في مذاهب تفسير القرآن ينقسم الفقهاء المفسرون لخمسة طرق رئيسية لرؤية النص القرآني، وهم في ذلك يتبعون طرق الخلاف الإنساني في رؤية النصوص الأدبية بشكل عام، وتلك الطرق هي (علمية – روحية –نصية – عقلية – لغوية)
وهذه الطرق تدخل في تفاسير القرآن بنسب مختلفة وفقا لاتجاهات المذهب، فلو كان المذهب عقلانيا كالمعتزلة ترتفع نسبة التفكير العقلي في الآيات لأرقام تقديرية من عندي فوق 60% تقريبا، ولو كان المذهب نقليا كالحنابلة ينخفض التفكير العقلي لأدنى مستوياته لأرقام تقديرية من عندي 5% تقريبا مع ارتفاع كاسح لنسبة التفسير النصي والإيمان بحاكمية الروايات وظاهر الآيات، وهذا يعني أن فكرة حصر الفرقة أو الطائفة المسلمة باتجاه تفسيري كلي هي فكرة خرافية، فالمعتزلة ليسوا عقلانيين بالمطلق وتفاسيرهم تعج بالروايات وأشهرها تفسير الكشاف للإمام الزمخشري المتوفي عام 538هـ / 1143م
ويمكن القول أن هذا التفسير المعتزلي الذي لزم في الغالب أصول الاعتزال الخمسة هو التفسير الوحيد المتبقي كاملا من تراث المعتزلة بعد حرقه واضطهاد مفكري المعتزلة في عصريّ المتوكل بالله العباسي في القرن 3هـ ثم القادر بالله في القرن 5هـ، ويعد أشهر تفاسير المعتزلة الأخرى وهي لأبي مسلم الأصفهاني المتوفي عام 322هـ وأبي بكر الأصم المتوفي عام 240 هـ لم نعثر عليها كاملة ولكن باجتهادات محققين معاصرين نجحوا في استنباط هذا التفسير المعتزلي من تراث السنة والشيعة، ويقصدون بذلك أن تفاسير هؤلاء المعتزلة ذكرت في معرض الاجتهاد والتنوع في كتب مفسري السنة والشيعة كتفسير الإمام فخر الدين الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، وتفاسير الفقهاء الشيعة كالطوسي المتوفي عام 460هـ المعروف (بالتبيان) والطبرسي المتوفي عام 548هـ المعروف (بمجمع البيان)..
وهذه نقطة تُحسَب لهؤلاء المفسرين الذين احتجوا بآراء المعتزلة أو نقلوها دون ذم وقدح مثلما يحدث من غالبية مفسري القرآن الآخرين ممن يرون الاعتزال مذهبا بدعيا لا يجوز مدحه فضلا عن الاحتجاج به..
أشير مرة أخرى أن مذاهب تفسير النص الديني محكومة بمذاهب الناس، مما يعني أن مذاهب تفسير القرآن هي نفسها مذاهب الناس واختلافاتهم في الحياة، لكن السائد من تلك التفاسير هي (النصية الروائية) لحاكميتها السياسية والاجتماعية بالأساس، فالتفسير النصي التقليدي تأثر بعوامل السياسة والجغرافيا واللغة والمكان والمصالح..ومن هذه البيئة خرجت تفسيرات النصوصيين (سنة وشيعة) لتحاكي رؤية الحكومة للدين..ولأن هذا التفسير هو وليد البيئة والمصالح فيفضله الناس لتوافقه مع مصالحهم الخاصة بالأساس، فالجماهير تحب التفاسير النصية الروائية لتوافقها مع رغباتهم وأيدلوجياتهم الفكرية، وأبرز مثال على ذلك أن مجتمع السنة يفضل تفسير القرآن بطريقة سنية تتوافق مع مصالحه وتقديسه للصحابة، ومجتمع الشيعة يفضل تفسير القرآن أيضا بطريقة شيعية تتوافق مع مصالحه وتقديسه لآل بيت الرسول.
ومن ذلك نرى أن الحقيقة الفكرية في التفسير غائبة بشكل شبه كلي أو ليست لها الأولوية على الأقل، فالحقيقة الفكرية يلزمها شكا وتحليلا وتوضيحا وجدلا غير محدود، فالتفكير حينها يجب أن يكون متجردا من الأهواء والرغبات ليُخلص تماما إلى العلم، وهي مسألة صعبة بالتأكيد لا ينجو منها الفلاسفة ما بالك برجال الدين والعوام؟..وفي ذلك يقول الفيلسوف التفكيكي "جاك دريدا" أن الإنسان هو أسير رغباته وأهوائه فيسقط ذلك على نظرته للحياه والمقدسات ، مما يعني أن الأحكام المسبقة هي سمة عامة للبشرية دون تمييز، لكنها مختلفة وتتباين حسب قدرة الفرد على التفكير العقلاني وصدقه ووضوحه وتجرده من المصالح، وفي رأيي أن من يحصل على تلك الشروط اللازمة للبحث هم أقلية نادرة جدا تكاد تكون معدومة في بعض المجتمعات.
وهناك سببا آخر لغياب الحقيقة الفكرية عن تفاسير المسلمين في الغالب وهو غياب (مصدر المعلومة) فتفاسير الرسول والصحابة وآل البيت للقرآن (غائبة) ولا يمكن القطع بما هو موجود منها لكونه خبر آحاد ظني الثبوت، ولا يمكن الثقة في تلك الروايات الصادرة عنهم لتضاربها الشديد وتعصب المذاهب المختلفة لها ..مما يشير إلى أن نشوئها الأصلي كان مظروفا زمكانيا لا يمكن العول عليه، وهنا تبرز مشكلة تفسير القرآن الكبرى أن غياب مصدره عن الصحابة والرسول وآل البيت جعل النص القرآني عرضة للاجتهاد والتفسيرات المغلوطة والمتشددة التي تنزع في محورها لخدمة الحكام وخواص الناس، مثلما أفتى بعض الفقهاء مثلا في نسخ آية السيف في قوله تعالى "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم" [التوبة : 5]
حيث قالوا أن تلك الآية نسخت كل آيات العفو والصفح مثلما قال الإمام القرطبي في تفسيره، والهدف من هذا النسخ المزعوم هو إباحة الغزو للسلطات ضد المخالفين وعدم تقبيح حروب الأمراء بالمطلق، فلو حدث ذلك في وقتٍ كان فيه المسلمون أقوياء بل كان العرب هم القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط نفهم على الفور أن الإباحة خرجت من موطن قوة، ورغبات سلطوية مسبقة جعلت الدين مصدراً للحشد العسكري مثلما كان عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون كمثال..
وبالطبع حين يغيب مصدر المعلومة التفسيرية للقرآن تحضر على الفور أحاديث وروايات نصية تكون هي المهيمنة على النص الأصلي لقطع الفرص عن اعتراض المفكرين وجماعات المعارضة السياسية، ومن هذه الأجواء خرجت مزاعم أن السنة (مصدرا للتشريع) بل هي (تنسخ القرآن) وفقا لجمهور مذهب السنة والجماعة، وتم تعريف تلك السنة بالروايات فقط لأسبقية تقديم مبدأ النقل على العقل بفعل الصراع ضد المعتزلة، مما يعني أن القول بحاكمية الروايات والأحاديث وهيمنتها على القرآن خرجت في ظل صراع مذهبي حاد ضد المعتزلة والفلاسفة وأهل الرأي..مما أعطاها زَخَما وبُعدا سياسيا كبيرا صار فيه الاعتراض على حاكمية تلك النصوص يمثل في مضمونه الكفر بالله وفقا لتعريف سلطة الخليفة هذا الزمن بظلِ الله في أرضه وأنه الموكل من قِبَل الخالق لإدارة شئون الناس كما جاء في أقوال هؤلاء الأئمة عن القضاء والقدر..(المذهب الجبري)..
وبالتالي قال الفقهاء أن السنة هي (وحيا ثانيا) بعد الوحي الأول، لكن التصريح بهذا الوحي لم يصدر من الأولين وسلف المسلمين بل صدر مؤخرا من علماء الوهابية الذين كانوا أكثر صدقا مع أنفسهم في تمثيل التراث وتجسيد أحداثه التاريخية على الأرض، والأسئلة الفورية الموجهة لهؤلاء: هل الوحي عن الله يجوز تصنيفه لصحيح وضعيف وحسن ومدرج ومقيد..إلخ؟..أم تلك صفات بشرية ألصقت على الروايات لتهذيبها من الوضع والاختلاق؟..وهل الوحي فيه متواتر وآحاد أم كله متواتر؟ وهل يجوز تدخل البشر في تصنيف (ثبوت الوحي) أصلا؟..فمعنى أن يتدخل البشر فيه تصنيف ثبوت الوحي يعني أن ذلك الوحي ليس إلهيا بل هو عمل بشري صِرف..
أشير إلى أن التفاسير النصية هي (ظاهرية بالعموم) ويمكن العودة لمحاضرتي على يوتيوب في شهر مايو الماضي 2021 بعنوان "فلسطين قضية إنسانية لادينية" شرحت فيها الظاهرية الفكرية وعمقها وهيمنتها على الفكر الإسلامي ، وبالخصوص مذاهب تفسير القرآن، ولدراستي المنشورة بالحوار المتمدن في نفس الشهر بعنوان "خطر الفكر الظاهري على قضية فلسطين" واختصار ذلك: أن الفكر الإسلامي بعمومه – سنة وشيعة – ينزع لتفسير النصوص سواء كانت (دينية أو أدبية) بطريقة ظاهرية مهتمة فقط بظاهر النص والوقوف على حروفه المرسومة وتخيلاته في الذهن دون الغوص في ما وراء ذلك النص ومعانيه المضمرة سواء كانت لغوية أو فلسفية ومنطقية..وهذه أحد أكبر آفات الفكر الإسلامي التي تسببت في غياب الفلسفة والعلم عن مجتمعات المسلمين بشكل شبه كلي..
بينما يقابِل هذا التفسير الظاهري الحرفي تفسيرات باطنية هي الممثلة للاتجاه الروحاني الذي سقناه في المقدمة، ويعني عدم كفاية ظاهر النص لمعرفة الحقيقة، والنزوع في ذلك لتأويلات لغوية ونفسية وعقلية أحيانا للنصوص..فالتفسير الباطني هو التفسير الروحاني الذي فهمه العلماء من قوله تعالى عن القرآن" لا يمسه إلا المطهرون" فقالوا أن التطهير في ذلك السياق هم الذين (تطهرت أرواحهم من الشرور والحقد والكراهية) ونتيجة لذلك التطهر (يكشف الله) معاني القرآن لنفس العارِف بالله أو الولي الصالح..ومن هذه الفكرة خرجت مزاعم "العلم اللدني" التي قال بها الإمام "أبو حامد الغزالي" المتوفي عام 505هـ / 1111 م ومعناها قذف الله العلم الإلهي لقلب الرجل الصالح دون واسطة ودون حاجة لاستخدام العقل أو توظيفه..
وهذه الرؤية أشبه بالغنوصية الضاربة في عمق التاريخ وظهرت كمصطلح في بدايات الفكر المسيحي إشارة لجماعات روحانية تفضل الفكر الباطني على ظاهر الكتاب المقدس، وقد تجلت هذه الباطنية عند الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" رغم تكفيره للباطنية الإسماعيليين في كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" مما يثبت ما قلناه في المقدمة أن جوانب التفسير الإسلامي للقرآن مختلفة وفقا لأهواء وقدرات ورغبات المفسير أكثر مما هي بحثا مجردا عن الحقيقة، والغزالي اعترف في كتابه الأخير فضائح الباطنية بكتابته السلطوية وأثر القرار السياسي في تصنيف هذا الكتاب ردا على الفاطميين تحديدا الذين شكلوا خطرا على سلطة بغداد في القرن الخامس الهجري.
ولقد قرر الإسماعيليون الرد على الغزالي وبالفعل صنف أحدهم وهو .."علي بن الوليد القرشي"..كتاب (دامغ الباطل وحتف المناضل) بعد موت الغزالي ب100 عام تقريبا..وقد قرأت الكتابين منذ 9 سنوات تقريبا ويبدو فيهما أن الغزالي تسرع كثيرا ، فردود القرشي كانت أكثر حجية أثبت فيها أن الغزالي لم يكن مُلمّا بالمذهب الإسماعيلي بما يكفي وردوده كانت استعلائية تكفيرية أكثر منها علمية محققة وغلطات رجل القش وتسميم البئر كانت كثيرة جدا في كتاب الغزالي الذي يعد الأشهر على الإطلاق في تكفير الفرقة الإسماعيلية وفقا للتصور السني، والغريب أن كتاب فضائح الباطنية الآن هو عمدة مكتبات السلفيين في الرد على الإسماعيلية ولم يكلفوا أنفسهم قراءة ردود القرشي العلمية مما يثبت للمرة الألف تأثيرات التعصب الديني المذهبي في تفاسير القرآن بالخصوص ، ورؤية الدين الإسلامي بشكل عام..
وليس الغزالي وحده من كان سنيا باطنيا، فالإمام الشهرستاني المتوفي عام 548هـ / 1153م له كتاب باطني ايضا في تفسير القرآن اسمه "مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار" رغم تكفير الشهرستاني للباطنية في كتابه "الملل والنحل" وكذلك للإمام الأندلسي "لسان الدين بن الخطيب" المتوفي عام 776هـ/ 1374م كتابا باطنيا أيضا في تفسير القرآن وهو "روضة التعريف في الحب الشريف" وقد تم إعدام المؤلف بسبب تأليفه هذا الكتاب الذي أثبت فيه انتقال الطاعون بالعدوى، وبالتالي كذب أحاديث (لا عدوى) في الكتب التسعة، وطريقة إعدامه كانت بشعة، حيث قتل داخل سجنه ثم أخرجوا جثته في اليوم التالي لحرقها ثم إعادتها مرة أخرى للقبر، ونموذج لسان الدين الخطيب هو لجريمة التفكير في عصور الانحطاط، التي تتكرر الآن سنة 2021 مما يعني أننا في عصر انحطاط أيضا، فقتل أو سجن فلان لمجرد اجتهاده في الدين ورده للأحاديث هو جريمة متكاملة مسئول عنها المجتمع كله بدءا من الحاكم والمثقفين مرورا بالكهنة وصولا للشعب..
كذلك هناك تفسيرات باطنية أخرى كثيرة للقرآن أذكر منها مؤلفات "علاء الدولة السمناني" المتوفي عام 1336م وسهل التستري 896م وعبدالكريم القشيري 1073م وأشهر هؤلاء هو الإمام الصوفي الشهير "جلال الدين الرومي" المتوفي عام 1273م، فلم يصنف الرومي تفسيرا خاصا للقرآن لكن أشعاره وحِكَمه الصوفية الباطنية كانت ملحقه بشكل مستقل في رؤية إدراكية لنصوص القرآن لم تسجل ككتاب..لكن سجلت كخواطر وإشارة للحكمة الرومية في التفسير الديني..
وهذا الاختلاف الكبير في التفسير مرده كما قلنا غياب التفسير الأصلي للرسول وصحابته وآل بيته، لكن هناك سببا آخر لا يقل أهمية وهو أكثر من 90% من آيات القرآن ليست مظروفة بأسباب النزول، وبالتالي وجدت لها الحاجة لرؤيتها بعيدا عن الروايات، برغم أن السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" زعم أن 50% من القرآن له أسباب نزول..وهذا غير صحيح، فبمطالعة أشهر كتاب لأسباب النزول وهو للإمام الواحدي النيسابوري المتوفي عام 468هـ / 1076م نجد أن الرجل طرح لعدة مئات فقط من القرآن أسباب نزول..وهذه نسبة تزيد أو تنقص عن 10% فقط من آي القرآن البالغة 6236 آية
وهذا أوجد اختلافا كبيرا بين المفسرين وصل لحد التكفير واللعن كما تقدم بشأن تفاسير المعتزلة وأهل الرأي والفلاسفة والباطنيين، مما استدعى السلطة أن تحكم هذا التفسير (بدستور أعلى ) يكون مهيمنا على عمليات التفسير ولا تخرج عنه البتة، فكان اختراع ما يسمى "علوم القرآن" وقد طرحت مقالا خاصا عن ذلك في شهر أغسطس الماضي 2021 بعنوان "ًأصول ما يسمى علوم القرآن" وهو منشور في موقعي بالحوار المتمدن، وأنقل لحضراتكم جزء منه فيما يخص ثبوت تلك العلوم:
" علوم القرآن لا علاقة له بالنبي والصحابة والتابعين، فقد عجز الفقهاء المعاصرون عن إثبات نسب كتبه الأولى للسلف الأول، فنسبوا كتبا منحولة لرواة وفقهاء سابقين كقتادة بن دعامة وابن شهاب الزهري ونافع كأشهر راوة في العصر الأموي، لكن بالتحقيق تبين أن هذه الكتب صنفت بداية من القرن الرابع، أي بعد موت قتادة وابن شهاب ب 200 عام على الأقل.
فكتاب مسائل "نافع بن الأزرق" في غريب القرآن ذكر فيه أئمة الحديث الستة والشافعي، برغم أن نافعا متوفي سنة 65 هـ أي صنف الكتاب بعد وفاة نافع ب 300 سنة تقريبا ،ثم نسبوا كلام نافع لابن عباس لتكون هذه المحاولة هي الأقدم على الإطلاق في تأليف علوم القرآن ونسبها لصحابة، وأما كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة بن دعامة فمؤلفه الحقيقي هو " أبو القاسم بن سلامة المقري" المتوفي سنة 410 هـ، بعد وفاة قتادة ب 300 سنة،ولا يوجد أقدم من أبي القاسم في توثيق كتاب بن دعامة، ولمزيد من الخداع والتدليس قام المقري بنسب رواية الكتاب لتلميذ قتادة "سعيد بن عروبة"
أما كتاب الناسخ والمنسوخ لابن شهاب الزهري فهو كارثة في حد ذاته، لأن أقدم مخطوطة للكتاب كتبت بخط (النسخ) الذي اخترعه "ابن مقلة الشيرازي" أوائل القرن الرابع الهجري، والرواية الوحيدة للكتاب هي لابن الحسين السلمي المتوفي سنة 412 هـ أي بعد وفاة ابن شهاب ب 300 سنة تقريبا، ومن غرائب ما فعلته السلفية والأزهر في توثيق كتاب الزهري في الناسخ والمنسوخ..أنهم لم ينتبهوا أن ابن الحسين السلمي نسب الكتاب للزهري برواية "الوليد بن محمد الموقري" توفى 182 هـ وهو في حكم الحديث (متروك كذاب) فكيف قبلوا توثيق الكتاب وراويه الوحيد كذاب؟..هذا بافتراض صدق السلمي..!
من هنا تبين أن أقدم كتب منسوبة لصحابة وتابعين في ما يسمى "علوم القرآن" هي مكذوبة، وظهرت بداية من القرنين الرابع والخامس الهجريين في العصر العباسي الثاني، وهو التوقيت الذي بدأ فيه التصنيف في علوم القرآن ردا على المعتزلة والفلاسفة من جانب، ولتوفيق النص مع العلم من جانب آخر، ولخدمة البلاط العباسي من جانب مختلف ..علما بأن العصور القديمة كان فيها الحُكم دينيا..أي كان الخليفة يحكم بالاشتراك مع رجال دين هم مجموعة معاونيه وجوقته ولسانه بين الجماهير.." انتهى
وفي تقديري أن هذا التزوير لم يكن صغيرا بل كان كبيرا جدا حصل على أوجه ونشاطه في القرن الخامس الهجري بعد الوثيقة القادرية، وإلزام كافة المسلمين باتباع رأي الأشاعرة وأهل الحديث واضطهاد المعتزلة والشيعة والباطنية بالخصوص..إضافة لبعض الحنابلة ممن قالوا بالتجسيم، وبمتابعة تواريخ وفيات مؤلفي كتب علوم القرآن الأصليين كالقاسم بن سلامة المقري 410هـ وابن الحسين السلمي 412هـ نفهم كيف حدث هذا التزوير وأسبابه بشكل مذهل، فهم كانوا يعيشون زمن القادر بالله..وظهور ذلك العلم فجأة – علوم القرآن- لا يمكن فصله عن الأحداث السياسية والفكرية الهامة التي حدثت في ذلك الزمن..
أختم بأن القرآن نص ديني مقدس كأي نص مقدس آخر بالنسبة لأصحابه، وتفسيره سوف يتأثر بعوامل السياسة والمجتمع والقبيلة والمصلحة، لذلك فمن يريد الحقيقة المعرفية بداخله لابد أن يُخضعه لعامل الزمان والمكان أولا لفهمه بطريقة واقعية دون إخلال بسياقه وظروفه، وأن استقراء أحكامه الكلية سوف يكون بعدة وسائل منها نقاش الآيات وفقا لأسباب النزول مع التفكير في تلك الأسباب وأهليتها للنص..وفيما دون تلك الأسباب يجري رد المتشابه إلى المحكم..وتعريف المتشابه هو (غير الواضح وغير المؤكد وظني الدلالة) بينما تعريف المحكم هو العكس أي (الواضح والمؤكد وقطعي الدلالة) وبالحصول على ذلك المحكم وتعداده بالقرائن تتجلى لنا أحكام القرآن الكلية التي لن تخرج من مبادئ (العدل والحرية والعمل الصالح) كمسارات عامة وأحكام كلية أولية تحكم الدين الإسلامي مع الغير..
ولأن الإسلام دين متمايز عن غيره فأحكام القرآن الكلية يجب أن تتضمن (الوحدانية و النبوات والصفات والوعد والوعيد)..لكن تلك الأحكام هي ما تصنع التمايز وتُجسد الإسلام كانتماء لا غير..لا كمحاولة فرضه على الآخرين..ومن تلك الزاوية تكون الأحكام القرآنية الكلية الأولى وهي (العدل والحرية والعمل الصالح) هي المهيمنة..وهي التي يجب أن يتصف بها سلوك المسلم بشكل عام..
وهذه الطرق تدخل في تفاسير القرآن بنسب مختلفة وفقا لاتجاهات المذهب، فلو كان المذهب عقلانيا كالمعتزلة ترتفع نسبة التفكير العقلي في الآيات لأرقام تقديرية من عندي فوق 60% تقريبا، ولو كان المذهب نقليا كالحنابلة ينخفض التفكير العقلي لأدنى مستوياته لأرقام تقديرية من عندي 5% تقريبا مع ارتفاع كاسح لنسبة التفسير النصي والإيمان بحاكمية الروايات وظاهر الآيات، وهذا يعني أن فكرة حصر الفرقة أو الطائفة المسلمة باتجاه تفسيري كلي هي فكرة خرافية، فالمعتزلة ليسوا عقلانيين بالمطلق وتفاسيرهم تعج بالروايات وأشهرها تفسير الكشاف للإمام الزمخشري المتوفي عام 538هـ / 1143م
ويمكن القول أن هذا التفسير المعتزلي الذي لزم في الغالب أصول الاعتزال الخمسة هو التفسير الوحيد المتبقي كاملا من تراث المعتزلة بعد حرقه واضطهاد مفكري المعتزلة في عصريّ المتوكل بالله العباسي في القرن 3هـ ثم القادر بالله في القرن 5هـ، ويعد أشهر تفاسير المعتزلة الأخرى وهي لأبي مسلم الأصفهاني المتوفي عام 322هـ وأبي بكر الأصم المتوفي عام 240 هـ لم نعثر عليها كاملة ولكن باجتهادات محققين معاصرين نجحوا في استنباط هذا التفسير المعتزلي من تراث السنة والشيعة، ويقصدون بذلك أن تفاسير هؤلاء المعتزلة ذكرت في معرض الاجتهاد والتنوع في كتب مفسري السنة والشيعة كتفسير الإمام فخر الدين الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، وتفاسير الفقهاء الشيعة كالطوسي المتوفي عام 460هـ المعروف (بالتبيان) والطبرسي المتوفي عام 548هـ المعروف (بمجمع البيان)..
وهذه نقطة تُحسَب لهؤلاء المفسرين الذين احتجوا بآراء المعتزلة أو نقلوها دون ذم وقدح مثلما يحدث من غالبية مفسري القرآن الآخرين ممن يرون الاعتزال مذهبا بدعيا لا يجوز مدحه فضلا عن الاحتجاج به..
أشير مرة أخرى أن مذاهب تفسير النص الديني محكومة بمذاهب الناس، مما يعني أن مذاهب تفسير القرآن هي نفسها مذاهب الناس واختلافاتهم في الحياة، لكن السائد من تلك التفاسير هي (النصية الروائية) لحاكميتها السياسية والاجتماعية بالأساس، فالتفسير النصي التقليدي تأثر بعوامل السياسة والجغرافيا واللغة والمكان والمصالح..ومن هذه البيئة خرجت تفسيرات النصوصيين (سنة وشيعة) لتحاكي رؤية الحكومة للدين..ولأن هذا التفسير هو وليد البيئة والمصالح فيفضله الناس لتوافقه مع مصالحهم الخاصة بالأساس، فالجماهير تحب التفاسير النصية الروائية لتوافقها مع رغباتهم وأيدلوجياتهم الفكرية، وأبرز مثال على ذلك أن مجتمع السنة يفضل تفسير القرآن بطريقة سنية تتوافق مع مصالحه وتقديسه للصحابة، ومجتمع الشيعة يفضل تفسير القرآن أيضا بطريقة شيعية تتوافق مع مصالحه وتقديسه لآل بيت الرسول.
ومن ذلك نرى أن الحقيقة الفكرية في التفسير غائبة بشكل شبه كلي أو ليست لها الأولوية على الأقل، فالحقيقة الفكرية يلزمها شكا وتحليلا وتوضيحا وجدلا غير محدود، فالتفكير حينها يجب أن يكون متجردا من الأهواء والرغبات ليُخلص تماما إلى العلم، وهي مسألة صعبة بالتأكيد لا ينجو منها الفلاسفة ما بالك برجال الدين والعوام؟..وفي ذلك يقول الفيلسوف التفكيكي "جاك دريدا" أن الإنسان هو أسير رغباته وأهوائه فيسقط ذلك على نظرته للحياه والمقدسات ، مما يعني أن الأحكام المسبقة هي سمة عامة للبشرية دون تمييز، لكنها مختلفة وتتباين حسب قدرة الفرد على التفكير العقلاني وصدقه ووضوحه وتجرده من المصالح، وفي رأيي أن من يحصل على تلك الشروط اللازمة للبحث هم أقلية نادرة جدا تكاد تكون معدومة في بعض المجتمعات.
وهناك سببا آخر لغياب الحقيقة الفكرية عن تفاسير المسلمين في الغالب وهو غياب (مصدر المعلومة) فتفاسير الرسول والصحابة وآل البيت للقرآن (غائبة) ولا يمكن القطع بما هو موجود منها لكونه خبر آحاد ظني الثبوت، ولا يمكن الثقة في تلك الروايات الصادرة عنهم لتضاربها الشديد وتعصب المذاهب المختلفة لها ..مما يشير إلى أن نشوئها الأصلي كان مظروفا زمكانيا لا يمكن العول عليه، وهنا تبرز مشكلة تفسير القرآن الكبرى أن غياب مصدره عن الصحابة والرسول وآل البيت جعل النص القرآني عرضة للاجتهاد والتفسيرات المغلوطة والمتشددة التي تنزع في محورها لخدمة الحكام وخواص الناس، مثلما أفتى بعض الفقهاء مثلا في نسخ آية السيف في قوله تعالى "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم" [التوبة : 5]
حيث قالوا أن تلك الآية نسخت كل آيات العفو والصفح مثلما قال الإمام القرطبي في تفسيره، والهدف من هذا النسخ المزعوم هو إباحة الغزو للسلطات ضد المخالفين وعدم تقبيح حروب الأمراء بالمطلق، فلو حدث ذلك في وقتٍ كان فيه المسلمون أقوياء بل كان العرب هم القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط نفهم على الفور أن الإباحة خرجت من موطن قوة، ورغبات سلطوية مسبقة جعلت الدين مصدراً للحشد العسكري مثلما كان عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون كمثال..
وبالطبع حين يغيب مصدر المعلومة التفسيرية للقرآن تحضر على الفور أحاديث وروايات نصية تكون هي المهيمنة على النص الأصلي لقطع الفرص عن اعتراض المفكرين وجماعات المعارضة السياسية، ومن هذه الأجواء خرجت مزاعم أن السنة (مصدرا للتشريع) بل هي (تنسخ القرآن) وفقا لجمهور مذهب السنة والجماعة، وتم تعريف تلك السنة بالروايات فقط لأسبقية تقديم مبدأ النقل على العقل بفعل الصراع ضد المعتزلة، مما يعني أن القول بحاكمية الروايات والأحاديث وهيمنتها على القرآن خرجت في ظل صراع مذهبي حاد ضد المعتزلة والفلاسفة وأهل الرأي..مما أعطاها زَخَما وبُعدا سياسيا كبيرا صار فيه الاعتراض على حاكمية تلك النصوص يمثل في مضمونه الكفر بالله وفقا لتعريف سلطة الخليفة هذا الزمن بظلِ الله في أرضه وأنه الموكل من قِبَل الخالق لإدارة شئون الناس كما جاء في أقوال هؤلاء الأئمة عن القضاء والقدر..(المذهب الجبري)..
وبالتالي قال الفقهاء أن السنة هي (وحيا ثانيا) بعد الوحي الأول، لكن التصريح بهذا الوحي لم يصدر من الأولين وسلف المسلمين بل صدر مؤخرا من علماء الوهابية الذين كانوا أكثر صدقا مع أنفسهم في تمثيل التراث وتجسيد أحداثه التاريخية على الأرض، والأسئلة الفورية الموجهة لهؤلاء: هل الوحي عن الله يجوز تصنيفه لصحيح وضعيف وحسن ومدرج ومقيد..إلخ؟..أم تلك صفات بشرية ألصقت على الروايات لتهذيبها من الوضع والاختلاق؟..وهل الوحي فيه متواتر وآحاد أم كله متواتر؟ وهل يجوز تدخل البشر في تصنيف (ثبوت الوحي) أصلا؟..فمعنى أن يتدخل البشر فيه تصنيف ثبوت الوحي يعني أن ذلك الوحي ليس إلهيا بل هو عمل بشري صِرف..
أشير إلى أن التفاسير النصية هي (ظاهرية بالعموم) ويمكن العودة لمحاضرتي على يوتيوب في شهر مايو الماضي 2021 بعنوان "فلسطين قضية إنسانية لادينية" شرحت فيها الظاهرية الفكرية وعمقها وهيمنتها على الفكر الإسلامي ، وبالخصوص مذاهب تفسير القرآن، ولدراستي المنشورة بالحوار المتمدن في نفس الشهر بعنوان "خطر الفكر الظاهري على قضية فلسطين" واختصار ذلك: أن الفكر الإسلامي بعمومه – سنة وشيعة – ينزع لتفسير النصوص سواء كانت (دينية أو أدبية) بطريقة ظاهرية مهتمة فقط بظاهر النص والوقوف على حروفه المرسومة وتخيلاته في الذهن دون الغوص في ما وراء ذلك النص ومعانيه المضمرة سواء كانت لغوية أو فلسفية ومنطقية..وهذه أحد أكبر آفات الفكر الإسلامي التي تسببت في غياب الفلسفة والعلم عن مجتمعات المسلمين بشكل شبه كلي..
بينما يقابِل هذا التفسير الظاهري الحرفي تفسيرات باطنية هي الممثلة للاتجاه الروحاني الذي سقناه في المقدمة، ويعني عدم كفاية ظاهر النص لمعرفة الحقيقة، والنزوع في ذلك لتأويلات لغوية ونفسية وعقلية أحيانا للنصوص..فالتفسير الباطني هو التفسير الروحاني الذي فهمه العلماء من قوله تعالى عن القرآن" لا يمسه إلا المطهرون" فقالوا أن التطهير في ذلك السياق هم الذين (تطهرت أرواحهم من الشرور والحقد والكراهية) ونتيجة لذلك التطهر (يكشف الله) معاني القرآن لنفس العارِف بالله أو الولي الصالح..ومن هذه الفكرة خرجت مزاعم "العلم اللدني" التي قال بها الإمام "أبو حامد الغزالي" المتوفي عام 505هـ / 1111 م ومعناها قذف الله العلم الإلهي لقلب الرجل الصالح دون واسطة ودون حاجة لاستخدام العقل أو توظيفه..
وهذه الرؤية أشبه بالغنوصية الضاربة في عمق التاريخ وظهرت كمصطلح في بدايات الفكر المسيحي إشارة لجماعات روحانية تفضل الفكر الباطني على ظاهر الكتاب المقدس، وقد تجلت هذه الباطنية عند الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" رغم تكفيره للباطنية الإسماعيليين في كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" مما يثبت ما قلناه في المقدمة أن جوانب التفسير الإسلامي للقرآن مختلفة وفقا لأهواء وقدرات ورغبات المفسير أكثر مما هي بحثا مجردا عن الحقيقة، والغزالي اعترف في كتابه الأخير فضائح الباطنية بكتابته السلطوية وأثر القرار السياسي في تصنيف هذا الكتاب ردا على الفاطميين تحديدا الذين شكلوا خطرا على سلطة بغداد في القرن الخامس الهجري.
ولقد قرر الإسماعيليون الرد على الغزالي وبالفعل صنف أحدهم وهو .."علي بن الوليد القرشي"..كتاب (دامغ الباطل وحتف المناضل) بعد موت الغزالي ب100 عام تقريبا..وقد قرأت الكتابين منذ 9 سنوات تقريبا ويبدو فيهما أن الغزالي تسرع كثيرا ، فردود القرشي كانت أكثر حجية أثبت فيها أن الغزالي لم يكن مُلمّا بالمذهب الإسماعيلي بما يكفي وردوده كانت استعلائية تكفيرية أكثر منها علمية محققة وغلطات رجل القش وتسميم البئر كانت كثيرة جدا في كتاب الغزالي الذي يعد الأشهر على الإطلاق في تكفير الفرقة الإسماعيلية وفقا للتصور السني، والغريب أن كتاب فضائح الباطنية الآن هو عمدة مكتبات السلفيين في الرد على الإسماعيلية ولم يكلفوا أنفسهم قراءة ردود القرشي العلمية مما يثبت للمرة الألف تأثيرات التعصب الديني المذهبي في تفاسير القرآن بالخصوص ، ورؤية الدين الإسلامي بشكل عام..
وليس الغزالي وحده من كان سنيا باطنيا، فالإمام الشهرستاني المتوفي عام 548هـ / 1153م له كتاب باطني ايضا في تفسير القرآن اسمه "مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار" رغم تكفير الشهرستاني للباطنية في كتابه "الملل والنحل" وكذلك للإمام الأندلسي "لسان الدين بن الخطيب" المتوفي عام 776هـ/ 1374م كتابا باطنيا أيضا في تفسير القرآن وهو "روضة التعريف في الحب الشريف" وقد تم إعدام المؤلف بسبب تأليفه هذا الكتاب الذي أثبت فيه انتقال الطاعون بالعدوى، وبالتالي كذب أحاديث (لا عدوى) في الكتب التسعة، وطريقة إعدامه كانت بشعة، حيث قتل داخل سجنه ثم أخرجوا جثته في اليوم التالي لحرقها ثم إعادتها مرة أخرى للقبر، ونموذج لسان الدين الخطيب هو لجريمة التفكير في عصور الانحطاط، التي تتكرر الآن سنة 2021 مما يعني أننا في عصر انحطاط أيضا، فقتل أو سجن فلان لمجرد اجتهاده في الدين ورده للأحاديث هو جريمة متكاملة مسئول عنها المجتمع كله بدءا من الحاكم والمثقفين مرورا بالكهنة وصولا للشعب..
كذلك هناك تفسيرات باطنية أخرى كثيرة للقرآن أذكر منها مؤلفات "علاء الدولة السمناني" المتوفي عام 1336م وسهل التستري 896م وعبدالكريم القشيري 1073م وأشهر هؤلاء هو الإمام الصوفي الشهير "جلال الدين الرومي" المتوفي عام 1273م، فلم يصنف الرومي تفسيرا خاصا للقرآن لكن أشعاره وحِكَمه الصوفية الباطنية كانت ملحقه بشكل مستقل في رؤية إدراكية لنصوص القرآن لم تسجل ككتاب..لكن سجلت كخواطر وإشارة للحكمة الرومية في التفسير الديني..
وهذا الاختلاف الكبير في التفسير مرده كما قلنا غياب التفسير الأصلي للرسول وصحابته وآل بيته، لكن هناك سببا آخر لا يقل أهمية وهو أكثر من 90% من آيات القرآن ليست مظروفة بأسباب النزول، وبالتالي وجدت لها الحاجة لرؤيتها بعيدا عن الروايات، برغم أن السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" زعم أن 50% من القرآن له أسباب نزول..وهذا غير صحيح، فبمطالعة أشهر كتاب لأسباب النزول وهو للإمام الواحدي النيسابوري المتوفي عام 468هـ / 1076م نجد أن الرجل طرح لعدة مئات فقط من القرآن أسباب نزول..وهذه نسبة تزيد أو تنقص عن 10% فقط من آي القرآن البالغة 6236 آية
وهذا أوجد اختلافا كبيرا بين المفسرين وصل لحد التكفير واللعن كما تقدم بشأن تفاسير المعتزلة وأهل الرأي والفلاسفة والباطنيين، مما استدعى السلطة أن تحكم هذا التفسير (بدستور أعلى ) يكون مهيمنا على عمليات التفسير ولا تخرج عنه البتة، فكان اختراع ما يسمى "علوم القرآن" وقد طرحت مقالا خاصا عن ذلك في شهر أغسطس الماضي 2021 بعنوان "ًأصول ما يسمى علوم القرآن" وهو منشور في موقعي بالحوار المتمدن، وأنقل لحضراتكم جزء منه فيما يخص ثبوت تلك العلوم:
" علوم القرآن لا علاقة له بالنبي والصحابة والتابعين، فقد عجز الفقهاء المعاصرون عن إثبات نسب كتبه الأولى للسلف الأول، فنسبوا كتبا منحولة لرواة وفقهاء سابقين كقتادة بن دعامة وابن شهاب الزهري ونافع كأشهر راوة في العصر الأموي، لكن بالتحقيق تبين أن هذه الكتب صنفت بداية من القرن الرابع، أي بعد موت قتادة وابن شهاب ب 200 عام على الأقل.
فكتاب مسائل "نافع بن الأزرق" في غريب القرآن ذكر فيه أئمة الحديث الستة والشافعي، برغم أن نافعا متوفي سنة 65 هـ أي صنف الكتاب بعد وفاة نافع ب 300 سنة تقريبا ،ثم نسبوا كلام نافع لابن عباس لتكون هذه المحاولة هي الأقدم على الإطلاق في تأليف علوم القرآن ونسبها لصحابة، وأما كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة بن دعامة فمؤلفه الحقيقي هو " أبو القاسم بن سلامة المقري" المتوفي سنة 410 هـ، بعد وفاة قتادة ب 300 سنة،ولا يوجد أقدم من أبي القاسم في توثيق كتاب بن دعامة، ولمزيد من الخداع والتدليس قام المقري بنسب رواية الكتاب لتلميذ قتادة "سعيد بن عروبة"
أما كتاب الناسخ والمنسوخ لابن شهاب الزهري فهو كارثة في حد ذاته، لأن أقدم مخطوطة للكتاب كتبت بخط (النسخ) الذي اخترعه "ابن مقلة الشيرازي" أوائل القرن الرابع الهجري، والرواية الوحيدة للكتاب هي لابن الحسين السلمي المتوفي سنة 412 هـ أي بعد وفاة ابن شهاب ب 300 سنة تقريبا، ومن غرائب ما فعلته السلفية والأزهر في توثيق كتاب الزهري في الناسخ والمنسوخ..أنهم لم ينتبهوا أن ابن الحسين السلمي نسب الكتاب للزهري برواية "الوليد بن محمد الموقري" توفى 182 هـ وهو في حكم الحديث (متروك كذاب) فكيف قبلوا توثيق الكتاب وراويه الوحيد كذاب؟..هذا بافتراض صدق السلمي..!
من هنا تبين أن أقدم كتب منسوبة لصحابة وتابعين في ما يسمى "علوم القرآن" هي مكذوبة، وظهرت بداية من القرنين الرابع والخامس الهجريين في العصر العباسي الثاني، وهو التوقيت الذي بدأ فيه التصنيف في علوم القرآن ردا على المعتزلة والفلاسفة من جانب، ولتوفيق النص مع العلم من جانب آخر، ولخدمة البلاط العباسي من جانب مختلف ..علما بأن العصور القديمة كان فيها الحُكم دينيا..أي كان الخليفة يحكم بالاشتراك مع رجال دين هم مجموعة معاونيه وجوقته ولسانه بين الجماهير.." انتهى
وفي تقديري أن هذا التزوير لم يكن صغيرا بل كان كبيرا جدا حصل على أوجه ونشاطه في القرن الخامس الهجري بعد الوثيقة القادرية، وإلزام كافة المسلمين باتباع رأي الأشاعرة وأهل الحديث واضطهاد المعتزلة والشيعة والباطنية بالخصوص..إضافة لبعض الحنابلة ممن قالوا بالتجسيم، وبمتابعة تواريخ وفيات مؤلفي كتب علوم القرآن الأصليين كالقاسم بن سلامة المقري 410هـ وابن الحسين السلمي 412هـ نفهم كيف حدث هذا التزوير وأسبابه بشكل مذهل، فهم كانوا يعيشون زمن القادر بالله..وظهور ذلك العلم فجأة – علوم القرآن- لا يمكن فصله عن الأحداث السياسية والفكرية الهامة التي حدثت في ذلك الزمن..
أختم بأن القرآن نص ديني مقدس كأي نص مقدس آخر بالنسبة لأصحابه، وتفسيره سوف يتأثر بعوامل السياسة والمجتمع والقبيلة والمصلحة، لذلك فمن يريد الحقيقة المعرفية بداخله لابد أن يُخضعه لعامل الزمان والمكان أولا لفهمه بطريقة واقعية دون إخلال بسياقه وظروفه، وأن استقراء أحكامه الكلية سوف يكون بعدة وسائل منها نقاش الآيات وفقا لأسباب النزول مع التفكير في تلك الأسباب وأهليتها للنص..وفيما دون تلك الأسباب يجري رد المتشابه إلى المحكم..وتعريف المتشابه هو (غير الواضح وغير المؤكد وظني الدلالة) بينما تعريف المحكم هو العكس أي (الواضح والمؤكد وقطعي الدلالة) وبالحصول على ذلك المحكم وتعداده بالقرائن تتجلى لنا أحكام القرآن الكلية التي لن تخرج من مبادئ (العدل والحرية والعمل الصالح) كمسارات عامة وأحكام كلية أولية تحكم الدين الإسلامي مع الغير..
ولأن الإسلام دين متمايز عن غيره فأحكام القرآن الكلية يجب أن تتضمن (الوحدانية و النبوات والصفات والوعد والوعيد)..لكن تلك الأحكام هي ما تصنع التمايز وتُجسد الإسلام كانتماء لا غير..لا كمحاولة فرضه على الآخرين..ومن تلك الزاوية تكون الأحكام القرآنية الكلية الأولى وهي (العدل والحرية والعمل الصالح) هي المهيمنة..وهي التي يجب أن يتصف بها سلوك المسلم بشكل عام..