حسام عبد القادر - أدب الرحلات من ماركوبولو وابن بطوطة حتى حجاجوفيتش.. الشغف بالسفر.. حكايات لن تنتهي بتطور التقنيات والزمن

قديما عندما كان الكاتب يصف مدينة أو دولة زارها، كان يقدم معلومات جديدة للقارئ وكان مقبولا أن يقدم تفاصيلا عن جغرافية المدينة أو تاريخها، إلا أن الآن بضغطة زر على مولانا جوجل يمكن أن نعرف كل هذه المعلومات ببساطة وقد يقدم لنا تفاصيل أكثر مزودة بالصور والخرائط ومعلومات لم نكن نتخيلها.
ولكن هل معنى ذلك أن أدب الرحلات سيندثر مع اندثار النشر الورقي في الحقبة القادمة؟ الإجابة هي لا بكل تأكيد، لأن الكاتب ليس مطلوبا منه الآن تقديم معلومات بقدر تقديم وجهة نظره وانطباعه عما يراه من حوله، وهذا هو المهم.
إن حكاوي السفر وأبطاله لا تنتهي، والأساطير التي تتناول المسافرين ومغامراتهم في كل عصر وأوان كثيرة جدا، لأن هناك شغفا كبيرا بالسفر منذ بدء الخليقة، لأن السفر دائما مقترن بالأحداث المثيرة.
وقد بقى ما سجله كتاب الرحلات في كتاباتهم وأصبح سجلا نادرا في حياة كثير من الشعوب والحضارات التي اندثرت اليوم ولم يتبق منها سوى تلك الكتابات، وهو ما سيظل يحدث أيضا في عصرنا الحالي وكل العصور.
وما حدث مع رحلات "ماركوبولو "الشهيرة التي بدأها في عام 1271 ميلادي، خير مثال على ذلك، فقد بدأ من مدينة البندقية في إيطاليا إلى قفار وجبال وسهول آسيا الشاسعة حتى أرض الصين مرورا بفارس وأرمينيا وتركستان وممالك التتار وجزيرة مدغشقر وجزيرة زنجبار وتركيا، وغيرهم، وقدم كثيرا من المعلومات البسيطة التي تبدو للبعض واضحة داخل بعض المدن، إلا أنها غريبة وعجيبة لمن يستقبلها من مدن أخرى، وهنا يأتي دور الكاتب وعينه الفاحصة التي تلتقط ما لا يلتقطه الآخرون.
وعندما كتبت عن الثلوج والبرودة في كندا، لم يكن غريبا ولا جديدا لكل الناس أن البرودة والثلوج جزء أساسي من الحياة في كندا وغيرها في كثير من الدول، ولكن عندما حكيت عن انطباعي عن هذه الثلوج، وتأثيرها على سلوك الإنسان وحياته أكون قدمت شيئا مختلفا يثير شغف القارئ، ويمتعه عند القراءة.
ولا أنسى رد فعل من صديقة بكندا عند قراءتها لمقال لي من مقالات كندا، فقالت "كل ما تكتبه أعيشه بنفسي ولكنك تلاحظ أشياء لم ألحظها طول السنوات الكثيرة التي عشتها هنا".
وهناك معلومات لا يمكن أن يحصل عليها القارئ من المراجع الرسمية ودوائر المعارف، وهي المعلومات الحياتية للمجتمع، مثل أن أذكر أن في مدينة "شيناي" بجنوب الهند يخلعون حذائهم عند الدخول للسوبر ماركت، وهي معلومة استوقفت كثيرين جدا من قراء هذه الرحلة وكانت مثار اندهاش وتعجب.
وبالتالي فإن طبيعة كتابة أدب الرحلات الآن تغيرت كثيرا عما سبق، وهذا طبيعي ويندرج تحت التطور لكل أنواع الكتابات والتقنيات، وأظنه يتشابك بشكل ما مع حكايات المغامرات والأكشن، والتي كلما زادت، ازداد القارئ شغفا بما يقرأ.
وهل يمكن أن نتخيل أن "ابن بطوطة" رمز السفر والترحال، لم يكن ينوي أن يكتب رحلاته في كتاب، وكان يكتفي بالحكي الشفاهي، ولكن عندما عاد إلى وطنه المغرب عام 1354 ميلادية، بعد غياب أكثر من ثلاثين عاما، أعجب السلطان المغربي أبو عنان فارس المريني برحلاته وقصصه المثيرة، وطلب منه أن يمليها على كاتبه محمد بن جزي الكلبي، وسمى ابن جزي هذا الكتاب باسم "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف بكتاب "ابن بطوطة" ويعتبر الكتاب بمثابة عمل مشترك لكل من ابن بطوطة وابن جزي، فالحكايات والعجائب والغرائب لابن بطوطة، بينما الأسلوب السلسل والسهل كان لابن جزي، وترجم هذا الكتاب لمعظم لغات العالم، ومن هنا زادت شهرته.
ولولا هذا السلطان وكاتبه، لما وصلنا هذا الكنز المعرفي الرائع، والذي لم يحقق المتعة للقراء فقط، بل كان له الفضل الكبير على الجغرافيين من بعده، وذلك لأنه ترك صورة صادقة للحياة التي عاشها في عصره؛ بعد أن أمضى حياته باحثا عن المعلومات الجغرافية الصادقة، وقطع في سبيل ذلك نحو خمسة وسبعين ألف ميلا، وهو ما يعادل 120 ألف كيلو متر، وزار ما يعادل 44 دولة وقتها.
ونتعجب أكثر عندما نعلم أن "السندباد البحري"، والذي يعد اسمه رمزا لمحبي السفر وللمغامرات، شخصية أسطورية وألفت عنه مئات القصص والروايات، وانتجت كثير من المسلسلات والأفلام في معظم دول العالم عن رحلاته ومغامراته، دليل على حب الناس لقراءة هذا النوع من الأدب، حتى أن مغامرات السندباد أصبحت جزءا من التراث الشعبي.
ومن الطرائف أن يتحول السفر لحضور مؤتمر إلى كتاب رائع عن أدب الرحلات يثري المكتبة العربية، وهذا ما حدث مع أحمد زكي باشا وكتابه "السفر إلى المؤتمر" حيث سافر أحمد زكي باشا عام 1892 إلى أوروبا ممثلا لمصر بترشيح من الخديوي عباس حلمي الثاني، بغرض حضور مؤتمر المستشرقين التاسع الذي عقد في لندن في الفترة من 5 إلى 12 سبتمبر، واستغرقت هذه الرحلة ستة أشهر، وتمكن أحمد زكي باشا خلال هذه الرحلة من زيارة أكثر من أربعين مدينة زيارة تدقيق وتحقيق، كما زار خلالها بعض هذه المدن مرتين مثل روما وباريس ولندن ومدريد ولشبونة، وهي رحلة لم يتيسر حصولها لمصري من قبل، واستطاع أن يقدم لنا من خلال هذه الرحلة كتابه الممتع.
ومن أكثر الكتاب الذي شدني لأدب الرحلات في العصر الحديث وكان سببا في عشقي لهذا النوع من الكتابة هو الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور، ويكفيه كتاب "حول العالم في 200 يوم" وقدم به معلومات شيقة جدا كانت جديدة تماما على القارئ العربي وقتها، من خلال أسلوب سلس وشيق وغير ممل، وله عدة كتب في الرحلات مثل: "أعجب الرحلات في التاريخ"، و"بلاد الله خلق الله"، "غريب في بلاد غريبة"، "اليمن ذلك المجهول"، "أنت في اليابان"، وكلها كتب شيقة وممتعة، إلا أن "حول العالم في 200 يوم" يظل الأقوى بالنسبة لي لأنه يحكي تجاربه الشخصية ومغامراته في سفرياته المختلفة حول العالم، وليس مجرد معلومات عن البلاد.
وهناك نموذج شهير جدا انتشر فس السنوات الأخيرة، ولكن فقط على السوشيال ميديا، ولا أعرف لماذا لم يهتم بتسجيل رحلاته في كتاب، وقد يكون اكتفى بالتقنيات الحديثة لتوصيل رحلاته، وهو الشاب المصري "حجاجفويتش"، وهو رحالة مصري ومغامر اشتهر بلقب ابن بطوطة القرن 21 والسفير غير العادى لمصر وسفير السلام العالمي، وهو أول شخص يسافر إلى كل دول العالم بغرض نشر قيم السلام والمحبة ومحاربة العنصرية وتصحيح الأفكار الخاطئة عن دول العالم رافعا العلم المصري في كل مكان، حيث كان حلمه منذ صغره أن يرفع علم بلده في جميع دول العالم.
وحجاجفويتش هو اسم شهرته، الذي أطلقه عليه في بدايه رحلاته صديقه الصحفي الروسي مارسال تيبوف، ولقى هذا الاسم صدى إعلاميا واسعا حيث أن فيتش تعنى المنتصر، واسمه الحقيقي أحمد حجاج.
سافر حجاجوفيتش حتى الآن إلى أكثر من 136 دولة حول العالم ووثقها بالصورة والفيديو كما أعطى محاضرات كثيرة لأطفال المدارس وشباب الجامعات في جميع هذه الدول مروجا لرسالة السلام، يقدم رسالة أساسية من سفره وهي: الحرية، الفرح، السلام، عالم واحد متحد بلا عنصرية، عالم واحد متحد بلا حدود، عالم واحد متحد على حب مصر.
واجه ولا يزال صعوبات مادية ومعنوية كثيرة، فقد أضطر في بدايه رحلاته أن يبيع سيارته وبيته ليكمل سفره، ودائما في جميع محاضراته يحث الشباب على عدم اليأس والتجربة أكثر من مرة وكل ذلك تحت شعاره "إحلم.. إحمى حلمك وانطلق".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى