البروفيسور لطفي منصور - التَّصْريعُ في الشِّعْرِ: اشْتِقاقُهُ وَتَعْريفُهُ وَغَرَضُهُ

هو مِنْ عَمَلِ الشُّعَراءِ الْفُحُولِ الْقُدامَى كَامْرِئِ الْقَيْسِ، وَعَلْقَمَةَ بنِ عَبَدَة التَّمِيمِيِّ، وَباقي شُعَراءِ المُعَلَّقاتِ. وَيَظْهَرُ عادَةً في الْبَيْتِ الأَوَّلِ مِنَ القَصيدَةِ فِي العَروضِ وَالضَّرْبِ. مِثالُهُ عِنْدَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزلِ = بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
وَمَنْزِلِ: العَرُوضُ، فَحَوْمَلِ: الضَّرْبُ. وَرَوِيُّ العَروضِ هو الْحَرْفُ الذي تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَصِيدَةُ كُلُّها، وهوَ اللّامُ هُنا.
مِثالٌ آخَرُ مِنْ مُعَلَّقَةِ الْحارِثِ بنِ حِلِّزَةَ: مِنَ الخفيفُ
آذَنَتْنا بِبَيْنِها أَسْماءُ = رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ
الرَّوِيُّ في العَروضِ هَوَ الْهَمْزَةُ، وهوَ الَّذي حَكَمَ أنْ تَكونَ القَصيدَةُ هَمْزِيَّةً.
وسُمِّيَ تَصْريعًا مِنْ مِصْراعَيِ الْبابِ، وَنِصْفُ الْبَيْتِ يُقالُ لَهُ مِصْراعٌ، لَأَنَّهُ بَابُ القَصيدَةِ وَمَدْخَلُها.
وَيُلَخِصُ لنا ابنُ رَشِيقٍ في الْعُمْدَةِ (1:174) اشْتِقاقَ وَتَعْريفَ التَّصْريعِ نَقْلًا عَنْ أَبي إسْحاقَ الزَّجَّاجِ الَّذِي يَقُولُ: هُوَ مِنَ الصَّرَعَيْنِ، وَهُما طَرَفا النَّهارِ، الأَوَّلُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى اسْتِواءِ النَّهارِ، والثّانِي مِنْ مَيْلِ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ إلَى وَقْتِ غُروبِها. وَيُضِيفُ ابنُ رَشيقٍ: إنَّ سَبَبَ التَّصْرِيعِ مُبادَرَةُ الشَّاعِرِ القافِيَةَ لِيُعْلِمَ أَنَّهُ بَدَأَ في كَلامٍ مَوْزونٍ غَيْرِ مَنْثُورٍ، وَلِهذا جاءَ التَّصْريعُ غالبًا في البَيْتِ الأَوَّلِ.
لَيْسَ كُلُّ البشُّعَراءِ دَأَبُوا عَلَى التَّصْريعِ في الْبَيتِ الأَوَّلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّعَ في البيتِ الثّاني أوِ الثّالِثِ كَالأَخْطَلِ مَثَلًا (ابن رَشيق المكانُ نَفْسُهُ ص:175)، وقِيلَ إنَّ ذا الرُّمَّةِ المعروفِ بِغَيْلانَ صاحِبِ مَيَّةَ لم يَسْتَعْمِلِ التَّصْريعَ إلّا نادِرًا. وهُناكَ شُعَراءُ كانُوا يُوالًُونَ التَّصْرِيعَ في عِدَّةِ أَبْياتٍ. مِنْهُمُ امْرُؤُ القَيْسِ الَّذي وَالَى التَّصْريعَ في ثَلاثَةِ أَبْياتٍ هيَ مِنَ الْمُتَقارَب:
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ
وَماذا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ
أَمَرْخٌ خِيامُهُمُ أمِْ عُشَرْ
أَمِ الْقَلْبُ في إثْرِهِمْ مُنْحَدِرْ
وَشاقَكَ بَيْنَ الْخَلِيطِ الشُّطُرْ
وَفِيمَنْ أَقامَ مِنَ الْحَيِّ هِرْ
وقَدْ أَرادَ امْرُؤٌ الْقَيْسِ الدَّلالَةَ عَلَى قُوَّةِ الطَّبْعِ،، وَغَزارَةِ الْمادَّةِ. الْمَرْخُ: شَجَرٌ قصيرٌ يَنْبُتُ في نَجْدٍ، الْعُشَرُ: شَجَرٌ شَوْكِيٌّ صَحْراوِيٌّ، الشُّطُر: جمْعُ شَطير وهو الْقَرِيبُ.
وَعُيوبُ القافِيَةِ تَنْدَرِجُ أيضًا عَلى التَّصْريعِ، كَالإقواءِ وَالإكْفاءِ وَالإيطاءِ والسِّنادِ وَغَيْرِها. الْأمْثِلَةُ عَلَى ذلِكَ تجدونَها في المصْدَرِ المَذْكور سابِقًا في الصَّفحات (176-178).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى