هشام العطار - بونابرته المصري تخرج المتلقي من دائرة التسلية إلى مقروئية الفكر... رؤية نقدية لرواية نشأت المصري

عندما كنت اتأمل لوحة "نابليون أمام أبو الهول" للفنان الفرنسي جان ليون وجدتها تصور لحظة تاريخية من حملة نابليون على مصر في عام 1798 حيث يظهر في اللوحة نابليون بونابرت وهو يقف بثبات أمام تمثال أبو الهول الشهير، الذي يعتبر رمزاً لعظمة الحضارة المصرية القديمة.

و تعبيرًا عن السيطرة والقوة الفرنسية في الأراضي المصرية، قام ليون بتصوير نابليون بونابرت بمظهر يوحي بالفخر والعزم والثبات، وهو ينظر بانتصار إلى تمثال أبو الهول الضخم لتأكيد سيطرته على مصر.

وكما رسم جان ليون لوحات عديده عن مصر مثل"ثورة القاهرة" و "تاجر السجاد" و "نابليون في مصر" من وجهة نظر فرنسيه ..كذلك قدم نشأت المصري إحدىعشر لوحة علي هيئة فصول في روايته التاريخية "بونابرته"

وقد اختلفت رؤية ليون الفرنسي لنابليون عن نظرة الروائي نشأت المصري اختلافا كليا

فبينما رآه ليون قائدا حقق انتصارا لفرنسا على حضارة اسلاميه رأه نشأت المصري دكتاتورا متغطرسا فاسد الاخلاق أتى مصر بحملته و علمائه و جنوده غازيا لا مبشرا بحضارة ولا ساعيا لنهضه .


1713880864284.png

بناء الشخصيات
جاءت الروايه ببناء ثري و متنوع للشخصيات التي رسمها نشأت المصري بحرفيه و أضاف إليها من الرتوش ما يطبع فيخيالالمتلقي صورالشخصيات درامية متقنةالصنع تنوعت ما بين شخصية محورية واحدة و عدة شخصيات رئيسة و أخري هامشية.

إنه من المستغربأن الكاتب اختار نابليون كشخصية محورية لروايته
فقد اعتدنا كقراء أن يكون بطل رواياتهشخصية محلية تعكس مشاكل مجتمعية أو تحمل فكرة فلسفية ولكن البطل هنا شخصية أجنبيه تحمل فكرا معاديا للمجتمع الشرقي ، وقد رسمها المؤلف برتوش و تفاصيل دقيقة فهو :
# متغطرس
# قصير القامة ذو كرش صغير
# يحتقر الشرق " إنه الشرق الحقير" وكذلك يحتقر نفسه " بالرغم من أنني من أوروبا الاكثر حقارة"
# منافق يدعي الاسلام لإضعاف مقاومة البسطاء ضده
# ماكر ذو حنكة عسكرية في القتال
# خائن زان ديوث يعلم أن زوجتة جوزفين خائنة ، كما يخون قائدا من قواده مع زوجتة كما أن نابليون له عشرات العشيقات داخل فرنسا وخارجها
# وصفه المؤلف على لسان حال ديزيه أحد قواده بأنه متكبر حقود لايفي بالوعد ، أسود القلب يحترف التآمر لكنه قائد مثقف أحمق أحيانا إلا أنه يهتم بدراسة كل خطوه يخطوها لتحقيق أهدافه.

الشخصيات الرئيسة:
محمد كريم : حاكم الاسكندرية وطني نبيل له شعبية واسعة
مصطفى الخادم : زعيم مصري أكمل النضال بعد استشهاد محمد كريم .
بهيه: ابنة مصطفي الخادم مناضلة مجاهدة و تقاوم الفرنساوية بشراسه.
مراد بيك: حاكم مملوكي مصري خمسيني كريم ، لكنه جبان و أناني يخدم نفسه فقط ، نذل قوي البنية كالثور، لحيته كثة سوداء، حاجباه كثيفان و ندبة على خده الأيسر

بحري عثماني : جاسوس للفرنساوية
يعقوب : خائن مصري متعاون مع الفرنساوية
حافظ : جاسوس مصري يعمل لصالح الفرنساوية

شخصيات ثانوية (لاستكمال الصورة و ايضاحالفكرة):
البحر : يحاور نابليون في رحلة الغزو ليكشف عن فلسفة نابليون الاستعمارية و يعكس فلسفة المؤلف)
فولفيه : عالم كبير وسكرتير نابليون المخلص، ينافقه و يمدحه .
كازابيانكا : قائد السفينة
برتييه : قائد الاركان
سولكوفسكي : ضابط يعرف العربية
مونج: من علماء الحملة
ديزيه : من قواد نابليون
بولين ؛ عشيقة نابليون و زوجة أحد قواده



1713880978069.png

البناء الدرامي و الفلسفي للرواية
صنع المؤلف بناء دراميا مستوحي من القصة التاريخية ، كقالب متين يصب فيه الفكر الفلسفي الذي يعبر عن مرئيات الكاتب ونظرته لفكرة الدولة الوطنية المصرية و ايديولوجياتها .
لم تختلف الحدوتة التاريخية كثيرا عن الحكاية الدرامية بأحداثها التاريخية و ثوابت أحداثها الأساسية .
وقد تضمنت تلك الأحداث الكثير منالتفاصيل الدرامية التي لم تثبتتاريخيا، ولكن للكاتب الروائي أن يضع من خياله تلك التفاصيل ،و كمثال علي ذلك قصة تمثيل بهيه ابنة مصطفي الخادم علي الجندي الفرنسي داخل المسجد كي تطعنه،وقدأضفت تلك الرتوش التخيليه جمالا علي الصراع الدرامي و زادت من عناصر التشويق التي تحفز المتلقي لمتابعة الأحداث حتي النهاية.

أما عن الافكار الفلسفية التي صبها المؤلف في هذا القالب التاريخي فهي تبدأ من الاهداء حيث
يهدي المؤلف روايته الىالليل الطويل،فهو يشعر بطول فترة غياب المجتمع المصري عن ركب الحضارة ، فينادي الليل الطويل أو هذا الغياب الطويل كي ينقشع .
وفي اللوحة الاولي،حوار بونابرته مع البحر و فوفليه و كازابيانكا،كلهم خاضعين لقوة نابليون؛ فالبحر مع من يغلب، و القواد أدوات في يدالديكتاتور .

إن نظرة نابليون للشعب المصري نظرة استعلاء و تكبر و استعباد،إنه الشرق الحقير كما يقول بونابرته،وتجدر الإشارة هنا إلىأن نشأت المصري يقصد أن يستنفر مشاعر المصريين بعبارات مستفزة على لسان نابليون، منها ما يقوله في اللوحه الاولي ،
"إنهم منذ مئات السنين يفيقون بعد فوات الاوان، سنستغل صبرهم الأحمق و نكتم انفاسهم و نسوقهم أمامنا كالحمير"
وفي اللوحة الثانية يقول " هؤلاء المصريون رعاع سنضعهم بين نارين : الخوف و التمني"
والأمثله على ذلك كثيرة.
وهذا هو منهج استفزاز و إزعاج المتلقي ليتحول إلى قارئ ، فنشأت لا يريد ان يقدم للمتلقي رواية لذيذه شيقة يستمتع بها ليتسلى و ينام، و لكن الكاتب يريد أن يزعج هذا المتلقي لكي يفيق و يفكر و يدرك سلبياته .

**وانني لأتفق مع المؤلف في منهجه الاستفزازي للمتلقي، و لكن أختلف معه في بعض الافكار الفلسفية ،منها ما يقوله في اللوحة الأولي علي لسان نابليون :
"لقد قدم النظام العثماني أروع هديه لنا فتحت اسم وحدة المسلمين تم تجميد اقليم مصر علي مدي ثلاثة قرون" ... الكاتب متأثر هنا بالآراءالغربية المعادية للدولة العثماني
وكان نابليون مدركا للدور العثماني،بدليل انه عندما جاء إلي مصر ادعي أمرين،أولهما اأنه أعلن إسلامة لأنه علم أن المصريين يحبون الإسلام،و ثانيهما أنه ادعى أنه صديق للخليفه العثماني لأنه علم أن الخليفة العثماني له سمعة طيبة في أوساط المصريين ،و أنه جاء لينقذ المصريين من ظلم المماليك لا من ظلم الحاكم العثماني .
*الهوية المصرية والحقيقة التاريخية
إن محمد كريميتكلم مع نابليون بمنطق وطني مصري كما صورت الرواية في اللوحه ٣ ص٢٧ " لأن الهواء الذي تتنفسه الآن هواء مصري" بينما المعروف في ذلك الوقت أن الهوية الوطنية المصريةلم تكن هي التي تتحكم في مشاعر الناس، و لكنها كانت الهوية الإسلامية ،فكان محمد كريم في الواقع يتكلم بمنطلق شعبي إسلامي .


1713881063030.png


لغة السرد و الحوار:
صيغت الرواية على هيئة حوار بين الشخصيات الرئيسة يربط بينها سرد الراوي العليم حيث حظيت شخصية بونابرته على نصيب الأسد من إدارة الحوار.
وجاءتأغلب العبارات في لغة سردية مباشرة مطعمة ببعض التعبيرات اللغوية المبتكرة و المدهشة، مثلما وصف حال نابليون عند دخولة مصر لأول مره بقوله
" تلونت مشاعر نابليون بالأمل المشوب بفقاعات من الخوف"وعندما عبر الكاتب عن حزن محمد كريم على مقتل البدو على رمال العجمي استخدم تعبيرا ملفتا عندا قال " و بكى بكاء مالحا حنقا و ندما"،ووصف ابتسامة نابليون عندما قابل محمد كريم بأنها" ابتسامه حجرية" و هذا التعبير مستوحى من مناخ الاحجار الأثرية و هو أبلغ تعبير عن إخفاء المشاعر الحقيقية و اظهار وجه آخر مرسوم بهدف التضليل.

وبعدما انتصر نابليون و فر مراد بيك أمامه ابتهج بونابرته فقال"شعت إضاءات الفرح في صدر نابليون و ابتسمت شفتاة الحمراوان للدم الأحمر، و الشوارع تعسه خرساء تتعذب تحت حذاء نابليون و عساكره"،أما لحظة استشهاد محمد كريم فقد كانت للمؤلف لغة ملحمية تشعل حرارة الحزن،فيصف معاناتهعند اختراق الرصاص لجسده بقولة:" تأوهت الريح و تأوه النور و تأوهت ألأرض تحت قدميه و لم تتحمل الطيور جنون المشهد فصبغت الفضاء بولولاتها " و " اتشح النسيم بالسواد و لفت مصر عباءة حداد بها ثقوب حمراء هي الطلقات التي اخترقت جسده الشريف"
وكانت تلك العبارات التعبيرية المبتكرة مؤثرة تأثيرا بالغالأنها ماكانت تخرج من المؤلف إلا اذا تطلبتها حاجة النص لبلورة حرارة المشاعر.

أما بالنسبة للعبارات ذات الرسائل المباشرة ،فقد وظفها المؤلف في أغلب المواطن على لسان الراوي وكذلك في العبارات التي جاءت على لسان بونابرته مثل
"و سيحفرون ايضا قناة السويس لصالحنا"
"انهم ضعفاء و فقراء على رغم ثراء مواردهم"
" إن مصر ثلاث فئات :
المماليك و هم يملكون القوة و السلاح
الشعب و هم عبيد يمجدون أسيادهم
المشايخ والفاهمون وهم قلة ثورية"
"ها أنذا أعمل بحرية لنهب خيرات مصر"
والأمثلة غيرها كثير.
و إنني أري أن المباشرة هنا مقصودة، فهي لا تضعف النص و لكن على العكس تماما فهي من وجهة نظري عامل من عوامل قوة و جمال النص، نظرا لكونه نصا روائيا تاريخيا يهدف منه الكاتب بالأساس إلى استفزاز و استنفار المتلقي و دفعه الي أزمه فكرية تساهم في كسر الركود الفكري و سيطرة التفاهة على الساحة الفنية و الثقافية من أجل إعلاء القيمة.

* هشام العطار *

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى