سعد عبد الرحمن - شهيد الهوى العذري..

في الكتاب الأشهر للإمام أبي محمد علي بن حزم الأندلسي "طوق الحمامة في الألفة والألاف" إشارة خاطفة عند "الكلام عن ماهية الحب" إلى خبر عبيد الله بن عتبة بن مسعود الذي عشق فقتله العشق.
وعبيد الله هذا ليس شخصا عاديا فهو واحد من ألمع فقهاء المسلمين وكبار رواة الأحاديث في عصر صدر الإسلام، بل هو أحد فقهاء المدينة السبعة المقدمين في العلم والنسك والعبادة، روى عن جماعة من وجهاء الصحابة منهم ابن عباس وعمه عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وروى عنه ابن شهاب الزهري وغيره رضي الله عنهم جميعا.
كان ابن عباس يقدمه ويؤثره لمكانته وعلو كعبه في الفقه والنسك، وقال عنه ابن شهاب الزهريّ أدركت أربعة من بحور العلم، وذكر منهم عبيد الله بن مسعود.
كان عبيد الله مرهف الشعور مشبوب العاطفة ولذلك كان يقول الشعر تنفيسا عما يعتلج في وجدانه من مشاعر وأحاسيس، وقد سأله أحدهم: أيقول الشعر من هو في ورعك ونسكك؟ فقال له عبيد الله: إن المصدور (أي المصاب بداء الصدر) إذا نفث برأ (أي إذا أخرج ما بداخله شفي من مرضه).
لم يمنع فقه عبيد الله ولا نسكه من الوقوع في الحب فأحب امرأة حبا ملك عليه شغاف قلبه وقال فيها وفي تعلق قلبه بها الكثير من الشعر ومن ذلك قوله:
فلو أكلت من نبت دمعي بهيمة .. لهيج منها رحمة حين تاكله
و لو كنت في غل فبحت بلوعتي .. إليه للانت لي و رقت سلاسله
و لما عصاني القلب أظهرت عولة .. و قلت ألا قلب بقلبي أبادله
وفي الأبيات الثلاثة يصور مدى قسوة قلب محبوبته عليه حتى إنه ليبحث عن قلب آخر يبادله بقلبه المنهك حبا والموجوع هوى وعشقا، ومن أشعاره الجميلة في وصف شدة حبه ووجده بمن أحب:
أحبك حبا لو علمـــت بمثلــــه .. لجدت و لم يصعب عليك شديد
و حبك يا أم الصـــبي مـدلهي .. شهيـــدي أبـو بكر و أنت شهيد
و يعلم وجدي القاسم بن محمد .. و عروة ما ألقى بــــكم و سعيد
و يعلم ما أخفي سليمان علمـه .. و خارجة يبــــدي لنـــــا و يعيد
متى تسألي عما أقول فتنجزي .. فللحب عنــــدي طــارف و تليد
وفي الأبيات السابقة يستشهد عبيد الله على صدق حبه لمحبوبته بأصحابه الستة من فقهاء المدينة ويذكر أسماءهم واحدا واحدا في الأبيات الثاني والثالث والرابع وهم بأسمائهم الكاملة: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد بن ثابت، ومن أشعاره أيضا الجميلة التي يصف فيها ما آل إليه حاله من التعب النفسي والألم الوجداني بسبب كتمانه لعشقه وهواه:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتـــم .. و لامك أقـــــوام و لومهمـو ظلم
و نم عليك الكاشحــــــون و قبلهـــم .. عليك الهـــوى قد نم لو نفـع النم
و زادك إغراء بها طول بخلها .. عليك و أبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حســـرة .. على إثر هند أو كمـن سقي السم
ألا من لنفــس لا تمـــــوت فينقضي .. عناها ، و لا تحيا حيــاة لها طعم
أ أترك إتيان الحبيــــــــب تأثمــا ؟ .. ألا إن هجران الحبيـب هو الإثم
فذق هجـــرها ، قد كنت تزعـم أنه .. رشــاد ألا ربـــما كـــــذب الزعم
وقد أضر كتمان الحب بعبيد الله بن عتبة بن مسعود فعلا فتدهورت صحته ومات شهيد الهوى والغرام فصار ثاني اثنين يقتلهما العشق من الشعراء العرب والأول هو عبد الله بن عجلان النهدي القضاعي (شاعر جاهلي توفي عام 50 ق.ھ) وقد ذكره عبيد الله في البيت الثالث من أبياته السابقة، ولما سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - بوفاة عبيد الله قال فيه قولته الشهيرة:
"هذا شهيد الهوى لا عقل ولا قود" أي قتيل بسبب العشق ليس له دية ولا قصاص .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى