غريق ولكنّه لنْ يشرحَ من هو الشخص وكيف غرق ومتى غرق، وهذه الأشياء مهمةٌ في السرد لكنّها في الشعر ليستْ مهمة بل المهم ما تخلقه صورة الغريق في نفسية المتلقي، وهنالك ملمح آخر نستطيع أن نفرِّق ما بين الشعري والحكائي، وهو تأثيرهما في القارئ، فالشاعر كما أسلفنا يحاول نقل إحساسه للمتلقي ليتركَ المتلقي بالحالة النفسية ذاتها للشاعر، لكنَّ الساردَ يعمل على أن يكونَ القارئُ أحدَ المشاركين في الحدثِ القصصي أو يجعلهُ يتقمص الشخصية التي يجدها قريبةً له أو تذكّره بأحداثٍ مرّت بهِ، وربّما يجعله يتخيل أحداثا لم تحدثْ من خلال إبقاء النهاياتِ مفتوحة أمامه.
من هذه المقدمة المقتضبة يمكننا أن نجدَ مشتركاتٍ واختلافاتٍ ما بينَ ما هو شعري وحكائي في النصوص المفتوحة والنصوص الصغيرة غير واضحة الملامح، فالجمل هي المكونات الصغرى والوحدات المعول عليها في تحليل بنيةِ النص لمعرفة جنسه الخالص شعريا أو نثريا أو الهجين الذي يقع بينهما متأثراً بكليهما بحسب المسافة التي وصلها في حدود الجنس المغاير له.
بابل
- الأحد 04/10/2020