إسحاق بندري - قراءة في رواية "الإيبس؛ طائر الأشمونين المضيء" للأديب والشاعر الكبير سفيان صلاح هلال

الإيبس؛ أنشودة في مديح الحكمة والأسطورة

تظهر صورة البطل الرياضي ماركوس أوريليوس أسكلپيادس المُلَقَّب بهرمودورس في العديد من المواقع الأثرية بالعاصمة الإيطالية روما, ولقبه يشير إلى مسقط رأسه؛ هرموپوليس في العصر اليوناني الروماني, خمنو في مصر القديمة صاحبة ثامون الآلهة التي سبقت خلق العالم وحيث تشير الأسطورة إلى بدء تكوين العالم فيها, أو الأشمونين كما نعرفها. وكان من المعتاد وقتها لأبطال الرياضات العنيفة كالملاكمة والمصارعة في ذلك العصر عندما يفوزون في المباريات والبطولات أن يتلقوا المكافئات من مجلس مدينة هرموپوليس*.
هرموپوليس هي مدينة الإله هرمس وهو المقابل الإغريقي للإله تحوت المصري, رب الحكمة ومبتكر الكتابة, وكان معبده واحدًا من أكبر المعابد في مصر, وأعيد بناؤه إلى أن اكتمل في عصر بطليموس الأول تحت إشراف كبير كهنة تحوت بادي أوزير أو بيتوزوريس ومقبرته في تونا الجبل المتاخمة للأشمونين, حيث يوجد معبد سيراپيس والذي كان يتوافد عليه المصريون من أنحاء البلاد حاملين مومياوات طائر الإيبس المحنطة والمعروف بأبي منجل لتكريم الإله تحوت, إذ يُمَثِّلُ هذا الطائر حكمة تحوت ويصور معني كلمتي (يحب ـ يضيء) أي روح الحقيقة والربط بين العلم والحكمة والنور والحب. وطائر الإيبس عندما يقف على الحد الفاصل بين الماء واليابسة فكأنه يقف بين عالمين فكان ذلك دلالة عن الإله تحوت الذي كانت من صفاته الانتقال بين العوالم.
من هذا التوظيف للتاريخ العريق تنطلق رواية "الإيبس؛ طائر الأشمونين المضيء" لمؤلفها الأديب والشاعر الكبير الأستاذ سفيان صلاح هلال, والصادرة حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, لتسرد قصص أحفاد هرمودورس وبيتوزوريس, محبي الحكمة والعلم والاستنارة وصراعهم مع الواقع المناقض لأمجاد الماضي لبعث الحضارة من جديد. قصة مجتمع قروي صغير في وسط صعيد مصر, تدور أحداثها الرئيسة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين, ورغم شظف المعيشة ككل قرى الصعيد إلا أنها تتحلى بعراقة وأصالة تنفيان انقطاع الصلة مع تراث الأجداد, لدرجة تبدو فيها كمجتمع طوباوي ذي قيم راسخة, لا يلوث أبناءه حب الظهور أو العجرفة مهما ارتقوا, يحفظون ما تعلموه من شيم التواضع وعدم التكلف, عيوبهم وضعفهم الإنساني طبيعية لدرجة تثير تعاطف القارئ, بعكس ما يظهر من شر متعمد في الشخصيات من خارجها. كما تنصح حكمة الأجداد الخالدة: "لا تنتفخ أوداجكَ بعلمكَ الذي جمعته فما عرفتَ إلا قليلًا من بحر لا يُحَد."
الرحلات تبدأ وتنتهي بالأشمونين, أبطال الرواية تلتقي حيواتهم ومصائرهم بكل نجاحاتهم وإخفاقاتهم فيها. تبدأ الأحداث مع عودة الراوي المتكلم الپروفيسور عادل إسماعيل والذي لا تطغى ذاته الساردة على تعددية الأصوات في المشهد, تقرأ قصص أهله وأصحابه كما يسردونها. الأمر لا يقتصر على ربط التاريخ بالقصة المروية, ولكنه يمتد إلى شرح التحولات التي مر بها الوطن في تلك الفترة التي شهدت تصاعد المد الأصولي المتطرف جنبًا إلى جنب مع النزعة المادية الصرفة, بالإضافة إلى تفاصيل الحياة اليومية والعادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال, وكيف تبدلت العوالم الفكرية بداخل أذهان الشخصيات فشكلت ملامحهم وطرق تصرفاتهم.
الأحلام المُجهَضَة تمثلها شخصية "كمال" الشاب المتفوق دراسيًا والذي تتكالب عليه عوامل متباينة من الظروف الطاحنة. حلمه بدراسة الصيدلة تقضي عليه إصابته بعمى الألوان, نبوغه في دراسة الآثار وتوقع تعيينه بالسلك الجامعي ينهيه أستاذ جامعي فاسد يتعمد روسبه في مادته في السنة النهائية بعد أن كان محط الأنظار من التيارات الأصولية واليسارية والأمنية بل والكنسية أيضًا. قصة حبه العظيمة مع "نادية" يقف ضدها اختلاف الدين, ورغبة طائشة من "سامية" ذات الميول المتحررة والفكر الإلحادي للفوز بكمال, لتأتي النهاية المفجعة بمقتل نادية في حادثة مأساوية لا يد لأي أحد منهم فيها. فيفقد كمال صوابه وتبقى سامية متمسكة به في محنته الطويلة, رغم حالة النزق التي تظهر في شخصيتها في بداية الأمر إلا أنها تتغير جديًا عندما تكتشف زيف حياتها وفراغها, والملاحظة الفارقة هي حالة الإعجاب بالنموذج الأنثوي القوي الشخصية لدى "سامية" بالمقارنة مع "سحر" شقيقة كمال التي لم تستكمل تعليمها ولا تنال ما لسامية من حرية, بل ولا يريد لها أحد ذلك رغم إعجابهم الظاهر بسامية, بل إن سامية نفسها لا تتوقف عن عقد المقارنات عن مجتمعها ومجتمع كمال.
تتبدل أفكار كمال من الانشغال الطفولي بالمصير الأبدي للمختلفين عنه في الدين كحقائق لا تقبل النقاش, الأمر الذي يشكل أزمة وجودية لزميله رضا ذي الأصول البريطانية ـ المصرية والذي لم يحسم اختياراته العقيدية بعد. ولكن أزمة رضا تجد حلًا شافيًا بفضل انفتاح أبويه وتلقيه لإعادة التأهيل في بريطانيا, في إدانة واضحة لفرق الإمكانيات بين مجتمعين. إلى أن تنضج أفكار كمال بفضل دراسته للآثار وصداقته للعم المرسي والذي رغم بساطة تكوينه إلا إنه يحفظ تاريخ الأجداد ويعي قيمة المعالم الأثرية ويستوعب تفاصيلها فيبدو كامتداد لكهنة تحوت القدامى, فيتزايد الحس الإنساني لدى كمال, عندما ينشغل عقله بالأسئلة الحقيقية عن الهموم المشتركة للبشر وآمالهم وآلامهم, مهما تعددت المعتقدات واختلفت القناعات فالله يرعى الجميع والحياة والموت يسريان على الجميع, الأعراف المجتمعية تبدو مستمدة من طبائع الأمور والقوانين هي التي تصنع نفسها. قد تبدو الظواهر السطحية مخادعة تشغل البشر عن بواطن الأمور. فالنضج لا يأتي عبر النصائح الجوفاء ولكن بمواجهة الإنسان لتجربته وخوضه المعركة بنفسه واكتشاف حقيقة الأمور على ما هي عليه, فقد تكون على عكس كل ما نتصوره عنها. ولكن حياة كمال تنقلب إلى صراع كوني بمعاندة ظروف الحياة ولا تكتمل الأحلام المرجوة كما كان متوقعًا لها.
في حين إن شخصية "فايق" تمثل العقلانية المجردة الجافة, فهو يرى نفسه نبيًا للعلم, وعلى مثال تحوت الخالق, يريد أن يخلق عالمًا جديدًا ولكن من خلال قاعات المحاضرات وبحوث المعامل, يشغله أن يكون إنسانًا صالحًا نافعًا لمن حوله دون الدخول في تعقيدات الخلافات العقائدية, إذ يخلص إلى فكرة كيف تلاعبت السياسة مع الدين عبر التاريخ, فينصب اهتمامه على الدراسة والالتحاق بكلية الطب والسفر في بعثة لاستكمال الدراسة في علوم الأجنة والهرمونات واستحداث طرق غير تقليدية لعلاج أمراض الإنجاب, يظهر الفارق جليًا مع زوجته فريدة التي تحمل إيمانًا عميقًا بداخلها لا يناقض إخلاصها العلمي.
على جانب آخر فجزء من أزمة عادل إسماعيل صاحب الشخصية السمحة المحبة للعلم تنبع من مفهومه لفكرتي الحلال والحرام وخوفه من إساءة استغلال أبحاثه في الكيمياء الحربية لإبطال مفعول التفجيرات النووية بما قد يضر البشرية. ورغم إجلاله لما تعلمه في الولايات المتحدة وما تلقاه من دعم من أساتذته بعيدًا عن تعقيدات الروتين الإداري, تتضارب في عقله الأهداف والدوافع حيال الثواب والنفع والتربح من العلم. في حين إن زوجته هويدا تتفهم طبيعة المجتمع الأمريكي وتستوعبه لأن الحياة لديهم تجريب دائم دون حجر أو قيود, بعكس زوجها الذي ترك خلفيات تكوينه تؤثر عليه. ولكن الأزمة تتصاعد وتتحول إلى خلاف بين دولتين عندما تشتبك مع العلم الخلافات السياسية والمخابراتية, فيعود عادل إلى الأشمونين بحلم خائب لم يكتمل أيضًا وتصبح هويدا في حالة انبهار لدرجة الغرق التام في أساطير الأشمونين.
الأشمونين تقع على تلٍ عالٍ, كغيرها من البلاد التي بُنِيَت على أنقاض سابقاتها لأغراض عدة؛ كالحماية من أخطار ارتفاع فيضان النيل وهو السبب الظاهري, ولكن الدلالة الرمزية تكمن في إجلال العلم والحكمة وفي كونها مسكن كهنة تحوت وحافظي حكمته, فلابد أن تكون مكانتهم عالية, يتوجه إليهم الناس صعودًا, طلبًا لكنوز عالمهم العلوي الذاخر بالحكمة.
عبر صفحات الرواية يرسم لنا الكاتب ملامح بلدته ذات التاريخ العظيم, بكل ما طرأ عليها من تحولات. الأسطورة لا تنتهي, بل على النقيض تتجلى على الدوام في شخصياتها. بارقة الأمل الوحيدة هي حب العلم والحكمة والتنقيب عنهما, في ذخائر الأجداد وفي أروقة الجامعات, وتحذيره الواضح من خطورة المد الأصولي وبخس قيمة العلم. يقدم التوظيف التاريخي عن الأشمونين برقة دون أي شعور بالإقحام, بما يثير شهية القارئ للبحث عن المزيد. تلتقي الأساطير الشعبية مع تفاصيل الحياة اليومية على الطرق غير المُعَبَّدَة التي تطقطق كسر الفخار تحت الأقدام على طولها, ومن لا يفهم عظمة التاريخ ربما يعيرهم بذلك, إلا إنه واهم وعليه أن يطالع المزيد عن تاريخ حافل ممتد؛ تاريخ هرموپوليس ـ خمنو ـ الأشمونين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى