من الواضحِ أنَّ الوجودَ الطبيعي للأشياء(كينونةً وتشكلًا ثلاثيَّ الحالة) يسبقُ اللغة، أي يسبقُ الوجودَ الصوتي الذي أطلقهُ الإنسان كمسمىً على هذه الأشياء، أو ما يسمى بالوجود اللغوي(الدال)للأشياء، يعني أنّ الأشياءَ( الحجر والماء والريح والنار والشجرة وغيرها..) كانت موجودةً منذ القدم كما نعرفها الآن وبحالتها الثلاثية(صلبة وسائلة وغازية) من قبل ظهور اللغة، وهذا بالضرورة يعني أنَّ الأشياءَ تسبقُ الكلمات وأنَّ الإشارة اللغوية لم تتشكل بعد لافتقارها للدال الصوتي بوصفهِ القسيم الأول لهذه الإشارة اللغوية التي يمثل (المدلول/الشيء) قسيمَها الثاني.
إن التحوّل الطبيعي بين حالاتِ المادة كتحوّل الماء للحالات الثلاث(بخار وثلج ومطر) وانبثاق المسميات لتغطّي هذا التحوّل الطبيعي وتصفَهُ وتثبّتَهُ ليكونَ مفهوما من قبلِ المتكلمين بلغةٍ معينة، وانسحاب هذا التشكلات اللغوية بوصفها (دوالا) لجميع الأشياء التي تحيطُ بالإنسان كي تُنقلَ من وسطها المادي إلى الوسطِ اللغوي حيثُ يمكن لجمهور المتكلمين تداولها والتعامل بها بوصفها حضورًا لغياب. أو حضورًا لغويًا يقابله غيابٌ مادي وبالتالي تكون اللغة رموزًا حاضرةً لسانيا حتى ولو كانتْ الأشياءُ موجودةً في مكانٍ آخر.
وهنا سيأتي السؤالُ التّالي: هل هنالكَ علاقاتٌ شعريّةٌ بينَ الأشياءِ مصاحبةٌ للعلاقاتِ الطبيعيَّة قبلَ ظهورِ اللغةِ بينَ الناسِ الذين يتكلمون بها؟ وكيف نستدلُّ على هذه العلاقاتِ والروابطِ إن وُجدتْ؟، وسيكون الجوابُ صعبًا بدون تأملٍ عميقٍ لمعرفة في ما إذا كانتْ الطبيعة ثنائية التصرّف(طبيعي- شعري)، ثمَّ أورثتْ هذا التصرف الثنائي للأشياء ليشعرَ بهِ الإنسان ثم يقوم بكتابته كما يراه بحسبِ ما يستقبلهُ من خلال حوّاسهِ، وهنا سنشعر وكأنَّ الطبيعة تتكلمُ معنا بلغةٍ شعريّةٍ ولكنَّها طبيعيّة، فحينما تضربُ الريحُ الأشجارَ وتكسِّرُ أغصانَها، أو حينما تمطرُ السماء ُ وتبلِّل الأرضَ بالمياهِ، أو حينًما تبهرُنا الشمسُ بالشروقِ والغروبِ، أو ما تكشفُه لنا السماءُ من نجومٍ وسُدُمٍ وأقمارٍ، نجدُ أنَّ هذه التصرّفات تحدثُ نتيجة قوانين طبيعيّة من حركةٍ وتجاذبٍ وحرارةٍ وضغوطٍ جوية وغيرها، ولكنها تتركُ آثارا نفسية (حزينة- سعيدة)أو (غاضبة - هادئة) في المتلقي وتجلبُ له حالاتٍ عميقة تتعلق بالوجودِ الإنساني(الأنطولوجي) بوصفه جزءًا من الوجود الكوني الذي يعيشُ فيه.
لا بد للمتأمّلِ كي يجيبَ على هذهِ الأسئلةِ ويمسكَ بالحَقيقةِ الغائبةِ في ثنايا التصرّفِ الكوني الثنائي (الذي تُبديهِ الطبيعة) أن يفتِّتَ الحالةَ ويقرأها من مكوّناتِها الصغرى بحسبِ الأولويات، والأولويّة الأولى هي أنَّ الأشياءَ في الطبيعةِ متحرّكةٌ، لكنّها تنطوي على جواهرَ ساكنةٍ وبدئيّةٍ، فالرملُ مثلا لا يمكنُ أن يكونَ ماءً والعكسُ صحيح أيضا. لأنَّ التركيبَ الكيميائي للماء(H2O) يختلف عن التركيب الكيميائي للرمل(ثاني أوكسيد السيليكون / SiO2)، والتعاملُ اللغوي مع الأشياءِ بصورتِها البدئية شعريًا كانَ باستخدامِ الاستعارةِ، فعند أمرئ القيس مثلًا، نجد أن صورةَ الحصان وسرعتَهُ مثلا(كجلمود صخرٍ) يسقطُ من جبل، أو رأسُ الفارسِ على الحصان يشبه دلوًا مشدودًا ببكرةٍ منصوبةٍ على بئرٍ في الصحراء، أو نقرأ أن سلطةَ الملكِ مثلا تشبهُ سلطة الليل الذي لا يُمكنُ الهروبَ منه (عند النابغة الذبياني)، والأولويّة الثانية هي الأولوية اللغوية بمعناها القاموسي الصافي أو ما هو قارٌ وثابتٌ ويُستخدم كرمزٍ للشيء أم ما يمكن تسميته ما قبلَ المجاز، وفي هذا المستوى الأولِ من اللغة لا يمكنُه أن يكون شعرًا يؤثرُ في أحاسيسنا لأنهُ ذو غرضٍ تداولي هدفه الإفهام، وفي هذا المستوى اللغوي يشتغل العلمُ ويمكن للغة العلميّة أن تصف الأشياءَ بوصفها وجودًا وعلاقاتٍ طبيعية(فيزيائية - كيميائية) فاللغةُ العلميةُ لا يُمكن أن تستخدمَ المجاز في تثبيتِ مقولاتِها وأفكارِها، وإلا ارتبكتْ المقولاتُ وضاعتْ الحقيقة.
أمّا الأولويّة الثالثة فتتمثلُ بالوجودِ الشعري للأشياءِ في اللغةِ ، والوجودُ الشعريّ للأشياءِ تقومُ به الأشياء ُ ذاتُها بصورةٍ طبيعية، وقد يستغربُ القارئ من كلامي، فالقوانينُ الطبيعيّة التي تسيرُ بموجبِها الأشياءُ تثيرُ فيضًا من التموجاتِ في أحاسيس المتلقي لا تستطيعُ اللغةُ العادية وصفه، أو بكلامٍ آخر تخلقُ الظواهر الطبيعية في حركة الأشياءِ نبضاتٍ كونية لا يحسُّها إلا الشعراء وهي نبضاتٌ طاقويّة غير منظورةٍ تلامسُ مشاعرَ الإنسان وتسبقُ حركةَ الأشياء وبالتالي فهذا المستوى الطاقوي(الشعري) يستوجبُ وسيطين مهمين لكي يظهر بصورة جليّة، أولهما وجود الشاعر بوصفه المتحسسَ الأول لهذه الذبذبات أو النبضاتِ الكونيّة، وثانيهما الوسيط الرمزي المتمثل باللغة الشعرية الكامنة في المستوى الثاني من الدلالة وهو مستوى متقدم يحدث بالاستخدام المجازي للغة وليس القاموسي، وهو ما يستطيع ُ الشاعرُ أن يقومَ به من خلال الاستخدام الأمثل للغة بمستواها الثاني.
إذن ومن خلال ما قلناه في أعلاه يمكن القول إن الائتلاف الثنائي للكون يستوجب انشطارا ثنائيا على مستوى الوظيفة إنسانيا، فالإنسان العالم هو من يكشف عن العلاقات الطبيعية(فيزيائية كيمياوية) بين تلك الأشياء والإنسان الشاعر هو من يكشف عن شعرية العلاقات بين الأشياء ومن هنا تتبدى عبقرية الإنسان في كوننا الذي يجمع النقيضين أو الصورتين للأشياء (الطبيعية - الشعرية) من خلال الوسيط المهم المتمثل باللغة البشرية بمستوياتها الرحبة.
الخميس- بابل
14/10/2021 05:51:03 م
إن التحوّل الطبيعي بين حالاتِ المادة كتحوّل الماء للحالات الثلاث(بخار وثلج ومطر) وانبثاق المسميات لتغطّي هذا التحوّل الطبيعي وتصفَهُ وتثبّتَهُ ليكونَ مفهوما من قبلِ المتكلمين بلغةٍ معينة، وانسحاب هذا التشكلات اللغوية بوصفها (دوالا) لجميع الأشياء التي تحيطُ بالإنسان كي تُنقلَ من وسطها المادي إلى الوسطِ اللغوي حيثُ يمكن لجمهور المتكلمين تداولها والتعامل بها بوصفها حضورًا لغياب. أو حضورًا لغويًا يقابله غيابٌ مادي وبالتالي تكون اللغة رموزًا حاضرةً لسانيا حتى ولو كانتْ الأشياءُ موجودةً في مكانٍ آخر.
وهنا سيأتي السؤالُ التّالي: هل هنالكَ علاقاتٌ شعريّةٌ بينَ الأشياءِ مصاحبةٌ للعلاقاتِ الطبيعيَّة قبلَ ظهورِ اللغةِ بينَ الناسِ الذين يتكلمون بها؟ وكيف نستدلُّ على هذه العلاقاتِ والروابطِ إن وُجدتْ؟، وسيكون الجوابُ صعبًا بدون تأملٍ عميقٍ لمعرفة في ما إذا كانتْ الطبيعة ثنائية التصرّف(طبيعي- شعري)، ثمَّ أورثتْ هذا التصرف الثنائي للأشياء ليشعرَ بهِ الإنسان ثم يقوم بكتابته كما يراه بحسبِ ما يستقبلهُ من خلال حوّاسهِ، وهنا سنشعر وكأنَّ الطبيعة تتكلمُ معنا بلغةٍ شعريّةٍ ولكنَّها طبيعيّة، فحينما تضربُ الريحُ الأشجارَ وتكسِّرُ أغصانَها، أو حينما تمطرُ السماء ُ وتبلِّل الأرضَ بالمياهِ، أو حينًما تبهرُنا الشمسُ بالشروقِ والغروبِ، أو ما تكشفُه لنا السماءُ من نجومٍ وسُدُمٍ وأقمارٍ، نجدُ أنَّ هذه التصرّفات تحدثُ نتيجة قوانين طبيعيّة من حركةٍ وتجاذبٍ وحرارةٍ وضغوطٍ جوية وغيرها، ولكنها تتركُ آثارا نفسية (حزينة- سعيدة)أو (غاضبة - هادئة) في المتلقي وتجلبُ له حالاتٍ عميقة تتعلق بالوجودِ الإنساني(الأنطولوجي) بوصفه جزءًا من الوجود الكوني الذي يعيشُ فيه.
لا بد للمتأمّلِ كي يجيبَ على هذهِ الأسئلةِ ويمسكَ بالحَقيقةِ الغائبةِ في ثنايا التصرّفِ الكوني الثنائي (الذي تُبديهِ الطبيعة) أن يفتِّتَ الحالةَ ويقرأها من مكوّناتِها الصغرى بحسبِ الأولويات، والأولويّة الأولى هي أنَّ الأشياءَ في الطبيعةِ متحرّكةٌ، لكنّها تنطوي على جواهرَ ساكنةٍ وبدئيّةٍ، فالرملُ مثلا لا يمكنُ أن يكونَ ماءً والعكسُ صحيح أيضا. لأنَّ التركيبَ الكيميائي للماء(H2O) يختلف عن التركيب الكيميائي للرمل(ثاني أوكسيد السيليكون / SiO2)، والتعاملُ اللغوي مع الأشياءِ بصورتِها البدئية شعريًا كانَ باستخدامِ الاستعارةِ، فعند أمرئ القيس مثلًا، نجد أن صورةَ الحصان وسرعتَهُ مثلا(كجلمود صخرٍ) يسقطُ من جبل، أو رأسُ الفارسِ على الحصان يشبه دلوًا مشدودًا ببكرةٍ منصوبةٍ على بئرٍ في الصحراء، أو نقرأ أن سلطةَ الملكِ مثلا تشبهُ سلطة الليل الذي لا يُمكنُ الهروبَ منه (عند النابغة الذبياني)، والأولويّة الثانية هي الأولوية اللغوية بمعناها القاموسي الصافي أو ما هو قارٌ وثابتٌ ويُستخدم كرمزٍ للشيء أم ما يمكن تسميته ما قبلَ المجاز، وفي هذا المستوى الأولِ من اللغة لا يمكنُه أن يكون شعرًا يؤثرُ في أحاسيسنا لأنهُ ذو غرضٍ تداولي هدفه الإفهام، وفي هذا المستوى اللغوي يشتغل العلمُ ويمكن للغة العلميّة أن تصف الأشياءَ بوصفها وجودًا وعلاقاتٍ طبيعية(فيزيائية - كيميائية) فاللغةُ العلميةُ لا يُمكن أن تستخدمَ المجاز في تثبيتِ مقولاتِها وأفكارِها، وإلا ارتبكتْ المقولاتُ وضاعتْ الحقيقة.
أمّا الأولويّة الثالثة فتتمثلُ بالوجودِ الشعري للأشياءِ في اللغةِ ، والوجودُ الشعريّ للأشياءِ تقومُ به الأشياء ُ ذاتُها بصورةٍ طبيعية، وقد يستغربُ القارئ من كلامي، فالقوانينُ الطبيعيّة التي تسيرُ بموجبِها الأشياءُ تثيرُ فيضًا من التموجاتِ في أحاسيس المتلقي لا تستطيعُ اللغةُ العادية وصفه، أو بكلامٍ آخر تخلقُ الظواهر الطبيعية في حركة الأشياءِ نبضاتٍ كونية لا يحسُّها إلا الشعراء وهي نبضاتٌ طاقويّة غير منظورةٍ تلامسُ مشاعرَ الإنسان وتسبقُ حركةَ الأشياء وبالتالي فهذا المستوى الطاقوي(الشعري) يستوجبُ وسيطين مهمين لكي يظهر بصورة جليّة، أولهما وجود الشاعر بوصفه المتحسسَ الأول لهذه الذبذبات أو النبضاتِ الكونيّة، وثانيهما الوسيط الرمزي المتمثل باللغة الشعرية الكامنة في المستوى الثاني من الدلالة وهو مستوى متقدم يحدث بالاستخدام المجازي للغة وليس القاموسي، وهو ما يستطيع ُ الشاعرُ أن يقومَ به من خلال الاستخدام الأمثل للغة بمستواها الثاني.
إذن ومن خلال ما قلناه في أعلاه يمكن القول إن الائتلاف الثنائي للكون يستوجب انشطارا ثنائيا على مستوى الوظيفة إنسانيا، فالإنسان العالم هو من يكشف عن العلاقات الطبيعية(فيزيائية كيمياوية) بين تلك الأشياء والإنسان الشاعر هو من يكشف عن شعرية العلاقات بين الأشياء ومن هنا تتبدى عبقرية الإنسان في كوننا الذي يجمع النقيضين أو الصورتين للأشياء (الطبيعية - الشعرية) من خلال الوسيط المهم المتمثل باللغة البشرية بمستوياتها الرحبة.
الخميس- بابل
14/10/2021 05:51:03 م