المستشار بهاء المري - الهلباوى خطيئة لا تعرف الغفران

بجريدة القاهرة الغرّاء
الهلباوى خطيئة لا تعرف الغفران
من هو الهلباوي:
قبل أن نذكر أثر حادثة دنشواي على الهلباوي بك، نَجم المحاماة في مصر وأول نقيب للمحامين، نَعرض لشخصيته بالقدر الذي يقتضيه مَقام هذا المقال.
ولد الهلباوى مساء يوم الخميس الموافق 30 أبريل سنة 1858 لأب وجَد عربي من أصل مَغربي، ونشأ في قرية العَطف بمديرية البحيرة، ولما بلغ أشده دخل الأزهر، وتتلمذ هو وسعد زغلول ومحمد عبده، على يد جمال الدين الأفغاني، فاغترف من كنوز هذا الفيلسوف الثائر أسباب الثورة والتمسك بالاستقلال. ولما ثار العُرابيون شايَع الثورة ولم يُشايع الثُوار، فتمَّ القبض عليه وسُجِـن ثمان سنوات وهو في حدود العشرين من عُمره، فعرَف بذلك الخصومات السياسية.
وبعد ولاية الخديوي " توفيق" سنة 1882 نُفى الأفغاني ومحمد عبده، وهجَر الهلباوى الأزهر إلى بلده يُتاجر في سوق القطن، وكان لناظر النظار (رئيس الوزراء) أرض في "صَا الحَجر" طغى عليها الماء؛ فسَخَّر وكيل المديرية الناس لمقاومة الفيضان، فكتب الهلباوى مقالا في "جريدة التجارة" بالإسكندرية يُندد به وبصاحب الأرض، فسِيق إلى مصر مَصفودا ورَدوه إلى السجن، ولما ناقشه رياض باشا ولمس نبوغه أطلقوا صراحه وعاد إلى بلده، فكان أول من أُخذ بجريرة القلم.
وبعد عودة محمد عبده من منفاه، تولى إدارة جريدة "الوقائع الرسمية" فاختار سعد زغلول ليعمل معه، واختار رياض باشا الهلباوى، واختصا في الجريدة بالأعمال الإدارية والقضائية، فبدأ اتصال محمد عبده وسعد والهلباوى بالعمل القضائي، ولكن الهلباوى سرعان ما ثار على الشيخ محمد عبده فعزله من الوقائع.
- الهلباوي والمحاماة:
في سنة 1883 عُيِّن الهلباوى سكرتيرًا لرئيس مجلس النواب محمد سلطان باشا، ثم سكرتيرًا للبرنس حسين كامل "السلطان حسين" سنة 1885 للسفر معه حين عُين الأخير مأمورًا لأعالي السودان، وعندما بلغا "حَلفا" عادا دون أن تتم الرحلة، فتَطيَّر منه البرنس وألغى الوظيفة، فكلف الهلباوي محاميًا يرفع له دعوى أمام القضاء مُطالبا بالتعويض، ولما ذهب إلى المحكمة شَعر أن مكانه فيها، وليس في مَقاعد المتقاضين السلبية، التي يرين عليها قلق الانتظار، إنما في مواقف المحامين التي تَستثير الإعجاب، فكان له ما أراد،، فصار أشهر محامى في مصر لمدة خمسة وخمسين سنة.
قَيَّد الهلباوى نفسه في المحاماة؛ ليكون ثاني محام بعد سعد زغلول وأول نقيب للمحامين في مصر، وفى يناير 1886 راح يُمارسها أمام المحاكم الأهلية وكان عُمره يُقارب الواحد وثلاثون عامًا، ولم يكن يُشترط فيمن يَعمل بالمحاماة أن يكون دارس قانون.
فقد استأجر غُرفة وضَع فيها مكتبًا "بطنطا" وسرعان ما تألق وذاع صيته بسرعة البرق، وفى أول قضية يترافع فيها يدفع بدفوع غاية في الأهمية "شخصية العقوبة، حجية الأمر المقضي، عدم جواز محاكمة المتهم مرتين" وأبهر القضاة بمرافعاته ولغته الرصينة وموهبته في الارتجال، وصفَّق له الجمهور في الجلسة، وصار نَجمًا.
بداية المجد والشهرة:
نصحه القاضي البلجيكي "لوجريل" أن يَبرح طنطا إلى آفاق أوسع وألمع، فنزح إلى القاهرة في عام 1889 التي كان بها أساطين المحامين أمثال سعد زغلول، والحسيني، واللقاني، ونقولا توما، وخليل إبراهيم، فلم يكد يضع بينهم قدمه حتى ثبتت في الأرض، وبدأ اسمه يشيع في الصحف المصرية والأجنبية.
وأخذ مُحيط الإعجاب بالمحامي الشاب في اتساع مستمر، وعَرفَت أفواج المُوكلين طريقها نحوه تجذبهم قُوى خفية من سِحر النبوغ.
ذاع اسمه في ربوع مصر وطالت شهرته عنان السماء، وإذا شوهد في مكان عام تُحييه الجُموع وتشيد ببيانه ولسانه، حتى أن العامة إذا تخاصموا يقولون "أقتلك وأجيب الهلباوى"!
كان خَيرُ من تَرافع بالمنطق السليم، وخيرُ مَن ارتدى "روب" المحاماة، بل وأجرأ من وقف مدافعًا في ساحات القضاء، كان "مستر دلبر واغلي" من أشد القضاة الأجانب وأكثرهم عنفًا، وقد وقف أمامه كمتهمين بعض الزعماء السياسيين المصريين الوطنيين الذين لم يَسلموا منه، وكان إبراهيم الهلباوي معروفًا بلسانه الطويل، الذي يتطرق إلى الموضوعات التي لا يمكن لأحد أن يتطرق إليها إلا إبراهيم الهلباوي، وقال "دلبرواغلي" وهو يخاطب إبراهيم الهلباوي مُهددًا: إنكَ تُحرِّض على الجريمة، ويَزأر الهلباوي كالأسد الهَصُور في وجه رئيس المحكمة قائلاً: إنني أمنعكَ من أن تقاطعني!
ورغم شدة الهلباوي، وعُنفه في تناول خصومه، إلا أنه كان في كثير من الحالات يتصف بالرِّقة التي ما بعدها رقة، وقف يترافع يومًا ما مع محام زميل له ضد قاض من القضاة، ووقف الهلباوي دون أن يتكلم والجميع على رأسهم هيئة المحكمة ينتظرون دفاع الهلباوي، ويدعو رئيس المحكمة إبراهيم الهلباوي للكلام، فلا يتكلم، وأخيرا يقول: إن لسانه انعقد لأول مرة في حياته لأنه يترافع ضد قاض أمام قضاة".
ذلك الرجل الأسطوري، الذي كان القطار يقف له حيث لا يقف لأحد في محطات صغيرة أو على مشارف المدن الكبيرة، والذي قام قطار خاص مرة لكي يقله إلى جلسة في إحدى المحاكم.
أحب الناس الهلباوي كمحام، رددوا عنه وعلى لسانه القصص والحكايات، أطلقوا حوله الأمثال الشعبية: فالرجل الذي لا يسكت عادة عن الكلام، له لسان الهلباوي، والفلاح في القرية عندما يُهدد زميله في الحقل أو في الجرن، أو عند الساقية، يقول له: (والله أقتلك وأجيب الهلباوي).
وهو الذي كرهه الناس إلى أبعد درجات الكُره، حتى لم يكونوا يطيقون رؤية وجهه جالسًا في حفل، أو مترافعًا في محكمة، وذلك بعد أن تَجرأ ووقف ضد التيار الشعبي، وقبِلَ مُهمة مُدع عام في قضية دنشواي.
يقول عنه العقاد: كان أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شُهرته أنها دخلت في "النُكتة المصرية"؛ فكان الذين يُساومون القصَّابين في شراء لسان الذبيحة، يقولون إذا اشتط عليهم القصَّاب في الثمن: (والله ولا لسان الهلباوي).
ثم كانت الطامة الكبرى، ونعني بها قضية دنشواي التي وقف فيها موقفًا ظل نادمًا عليه طول حياته.
كما يقول عنه العقاد أيضا: "سمعنا عنه قبل أن نراه، وسمعنا بشهرته كاتبًا كما سمعنا بشهرته محاميًا، فكان عنوان مقالاته "إلى أي طريق نحن مَسوقون" يتردد على كل لسان، وكنا نسمع به وإن لم نقرأ تلك المقالات.
ويقول عنه الشيخ عبد العزيز البشري: "وأنا إذا تحدثتُ عن الهلباوي أشعرُ ويشعر الناس معي، برغم أنفي وأنف غيري، أننا في رجل غير عادي، أو بعبارة أخرى: في رجل عبقري.
ولعله لم يفترق الناس في هوى امرئ، افتراقهم في الهلباوي، فقد عاش مدي عُمره يُحبه الناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البُغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يَسعَهم جميعًا إلا التسليم بأنه رجل عبقري، بل لعله لم يجتمع له في القلوب كل هذا الحب وكل هذا البُغض إلا لأنه رجل عبقري، طويل القامة، عظيم الهامة، بائن الطول، مفتول العضَل، شديد المُنَّة، قوي البنية.
والهلباوي خطيبًا يشتري هَوى سامعيه بأي ثمن: فهو يَجِد ويَهزل ويَثبُ ويَحجل، ويَضحك ويبكي، ويَعلو ويَسف، ويُثقل ويَخفف، ويَكثف ويَشف، وَينظم الدرر ثم يرمي بالشَرر، وبينما تراه في وَداعة العصفور، إذا به في شراسة النُمور، كذلك يَتشكل هذا الشيخ في خُطبه ويتلون لكل مواقع الكلام، وإذا كان الهلباوي خطيبًا عظيمًا فهو مُمثل أعظم! إذا ما أراد يَستثير عواطف القضاة وحْوحَ وولولَ، وبكى وذرفَ الدموع، وقد يبكي بعدما ضَحك، أو يقطع النحيب ليَضحك بأعلى صوته.
وحتى في ملامح جسده كان نموذجًا للعملاق، طويل القامة جدا، عريض الكتفين، ملامح وجهه البيضاوي بين الاسمرار والاحمرار، كل شيء فيه طويل، شاربه، ذراعاه، كتفاه، أنامله، وبالطبع لسانه.
- شهرة الهلباوي تُغير الرأي في مهنة المحاماة:
كانت شهرة الهلباوي في عالم المحاماة مما غَيَّر وجهة نظر الناس في مهنة المحاماة، فقد كانت الصورة العالقة بذهن العُموم والخصوص خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت تساوي بين "المحامي" و "المُزور".
وقد عمل فتحي زغلول شقيق الزعيم سعد زغلول بالمحاماة لثماني أو تسع سنوات قبل تَعيينه نائب قاض عام 1892 دون أن يُفصح عن عمله بها صراحةً لأهله وأقاربه خَشية ما يستتبعه ذلك من سوء السُمعة.
ويقول العقاد عن شطر من حياة سعد زغلول: كان ذلك "قبل أن يَحترف المحاماة" لأن المحاماة يومئذ لم تكن بالصناعة الشريفة التي نعرفها اليوم، وإنما كانت صناعة وضيعة مُبتذلة يشتغل بها من لا يَحسب "المرافعة" إلا مجالاً للبذاء وطول اللسان، ولم تكن للمحامي منزلة في نظر القضاء، ولا في نظر العِلية لا السَواد، وكان اسم المحامي مساويًا لاسم المُزور كما قال سعد، فاتصل بهذه الصناعة "والخجَل يَستر وجهه لسقوط اعتبار من كانوا يتعاطونها" وقال في خُطبة شكر بها من كرموه لتعيينه في مناصب القضاء، قال: "إني اشتغلتُ بالمحاماة مُتنكرًا عن أهلي وأصحابي، وكلما سألني سائل: هل صَرتَ محاميًا؟ أقول مَعاذ الله أن أكون كقوم خاسرين! وجُملة القول إنني كنتُ أجتهد ألا يَعرفني إلا أرباب القضايا، وإن كنتُ أجهل ماذا تكون العاقبة.
ويقول الهلباوي في مذكراته: "تزوجتُ لأول مرة وأنا محاميًا شابًا في مدينة طنطا، وكان ذلك في حوالي سنة 1887 وكانت زوجتي "كلفا" من الجواري الشركسيات اللاتي يَعشن في السراي، ويَبقين بين جدرانها لا يعرفن غير سادتهن، ولا يَختلطن بأحد من العالم الخارجي عن السراي مُطلقًا، عقدتُ على زوجتي ثم سافرتُ بها إلى طنطا، وبقيَتْ حينًا قبل أن نعود إلى القاهرة لتقوم بواجب الشكر لصاحبات السُمو الأميرات سيداتها السابقات.
وحدث أنْ علِمَتْ زميلات زوجتي في السراي أنها تزوجَت، وأنها سافرت مع زوجها، فسألن عمَّن يكون هذا الزوج، وعلِمن أن زوج الزميلة "أبو كاتو" فلم يَفهمن معنى تلك الكلمة، وما زلن يستقصين حتى اتصلن بباش أغا سراي القصر العالي فسألنه: " مَن عساه يكون صاحب مهنة "الأبو كاتو"؟ وكان جواب الباش أغا: "مُزور أو نَصاب" وذهبَت زوجتي بعدئذٍ للسراي تشكر صاحبات السُمو الأميرات نعمت هانم مختار، وأمينة هانم إسماعيل، فلما علمت الجواري بمَقدمها جئن إليها باكيات نادبات سوء طالعها، مُعزيات فيما صادفها من نَكد الطالع في تلك الزيجة، لماذا؟ لأنها تزوجت مُزورًا نصابًا، فأفهمتهن زوجتي حقيقة أمر "الأبو كاتو" وشرف مهنته استنادًا إلى ما رأته بعينها، فعُدن يُهنئنها مُبتهجات.
- الهلباوي أول نقيب للحامين في مصر:
يقول الدكتور محمد حسين هيكل: "في أواخر عام 1913 حان انتخاب نقيب للمحامين بعد صدور قانون المحاماة، فأجمع المحامون على اختيار عبد العزيز فهمي باشا النقيب الأول لنقابتهم؛ تقديرا منهم لنزاهته وعِلمه وفضله، ولكن الهلباوي بك، أظهر أنه يَطمع في هذا المركز لنفسه؛ لأنه أقدم المحامين، ولأنه خدم المحاماة منذ نشأتها، وعرَفتُ ذلك من هلباوي بك شخصيًا، فأفضيتُ به إلى عبد العزيز بك، ولشَد ما أدهشني عبد العزيز بك حين قال: نعم، إن هذا حق لهلباوي بك! إنه أستاذنا جميعًا، وإن له على المحاماة من يوم نشأتها بمصر لفضلاً أي فضل! وانقلبَ هو داعيًا لهلباوي بك وانتخابه النقيب الأول للمحامين، وانتُخب هلباوي بك بالإجماع أول نقيب للمحاماة في مصر.
وعندما قامت ثورة 1919 انضم فترة إلى لجنة الوفد المركزية بالقاهرة، ثم سرعان ما انشقَ على الوفد وكوَّن مع آخرين حزب الأحرار الدستوريين. وفاز الهلباوي في انتخابات مجلس النواب سنة 1923 عن دائرة بمديرية الجيزة، وشارك في وضع دستور 1923.
- تبرير الهلباوي لخطيئته في دنشواي:
يقول الهلباوي في مذكراته: "يُخيل إلىَّ أن الذين سَيقع بين أيديهم هذا الكتاب، سيُقلبون صفحاته سِراعًا باحثين عن تلك القضية (قضية دنشواي) التي شاء القَدر أن يقترن اسمي بها، فها أنذا أُرضي في نفوسهم غريزة حُب الاستطلاع، فأبسِطُ بين أيديهم هذه القضية، التي يعلم الله أنني ما كنتُ وحدي لأستحق هذه الشُهرة السيئة التي خَلفتها عليَّ هذه القضية، بل هناك كثيرون أولى وأحق بهذا الصَّيت المُشين.
فقد أمسى الهلباوي مَعروفًا بعنوان لطيف هو (جَلاد دنشواي) أما القضاة من المصريين الذين حكموا بالإجماع بالإعدام شنقًا وبالتعذيب بالسِّياط، وأولهم بُطرس غالي وفتحي زغلول، فلم يُنعتوا بتلك النُعوت التي تراكمت على رأس الهلباوي.
وبعد أن أوضح الهلباوي ملابسات انتدابه ليقوم بدور الادعاء ضد الفلاحين في دنشواي، قال مبررًا قبوله هذا الأمر: "تذكرتُ في ذلك الوقت أنَّ المحكمة المخصوصة التي قُدم إليها المتهمون في هذه الحادثة، كان قد جرى على أن يُمَثل اتهامها شيخ من شيوخ المحامين، فعند أول تطبيق لقانون المحكمة المخصوصة في حادثة قليوب، اختير لتمثيل الاتهام فيها المرحوم أحمد الحسيني بك، وكان ذاك أكبر المحامين الموجودين سنًا ومَقامًا، لذلك لم أجد مُسوغًا يسمح لي برفض القيام بهذه المهمة.
وجاءتني الأوراق بعد ذلك وهي مُحالة على المحكمة، والمعلوم والجاري عليه العمل في محاكم الجنايات العادية أنَّ النائب المُترافع في الجلسة لا يَملك طلب تعديل العقوبة بما يُخالف قرار الإحالة، فإذن يكون اختصاص مُمثل النيابة العُمومية أمام المحكمة المخصوصة التي تُشبه محكمة عسكرية استئنافية أقل سِعة من اختصاص النائب العُمومي المترافع أمام محكمة الجنايات العادية.
ويقول أيضا: "وبالرغم من هذا، لمَّا قرأتُ أوراق الدعوى تَبينتُ أنه من الشَطط الفاضح ألا يُميز بين المتهمين وبعضهم في المسئولية، وطلبتُ من المتصلين بي من رجال الحكومة أن أُخرج نحو الخمسة عشر متهمًا من طلب عقوبة الإعدام بطلب صريح في الجلسة وبعد أخذ ورد بيني وبينهم تمكنتُ من اقناعهم فقُبل طلبي".
ويتذرع الهلباوي بأنه لم يرَ امتعاضًا على وجوه الحاضرين أثناء المرافعة فيقول: "وعُقدت الجلسة في صيوان كبير يَسع نحو ثلاثة آلاف شخص ودُعي إلى شهود المحاكمة الأعيان والعُمد من مديرية المنوفية والمديريات التي حولها، وترافعتُ فوق الثلاث ساعات، ولم أرَ من ذلك الجَمع الغفير أي اشمئزاز يَنقد ما قُلته، بل عندما أمَرت المحكمة برفع الجلسة عقب مرافعتي للاستراحة قابلني تقريبًا كل الحاضرين بالتحية والتهنئة على ما أبديتهُ من الدفاع المَتين في القضية".
ثم يمارس الهلباوي مَهاراته في التبرير المُغلَف في هذه المرة بالاستعطاف فيُضيف:
"وفي غرفة المداولة والثلاثة القضاة الإنجليز موجودون، كانت على وجوههم جميعًا علامات التأثير، سألني رئيس المحكمة بطرس باشا، ما هو رأيي في الحكم، فقلتُ: إنَّ مِثلي أمام هذا الحكم كمِثل أمّ جاءها الأطباء يَنظرون في أمر ولدها الوحيد لعلهم يَجدون دواءً له، ولما قرروا أنه من الضروري لإنقاذ حياته بَتر الفخذ، خضعَت الوالدة وسَلمت أمرها لله، فلما قاموا بإجرائها وأتموها خرجوا قائلين لوالدته نجَحت العملية ببتر الفخذ، فلم يَسع الأم المسكينة أمام هذا الخبر إلا أن تُولول حزينة على ما أصاب ابنها، فشأني أمام هذا الحكم كشأن تلك الوالدة"!!
- مبررات الهلباوي واهية:
لقد حاول الهلباوي جاهدًا - على النحو مار البيان - تبرئة ساحته من جرَّاء قبوله دور الادعاء ضد الفلاحين في دنشواي، تارة بأن الحكومة اختارته لأنه أكبر المحامين الموجودين سنًا وأقدمية، وذلك قول مردود عليه بأنَّ قانون المحكمة المخصوصة ليس فيه نَص ملزم، إنما ينص فقط على أن "يَختار البوليس محاميًا لإثبات التهمة" ولذلك يَتدارك الهلباوي فيقول إن الإنذار السري البريطاني لمصر من بين شروطه أن يجلس في كرسي الادعاء أكبر محام في مصر.
وحاول تارة أن يُخفض من وطأة التورط بما أسداه من خدمة لعدد من الفلاحين، حينما قال إنه أعتق مُقدمًا خمسة عشر متهمًا من طلب عقوبة الإعدام حسبما طلب قاضي الإحالة.
ونراها تبريرات واهية، يناقضها تمامًا حماسته في المُرافعة ضد أهالي دنشواي المَغلوبون على أمرهم، وما قاله في حقهم من أنَّ الحريق مُتعمدا منهم وإنه تال لحصول الاشتباك، واصطنعوه ليُخفوا سبق اصرارهم على قتل الانجليز، على الرغم من أنَّ مَن يقرأ الأوراق لا يَجد ثمة علامات لسبق إصرار على الإطلاق.
ولو سلمنا جدلا، وعلى فرض صِدق تبريراته، بأنه كان مُضطرًا لقبول دور مُمثل الادعاء، فهل كان هذا الدور يُلزمه بقلب الحقائق وتحويرها لتصُب في صالح الانجليز لا المتهمين، فيَستغل بذكائه شهادة الضابط "بورثر" من أن أحد المتهمين قام بحمايته هو وباقي الضباط من العدوان عليه، وهى شهادة كانت كافية لتبرئته، وآزره فيها فتح الله الشاذلي نجل العمدة، ولكن الهلباوي يتنبَّه إلى ذلك، فيُوظفَّه ضد المتهم، فقال إنه يُلاحظ شبَهًا كبيرًا في الملامح بين هذا المتهم وبين الشاهد فتح الله الشاذلي، وأنه يعتقد أن الأمر اختلط على الضابط "بورثر" فتستدعي المحكمة "بورثر" فيفطن إلى حيلة الهلباوي؛ فيقول إن الذى سقاه هو نجل العُمدة وليس المتهم، فبدَد الهلباوى فرصة نجاة ذلك المتهم من الإدانة.
وهل كان الهلباوي مَغلوبًا على أمره حين تَناول تقرير الصفة التشريحية على نحو لا يحتمله؛ فأوجد علاقة سببية بين ضربة الشمس التي هي سبب موت الضابط "بول" وبين المعركة التي دارت بين طرفي الحادثة؟
فيقول إنَّ الوفاة وإنْ كانت نتيجة ضربة شمس، إلا أنَّ هذا لا ينفى أنَّ المتهمين قتلوه؛ لأنهم هم الذين ضربوه وألجأوه الى الجَري تحت أشعة الشمس اللاهبة.
وهل اضطرار الهلباوي إلى أن يَقبل تَمثيل الادعاء، يقتضيه أنْ يقول إنَّ المُحتلين مَضى عليهم خمسة وعشرون عامًا ونحن معهم في إخلاص واستقامة وأمانة؟! وإنهم لم يقترفوا جريمة؟ وأنَّ حَرق الجرن، وإصابة امرأة محمد عبد النبي سَببين مكذوبين؟! وأن أهل دنشواي أدنياء النفوس سافلي الأخلاق؟ وأنَّ حسن محفوظ - الرجل الكهل الذي وصل إلى سن السبعين - لم تُهذبه هذه السِن، ويجب أن تُطهَّر البشرية منه، وإنه (أي محفوظ) لم يُكدّر قرية، بل كدَّر أمَّة بأسرها!!
فالداخلية لم تُلزم الهلباوي بالقيام بمُهمة المدعي العام، فقد كان بمكنته أن يمتنع، وبالتالي كان قبوله بمحض إرادته، ولا يُعفيه قوله "لم أجد مسوغا يسمح لي برفض القيام بهذه المهمة.
وفي الواقع، فإن ثمن مشاركة الهلباوي في دنشواي كان قد تَقرر باختياره مُستشارًا قضائيًا بمحكمة الاستئناف، وهذا ما أشار إليه بشكل غير مباشر في مذكراته، من قِبل المستر بوند أحد أعضاء محكمة دنشواي ووكيل محكمة الاستئناف، ومستر مكلريث المستشار القضائي، وبعد أن أصبح هذا الاختيار في حكم المؤكد، وقيام الهلباوي على تصفية قضايا مكتبه برفض الجديد منها، وتوزيع القديم على زملائه تراجع عن قبول هذا المنصب الجديد بناءً على نصيحة إحدى السيدات التي قصدته للترافع في قضية لها على حد قوله.
ولا نستبعد أن يكون هذا الرفض جاء كرد فعل للضغوط النفسية، التي ألمت به بعد دنشواي، عندما سيطر الجفاء على علاقته بزملائه في مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية، وذهب بألقاب قاسية، لهذا أدرك الهلباوي أن قبوله العمل كمستشار بمحكمة الاستئناف، يعني أنه تواطأ مع الانجليز في دنشواي، وبالتالي مزيدًا من سوء المُعاملة، وكذلك المقت والعزلة داخل المجتمع.
ويقول محمد فريد عن فتحي زغلول: "كانت النية معقودة على رفته إلا أنه عُين قاضيًا في محكمة دنشواي في يونية 1906 ووافق الانجليز على حكمهم القاسي المشهور، فقام الرأي العام ضده ورماه بالخيانة.
- صفة جلاد دنشواي:
أطلق هذه الصفة على إبراهيم الهلباوي، الشاعر حافظ إبراهيم سنة 1906 حيث جاء في قصيدة له نشرها في جريدة "اللواء" الشيخ عبد العزيز جاويش في 2 يوليو 1906 أي بعد صدور حكم محكمة دنشواي بخمسة أيام قال حافظ في نهايتها:
أيها المُدَّعى العُمومي مَهلاً بعض هذا فقد بَلغْتَ المُرادا
قد ضَمَنَّا لكَ القضاءَ بمصرَ وضَمَنَّا لنجلِك الإسعادا
فإذا ما جلَسْتَ للحُكم فاذكر عهد مصر فقد شفَيتَ الفؤادا
لا جرى النيلُ في نواحيكِ يا مصر ولا جادكِ الحيَا حيث جادا
أنتِ أنبتِّ ذلك النَّبت يا مصر فأضحَى عليكِ شوكًا قَتادا
أنتِ أنبتِ ناعقًا قام بالأمس فأدمى القلوب والأكبادا
أيا مدرة القضاء ويا مَن ساد في غفلةٍ من الزمان وشادا
أنتَ جلادنا فلا تنسَ أنَّا قد لبِسنا على يديكَ الحِدادا
وأمسى الهلباوي معروفًا بعنوان لطيف وهبَه له الشيخ جاويش، وهو "جلاد دنشواي" أما القضاة من المصريين الذين حكموا بالإجماع بالإعدام شنقًا وبالتعذيب بالسِّياط، وأولهم بطرس غالي وفتحي زغلول، فلم يُنعتوا بتلك النُعوت التي تراكمَت على رأس الهلباوي.
- مُعاداة الشعب للهلباوي لعد حادثة دنشواي:
"يقول الكاتب يَحي حَقي: "لا أعرفُ أحدًا من ساسة مصر تَجرع مثله العذاب علقمًا وصابًا، كأسًا بعد كأس، سنين طويلة تكاد تكون هي عُمره كله، لا أدري أي شيطان خَبيث أوقع في ساعة نَحس ربيب الثورة العُرابية وتلميذ جمال الدين، وزميل سعد، حين قبِلَ أن يَترافع ضد شهداء دنشواي ويُجرب فيهم فصاحَته وبلاغته ويَتجنى عليهم، ويَطلب الحكم بإعدامهم ليكونوا عِبرة لغيرهم من أبناء شَعبه، في ذلك اليوم حَفر الهلباوي قبره بيده!
نسِيَ الشعبُ أناسًا آخرين مسئوليتهم إن لم تَزد فلا تَقل عن مسئولية الهلباوي، القضاة الذين أصدروا حكم الإعدام، والوزير الذي صدَّق على هذا الحكم، ورئيس الوزراء الذي بارك هذا الجُرم بسُكوته عنه، من هُم؟ لا أحد يَذكرهم، ونسِيَ الشعب أيضا كثيرين ممن أجرموا في حق الوطن، ولكنه لم ينسَ قَط جريرة إبراهيم الهلباوي.
حاول الهلباوي أن يَشتري الغُفران بدفاعه البارع عن الورداني، ولكن هيهات، حاول أن يعود إلى الحياة العامة والاشتغال بالسياسة فانضمَّ إلى حزب الأحرار الدستوريين، ولكن ماذا حدث؟ لقد شهدتُ بنفسي مَصرعه، من وَقْع لَطمة أخرى. حضَرتُه يخطب في سُرادق ضخم ازدحم فيه أنصار الحزب المتحمسين يَكفرون بسعد ويُؤلهون عبد العزيز فهمي.
وأفاض الهلباوي في الحديث عن الوطنية الحقة مُشيدًا بجهاد الحزب
من أجل تخليص حقوق البلاد من يد المُحتلين، وقُوطع خطابه بالتصفيق والهُتاف، وامتلأ الرجل ثقة وزهوًا وظن أن الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف: ليسقط جلاد دنشواي.
إنه كان صوت مصر يَنطلق من حُلوقهم رغم إرادتهم! هل هو انتقامٌ جديدٌ للقَدر من وراء القبر، أم مراضاة منه ومصافاة لا تخلوان من التهكم والسخرية؟ إذ الذكرى الوحيدة الباقية للهلباوي بعد وفاته تَسمعها من كمساري الأتوبيس في خط المَنيَل وهو يُعدِّد المحطات: محطة الجراج محطة الهلباوي!
ويقول العقاد: أعلن الأستاذ أحمد لطفي السيد عن خطاب شامل يُلقيه بدار "الجريدة" بيانًا لموقف حزب الأمة من السياسة المصرية على العموم في مايو 1908 واكتظت دار الجريدة بمئات من المستمعين بينهم كثير من الطلبة والشبان، ونجح الأستاذ في اجتذاب الأسماع إليه، ولكنني سمعتُ إلى جانبي هَمهمة متواصلة في أثناء إلقاء الخُطب، ورأيتُ خمسة أو ستة من الشبان يَخرجون ويعودون ومعهم قراطيس مَلأى بالطماطم والبيض، ومع اثنين منهم حَمائم يخفيانها تحت سُترتيهما وهما مُتحفزان.
وكان المقصود بهذه الحركة كلها إبراهيم الهلباوي بك، فما أن فرغ الأستاذ لطفي السيد من خطابه، حتى انطلقت في جو المكان تلك الحمائم، وانطلق معها هُتاف كالرعد بسقوط جلاد دنشواي، ونال الرجل من قذائف الحاضرين يومئذٍ أذى غير قليل.
ويُضيف العقاد: ويستطيع القارئ أن يَتخيل مبلغ السُخط الذي أثارته في نفوسنا رؤية الهلباوي أمامنا وجهًا لوجه في دار الجريدة، يوم ألقَى الأستاذ لطفي السيد بك خطابه. لقد كان اغتباطي شديدًا بما أصابه من الأذى في ذلك اليوم، ولكني أقول إنصافًا له، إننا رأينا في الرجل شجاعة لم نرها في غيره من المقصودين بالهُتاف العدائي ذلك المساء، فقد أوى بعضهم إلى حُجرات الدار حتى اطمأن إلى انصراف الجمهور الغاضب، وأبَى الهلباوي إلا أن يَقتحم الجَمع خارجًا من الدار في إبان الهياج، ولم يحفل بما تعرض له في طريقه من اللكم والإيذاء.
- مجلة المجلات تهاجم الهلباوي:
تُعتبر "مجلة المجلات" التي أصدرها محمود حسيب في مقدمة الصحف التي أخلصَت للمواطنين، واستنكرت موقف المستعمرين فراحت تُهاجم الهلباوي، فكتبت تقول: "لقد قضى الرأي العام على هلباوي بك، قضاءً أشد من حكم المحكمة المخصوصة على الدنشوائيين، فنبذه الناس لأنه كان نذير السوء وبوق الرَزايا، وجالب المِحَن، وسبب البَلايا، وطالب الإعدام، فهو المُوجد للألم الذي أصاب الأمة بأسرها، إن الرجل قد انقلبَ من فلاح مصري إلى رجل انجليزي، فخلع من على رأسه شعار المصريين، وترك ذلك الرأس المملوء بالأفكار السيئة عاريًا تتصاعد منه نياته الخبيثة للوطن الأسيف، كما يتصاعد بخار المرجل من مدخنته. ومن الغريب أنه مع حُبه وتفانيه في تقليد الانجليز، وتهالكه في التفرنج لا يرى الانسان منه إلا رَجلاً أقرب شبَهًا إلى العامة والرعاع منه إلى أعظم الرجال! وتراه أينما حَل في المجتمعات - بعد أن احتجب عنها طويلا - كان محل التحقير والازدراء، وسمع بأذنيه كلمات يرددها الناس مع بعضهم: هذا هو عدو البلاد وجلادها!
وتُروَى حكاية طريفة تُسجل مدى مَقتُ الناس له، من ذلك أن حسين رشدي باشا حينما عُين وزيرًا للأوقاف أراد لضرورة أعمال المصلحة أن يذهب إلى بيت هلباوي، فلما أمر سائق عربته بالذهاب إلى هذا البيت صاح الرجل في وجهه: "هيَّ وصَلتْ إنك تروح بيت هلباوي؟ أنا ما أرُحش يا سيدي ولو قَطعت راسي"!
ولكن الباشا كلفه بالذهاب رغمًا عنه، فلما قابل الهلباوي ومدَّ هذا يده لمصافحته قال له: لقد جئتُ في عمل مصلحي، وما جئتُ لأسلم عليك، ولا أقبل أن أكون أقل إحساسًا من سائق العَربة الذي امتنع عن الحضور إلى منزلك"!
ثم تستطرد الصحيفة فتقول: مِسكينٌ أنتَ يا هلباوي وألفُ مِسكين! لقد خسرتَ الدنيا والآخرة، وعُدتَ من هذه الواقعة بصفقة المَغبون، فما نِلتَ رضاء الأمة، ولا نِلتَ ما كنتَ ترجوه من الوظائف، إلى أن تقول: أتبيع أمتكَ ووطنكَ، وتنقلب في يوم كنا نرجو فيه أن تكون حِصنًا لنا لا سهمًا علينا؟ لقد أمَتَّ نفسك بمئتي جنيه، وخرجتَ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وذهبتَ إلى صفوف الوطنيين إلى صفوف الأعداء.
- لعنة دنشواي:
عاش الهلباوي 34 عامًا بعد حادثة دنشواي تُلاحقه لعنتها، ويطارده وصف "جلاد دنشواي" أينما حلَّ أو ذهب حتى وافته المَنية بعدما تجاوز الثمانين من عُمره، وبعد أن حاول جاهدًا بشَتى الطُرق التكفير عما حدث بلا جدوى، حتى قال قَولته الشهيرة: "ما أتعسَ حظ المحامي وما أشقاه، يُعرِّض نفسه لعَداء كل شخص يُدافع ضده لمصلحة مُوكِّله، فإذا كسَبَ قضية موكله أمسَى عَدُوًا لخَصمه، دون أن يَنال صداقة موكله".
كانت مُصيبته حين تراءَى له ذات يوم أن واجبه كمحام أن يَقبل مُهمة المدعي العُمومي في قضية دنشواي (13 يونيو 1906) فلم يتردد في مُعاداة الرأي العام، الذي كان يَتعاطف مع المتهمين في تلك القضية، ولم يَخشَ مُعاداة الجماهير له وسُخطها عليه واحتقارها إياه، حتى ليُطلِق عليه الشعب (جلاد دنشواي).
- الهلباوي يفكر في غلق مكتبه:
لم يكن الرجل ليستطيع بعد موقفه من قضية دنشواي، أن يَشهد أي احتفال عام، أو حتى محاضرة عامة، ذلك أن شباب مصر وقتئذ، كان يتتبعه في كل مكان يذهب إليه ويُطلق وراءه (الحمام) إشارة إلى حادث دنشواي، حيث كان الحمام أحد الأسباب التي أدت إلى وقوع الحادث. ويُحارَب مُحاربة عنيفة حتى ليَكاد يُغلق مكتبه بعد ثلاث سنوات قضاها في أعقاب الحاث، إذ يتحرج أصحاب القضايا من الذهاب إليه رغم مَعرفتهم الأكيدة بقدرته الفائقة كمحام.
وفي هذا يقول الهلباوي في مذكراته: "حَدثتني نفسي أن أتخلى عن المحاماة فألتحق بوظيفة في القضاء، ولما جاءت حادثة دنشواي، وظهر سُخط الرأي العام علىَّ، فكر المِستر "بوند" وكيل محكمة الاستئناف في أنَّ هذا المركز قد يكون أحرجني في مَكتبي، وظن أن عُملائي تَحولوا عنِّي؛ فكاشفَني في هذا الموضوع، فقال: إني تكلمتُ مع "مستر مكلريث" المستشار القضائي في أنَّ محكمة الاستئناف تؤدي لها أكبر خدمة إذا قبلتَ أن تكون بين مستشاريها، فأجبتُه فيما يتعلق بمركزي بصفتى محاميًا فإن مكتبي بعد دنشواي أصبح أحسن من قبل أضعافًا مضاعفة، وكان أصحاب القضايا ظنوا أن صلتي بكم تجعل قضاياهم أقرب إلى الربح في محكمة الاستئناف، ولكني مع ذلك أشعرُ في نفسي بالرغبة في التخلص من المحاماة، فإذا كانت هذه الفرصة سانحة أرفُضها.
وبعد يومين أو ثلاثة وأنا داخل إلى محكمة الاستئناف قابلني سكرتير المحكمة وهنأني بوظيفة المستشار، حيث أخبرني أنه كتب مذكرة باتفاق المستر "بوند" والمستر "مكلريث" لوزارة المالية للتصديق على تَعييني مستشارا في محكمة الاستئناف، فأخذتُ في توزيع القضايا الموجودة بالمكتب على زملائي المحامين ورفضتُ قبول قضايا جديدة. ولبثتُ على هذا الحال نحو أسبوعين، وفيه نشَرت جريدتا المقطم والأهرام الخبَر دون المؤيد الذي طلبتُ منه عدم نشر هذا الخبر.
في هذا الأسبوع تقريبًا كنت مشغولاً بتصفية المكتب، وعندي وقت كبير لمقابلة الزائرين، فجاءني فرّاش مكتبي قبل ظُهر أحد الأيام، وأخبرني بأن جماعة من الأرياف يَطلبون مقابلتي لقضية لهم، فقلتُ له: أنتَ تعلم أني تركتُ هذه المهنة ولا أقبل قضايا، فقال: قد أفهمتهم ذلك، ولكن بينهم سيدة كفيفة البصَر تُلح إلحاحًا شديدًا في طلب المقابلة فأذنتُ لهم.
فلما دخَلت السيدة ومعها رجُلان من عشيرتها واهتدتْ إلى موضعي من صوتي، تقدمَت وخرَّت راكعة وقبَّلت رُكبي وهي تنوح وتبكي على خيبة رجائها إذا لم أقبَل التوكيل عنها، قالت: أتيتُ من بني سويف إلى القاهرة منذ أربعة أيام وأنا أبحثُ عن مكتبك، ولما قابَلني بعض سَماسرة القضايا وطلبتُ إرشادي عن محلك أخبروني أنك تَعينت قاضيًا بالاستئناف، فسألتُهم: وهل صدر الأمر بذلك فعلاً؟ فقالوا لم يَصدر بعد، كنتُ أسمع عن سيرتك وعن رَجاحة عقلك، فوجدتُ عندي أمل أني إذا ناقشتكَ في مشروعكَ هذا وتَبين لكَ وجه خَطئك في قبول هذا المُسند والتخلي عن خدمة الضعفاء أمثالي، أن تَعدل وتبقى في خدمة الضُعفاء ذي الحاجة، واسترسَلتْ قائلة: كيف تَقبل هذا المُسنَد وهو مع عظمته يشغله نحو الثلاثين مستشار، وقلَّ أن يُكر اسم واحد منهم، أو يُعرف خارجًا من سراي المحكمة، أما أنتَ فَقلَّ أن يوجد رجل وامرأة في القُطر من أسوان إلى العريش إلا يعرف اسمك، ويَحفظ لك السُمعة الطاهرة، إن رغبتَ المال فعملكَ في المحاماة لابد أن يكون أكثر ربحًا من مرتب المستشار، إذن ما هي حاجتك أو ما هي الحكمة في أن تتخلى عن مركز يجعل كل الناس يشيدون بذِكرك، إلى مركز مَهما كان ساميًا نتيجة إطفاء هذه السُمعة، وتُصبح نكرة مثل الآخرين".
ويُضيف الهلباوي: حقًا تأثرتُ من كلمات هذه السيدة، وهي على سذاجتها وخُلوها من التعليم أضعفتني في مناقشاتها، وقد أضافَت إلى ذلك أن لخصت لي قضيتها، فقالت: لي ابنة كانت متزوجة برجل من إحدى قرى مديرية بني سويف، فجاء ذات ليلة وقَتلها غدرًا وهي في فِراشها، وادعى أنه قتلها حيث وَجد ابنتي تخون عِرضه، والرجل الذي كان يَعبث بعِرضها قد فرَّ من أمامه ولم يتمكن من اللحاق به، فلم يستطع إلا الانتقام من زوجته، وكنتُ أعلم قبل هذه الجناية أن زوج ابنتي أخذ يُعاملها مُعاملة سيئة، واحتال في أخذ حُليها منها، مُدعيًا أنه في حاجة وضائقة تضطره إلى بيع هذه الحُلي لسَداد دَين عليه، مع أنَّ الحقيقة التي أعلمُها وتَعلمها ابنتي أنه اتفق على أن يَتزوج امرأة أخرى، وأن هذه الحُلي إذا بيعت فسيكون ثمنها مَهر المرأة الثانية، فلما رفضَتْ ابنتي إجابته قَتلها تلك القتلة الشَنعاء وأضاف إليها ثلم عِرضها واتهامها بالخيانة، حُققت الدعوى وأُحيلت إلى محكمة الجنايات في بني سويف ففكرتُ فيكَ لتكون وكيلاً عن ابنتي التي قُتلت، ولا سبيل إلى اعادتها إلى الحياة، وكل ما كنتُ أرجوه من وجودك بالقضية أن تعمل على مَحو هذا العار عن سيرة ابنتي، إنْ حُرمت منها فلا أحرم أن أحتفظ بذكرى ابنة ضحية عاشت طاهرة وماتت غدرًا وخيانة.
- الهلباوي يتراجع عن المنصب:
بعد لقاء هذه السيدة، طلبَ الهلباوي إمهاله في الجواب إلى اليوم التالي، وبقي أمرها يَشغله، وقابل المستر "بوند" في صباح اليوم التالي واعتذر بشدة عن مَنصب قاض.
ولما جاءت له تلك المرأة الكفيفة في الموعد الذي حَدده لها حمَدَها على نصيحتها وبقي محاميًا، وقبِلَ قضية ابنتها، وترافع فيها، وعدلت المحكمة الحكم إلى معاقبة المتهم بالأشغال المؤبدة.
- محاولات الهلباوي في مصالحة الشعب:
راح الهلباوي يَنهج نهجًا وطنيًا لعله يُزيل من أذهان الشعب المصري تورطه في حادثة دنشواي، وذلك بأن بتولى الدفاع عن المُتهمين في عدد من القضايا التي تَشغل الرأي العام ويَتعاطف فيها مع المتهمين، حتى لو كانوا قَتلة مثل إبراهيم الورداني الذي اغتال بطرس غالي باشا رئيس الوزراء بادعاء أنه خائن لوطنه، على نحو ما اعترف الورداني في التحقيقات، لأن الشعب كان يَكره بطرس غالي بسبب اتفاقية السودان التي فصلتها عن مصر، وإعادة العَمل بقانون المطبوعات، ورئاسته لمحكمة دنشواي التي أعدمت أربعة من فلاحي دنشواي وسجنت وجلدت غيرهم من المتهمين.
وربما كان هُبوط رصيد الهلباوي من الشهرة كرجل محاماة بعد دنشواي، جعله يَهب نفسه لخدمة القضايا الوطنية، على أمل اسدال الستار على صفحة سوداء من حياته، واسترداد شهرته مرة أخرى كرجل محاماة من الطراز الأول، وسياسي وطني تشغله هموم وطنه كما تشغل غيره من السياسيين الذين زاملوه في مدرسة المعتدلين، وميدان المحاماة.
وقد يكون هذا وراء تلبيته وساطة أحمد لطفي السيد ليتولى الدفاع عن الطلاب الذين قُبض عليهم بتهمة التظاهر على عودة قانون المطبوعات، والذين كان من بينهم أحمد حلمي صاحب جريدة القطر المصري.
والجدير بالذكر أنَّ الهلباوي تَمسك بالدفاع عن أحمد حلمي وزملائه في القضية، رغم الضغوط التي تَعرَّض لها من جانب الخديوي نفسه لإثنائه عن القضية لخلافات بينه وبين أحمد حلمي الصحفي، وقد أدى تَمسُك الهلباوي بالقضية إلى حِرمان شقيقه خليل الهلباوي من الحصول على عفو.
- الدفاع عن الصحفي أحمد حلمي:
في عام 1909 قرر مجلس النظار - برئاسة بطرس غالي باشا - العودة إلى العمل بقانون المطبوعات الذي يُمثل عدوانًا على حرية الصحافة فقامت مظاهرات عدة احتجاجًا على عودة هذا القانون، وتعقبت الحكومة المُتظاهرين وقبَضت على بعض الزعماء، وكان من بين المقبوض عليهم أحمد أفندي حلمي صاحب جريدة "القطر المصري" في ذلك الوقت، وعدد كبير من الطلبة، وعندما أحيلوا إلى المحاكمة وسَّطوا الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا في أن يكون الهلباوي محاميهم في هذه القضية.
والذي دعا المتهمين إلى توسيط الأستاذ أحمد لطفي السيد، أن هؤلاء الطلبة كانوا قد تظاهروا ضد الهلباوي اعتراضًا على تصرفه في قضية دنشواي.
ويقول الهلباوي: إنهم الذين أثاروا المظاهرة ضدي وضد الشيخ علي يوسف في دار البارودي بباب الخلق، في حفلة خطابية كانت أقيمت في تلك الدار بمعرفة رجال حزب الأمة، وأحضروا فيها الحمام تذكارًا لحمام دنشواي وقضية دنشواي، وكان شعارهم وهتافهم النداء بالويل والثبور على جلاد دنشواي، وقبِلَ الهلباوي القضية وترافَع عنهم بمحكمة عابدين تحت رياسة أحمد بك عبد الرازق، وحضر معه الأستاذ مرقس فهمي.
وقد حاولت الحكومة إثنائه عن الحضور مع أحمد حلمي لأنه تَرجم مقالة من جريدة تركية ضد الخديوي، فرفض الهلباوي، ولكنه فوجئ برئيس الوزراء بطرس غالي باشا وقد ألمح إليه بالتوسط لدى الخديوي للعفو عن شقيقه خليل المحكوم عليه من محكمة جنايات طنطا سنة 1909 بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولكنه رفض، وقال للهلباوي: افعل ما ترى، ونحن نفعل ما نرى!
- الدفاع عن إبراهيم الورداني:
في عام 1910 اغتال إبراهيم ناصف الورداني بطرس غالي باشا رئيس الوزراء، واتُهم مع تسعة من أصحابه.
بذكائه، وجدها الهلباوي فرصة سانحة؛ ليَعود بها إلى الشعب الغاضب منه، والذي كان متعاطفًا مع الورداني، وقيل إنه تطوع للدفاع عن الورداني، ولكن الهلباوي يقول في مذكراته إن الذي دعاه للقضية هو راغب بك عطية عَم المتهم عبد الخالق عطية، أما محاميَا الورداني فكانا أحمد لطفي بك، ومحمود أبو النصر بك، وبالرغم من ذلك، فقد أثبت الهلباوي حضوره مع الورداني، وبدأ مرافعته بالحديث عن دنشواي ليتبرأ مما حدث، فقال: "لقد كانت دنشواي إحدى الفَواجع التي رُزئت بها مصر من عهد الاحتلال البريطاني، كانت محكمة بلا قانون، بلا نصوص، تُصدِر ما تراه مناسبًا من العقوبات، ولها أن تحكم أقسَى الأحكام حتى الإعدام على مَن يرتكب أهْوَن اعتداء على جندي بريطاني.
كان إنشاؤها مخالفةً صارخةً للعدالة البشرية، لم يَقنع مُنشئوها أن يخلُقوا محكمة بغير قوانين، ولكنَّ جَسارتهم دفعتهم إلى أن يُشوِّهوا جِيدها بإجراءاتٍ بشِعة غاشمة، كان الديكريتو يُوجب أن تكون أغلبية قضاتها من الانجليز، فكيف يحابَى أحد الطرفين.
ولماذا يُميَّز المدعون هذا التَّميُّز؟ أليس ذلك زرايةً بحقوق الانسان
في عمومها، وحقوق المصريين على الخصوص؟
كَرهَ المصريون جميعًا هذه المحكمة من أجل هذه الأسباب حتى لو طابقَت أحكامها العدالة، وليس غريبًا أن يَحتقروا من يشارك فيها من بينهم كقاض وكمُدَّع عمومي ولو كان أكثر الناس وطنية وإخلاصًا، لأنه يُعرِّض سُمعته للشُّبهات والرِّيَب، إلى أن يتَّضح للناس من بعد أنه كان يهدف إلى غرضٍ نبيل لا عيبَ فيه.
ومن الناحية الأخرى فإنَّ من يَقبل من المصريين أن يشارك فيها يَحمل على عاتقه أكبر المسئولية عن القسوة الفاضحة في أحكامها.
لقد كان الحُكم في قضية دنشواي بإجماع المصريين حُكمًا قاسيًا لا يستحقه المتهمون، وكان تنفيذه أكثر استحقاقًا للسُّخط، لا فائدة في القول بأن جميع المصريين الذين شاركوا في هذه المحكمة قد كرههم مواطنوهم واحتقروهم، ولرُبما استطاع أحد المُدافعين في القضية الحالية أن يؤكد ذلك أكثر من غيره، لكنَّا لسنا هنا في مقام التوجُّع، ولا الدفاع عن أنفسنا، لقد جئنا إلى هذه القاعة للدفاع عن الورداني".
واختتم يقول: "لقد جِئنا إلى هذه القاعة للدفاع عن الورداني، ومن أجل ذلك وجبَ علينا أن نُنكر ذواتنا، وأن نغفر كل ما وجَّههُ إلينا مواطنونا، اللهم إنِّي أستغفرك وأستغفر مواطنينا".
"وأهم ما قال الهلباوي في دفاعه: "إن بطرس باشا يا حضرات المستشارين دخل الحكومة المصرية موظفًا بأربعة جنيهات، وخدم أربعين سنة، فلو أنه كان يتناول كل سنة ألفا من الجنيات، وكان صَمَدًا لا يأكل ولا يشرب لما استطاع أن يترك أكثر من أربعين ألفا من الجنيهات، لكن تركة بطرس غالي يا حضرات المستشارين قُومت بأكثر من مليون من الجنيهات، فمن أين جاء بالمال الوفير؟ ثم التفتَ إلى إبراهيم الورداني وقال له: معذورٌ يا إبراهيم.
عند ذلك سأله رئيس الجلسة مستر دولبروغو الأرمني: كيف تقول هذا في جلسة علنية؟ ثم جَعل الجلسة سرية، واستمرت سرية طوال فترة مرافعة الهلباوي، وعند ختامها عادت علنية.
ومن الطريف أن الهلباوي بعد أن كان مُتعاطفًا مع الإنجليز في مرافعته في قضية دنشواي، نجده في مرافعته عن الورداني يُعدد المخازي التي ارتكبها الانجليز في البلاد، والتي لا تتفق مع ادعاءاتهم الإصلاحية وقال إنهم لم يفيدوا البلاد فائدة توازي جُزءً من المائة من التضحية باستقلالها وحريتها، ونَدد بتصرفاتهم في السودان، واغتصابهم الحق فيه، مع ما أراقت مصر في سبيل فتحِه من الدماء، وهذا ما يُعد أكبر غدر وأشد خيانة من أمة لأمة في القرن العشرين.
- الهلباوي يعود فقيرا:
أفلس الهلبواي تمامًا في عام 1930 وتمَّ الحجز على أراضيه وأملاكه وقصوره، ولا يجد مَنزلا يسكن فيه.
نزلت بالمحامي العظيم فيما بين 1924، 1925 أزمة اقتصادية عنيفة استدان بسببها مئات الألوف من الجنيهات، ولا يُصبح لإبراهيم الهلباوي من بضعة آلاف الأفدنة التي كان يمتلكها فدانًا واحدًا، ولا مِن سراياه في جاردن سيتي حَجر واحد، لقد رسا مزاد هذه الآلاف على الدائنين، ورسا مزاد السرايَ على الخاصة الملكية.
أراد سعد زغلول وهو خَصمه السياسي قبل رُسوّ مزاد السراي أن يَحفظ للأسد عرين الأسد بشراء الدار له، فأوفدَ إليه فتح الله باشا بركات يرجوه أن يَقبل تدخله في المزاد فشَكر لسعد ولفتح الله بركات، وأصر على ألا يَفعلا فلم يَفعلا!
ويقف الهلباوي ذات مرة أمام المحكمة مُترافعًا عن نفسه في قضية تخص بيته الذي يُراد نزع ملكيته منه فيقول والدموع تملأ مآقي هيئة المحكمة: يقول إبراهيم الهلباوي الذي طالما صال وجال في ساحات المحاكم إنه جاء إلى المحكمة لأنه يعرف أنه انهزم في كل مكان، فقد تَعوَّد النصر في المحكمة، وأنه إذا لم يَبق له دار، فإنه باقٍ في دار العدالة التي ساهم فيها أكثر مما ساهم أي إنسان، لا يلتمس أن يَسكن، ولا يلتمس أن يُرحَم، ولكنه يطلب العدل من دار العدل.
- وهكذا:
كانت سيرة الهلباوي بك نَموذجًا تقليديًا لقصة حياة البطل الذي يُخطئ مرة واحدة فتُودي به خطيئته، ويظل يُجاهد العُمر كله لكي يحصل على الغُفران فيوصِد الشعب قلبه دونه، ولا يَرق له، وهو الشعب الطيب القلب، الحنون، الذي طالما غفرَ لكثيرين، وعفا عن كثيرين.
"محامي "الظروف المُخففة" الذي يلتمس العُذر للمتهم المُدان، ويُنقذه ببراعته وقوة منطِقه مما ارتكبت يداه، يُقامر بكل شيء في "القضايا اليائسة" وينجح دائمًا في فك حبل المشنقة عن عُنق المتهم الذي ثبت عليه الاتهام لكنه على الرغم من هذا كله، لم يَنجح في التماس العذر لنفسه.
فشَل أعظم طلاب المَرحمة في طلب الرحمة لنفسه من الشعب، عجز محامي الظروف المُخففة أن يُقنع "محكمة الشعب" بأن لديه ظروفًا مُخففة يستحق الأخذ بها.
وعلى امتداد ثلاثين عامًا طويلة، حاول أن يُكفر عن ذنب ارتكبه، مُستخدما كل طاقاته المُذهلة، كل فصاحته، لسانه الذهبي، قدرته على المناظرة لكي يُقنع رجل الشارع - الأمي الذي تُبهره البلاغة - ببراءته، أو حتى تَوبته ففشل، أصمَّ الشعب أذنيه، وأغلق قلبه، وغَلُظت عواطفه، وصَمَّ وهو الرقيق الحنون، المتفاهم أمام ولولة الهلباوي ووحْوته، وبكائه وضَحكه، وأبَى أن يَغفر أو يَعفو، لأن ذنب الهلباوي كان مما لا تصلح معه ظروف مُخففة، أو مما يجوز أن يُقيد في كشوف المرحمة! وفي عام 1940 مات الهلباوي وهو في الثالثة والثمانين من عمره.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المراجع: مذكرات الهلباوي. صبري أبو المجد: سنوات ما قبل الثورة الجزء الأول. يحي حقي: خليها على الله. صلاح عيسى: حكايات من دفتر الوطن. محمود عباس العقاد: رجال عرفتهم. عبد العزيز البشري: في المرآة. عمرو الشلقاني: ازدهار وانهيار النخبة القانونية في مصر: د. محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية جـ 1. محمد فريد: مذكراتي بعد الهجرة. محمد نصر: دنشواي والصحافة. أيمن عثمان: تراث مصري.






11.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى