بهاء المري - القضاء في الإسلام يرسي مبادئ قضائية لم يعرفها القانون الوضعي إلا بعد مئات السنين

(*) لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص:
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ سورة الإسراء الآية 15. ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُون﴾ القصص الآية 59.
(*) مبدأ شخصية العقوبة:
قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ﴾ سورة فاطر الآية 18.
(*) الأصل في الإنسان البراءة:
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن كان له مخرجٌ، فخلُّوا سبيلَه،
وعن أبي هريرة أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ادفَعوا الحدود ما وجدْتم لها مدفعًا.
(*) البينة على من ادعى واليمين على من أنكر:
فعن ابن أبي مليكة قال: كتب إليَّ ابن عباس أن رسول الله ﷺ قضى باليمين على المدعى عليه (1).
كما أوضح الرسول ﷺ أن كل دعوى تحتاج إلى بينة، فقال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
(*) خير للعدالة أن يفلت ألف مجرم من أن يُدان برئ واحد:
فعن رسول الله ﷺ أن يُخطِئ الإمام في العفوِ، خيرٌ من أن يُخطِئَ في العقوبةِ".
(*) عدم مسئولية معدوم الإرادة:
فقد رفع النبي ﷺ الحد عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل.
(*) مبدأ شخصية العقوبة:
فلم ينفذ النبي ﷺ الحد في الحبلى، إلا بعد أن تضع حملها وترضعه، لئلا يعاقب الطفل البريء. فقد روي عنه أنه عندما أتته امرأة وأخبرته أنها زنت وكانت حبلى، قال: اذهبي حتى تضعي، قلما وضعت أتته، فقال: اذهبي حتى ترضعي، فلما أرضعته أتته فقال: اذهبي حتى تستودعيه، فاستودعته، ثم جاءته فأمر بها فأقيم عليها الحد (2).
(*) لا يقضي القاضي بعلمه:
عرف القضاء في الإسلام قاعدة "لا يقضي القاضي بعلمه، أي لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها، وهو قول شريح‏ والشعبي ومالك وإسحاق‏،‏ وأبي عبيد ومحمد بن الحسن، وهو أحد قول الشافعي. ولكن بعض الفقهاء فرق بين الحكم بالعلم في الحدود وغير الحدود، وفي الحالة الأخيرة فرقوا بين ما يعلمه القاضي قبل ولايته أم في أثناء ولايته، فما علمه قبل ولايته لا يحكم بها، وما علمه في أثناء ولايته يحكم به.
وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور‏، والقول الثاني للشافعي ‏(‏لأن النبي ﷺ لما قالت له هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح لا يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏.‏ فحكم لها من غير بينة ولا إقرار‏ لعلمه بصدقها.
وروى ابن عبد البر في ‏"كتابه‏"‏ أن عُروة ومجاهدًا رَوَيا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب‏،‏ أنه ظلمه حدا في موضع كذا ،وكذا قال عمر‏:‏ إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان‏، فأتني بأبي سفيان فأتاه به فقال له عمر‏:‏ يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا ؛فنهضوا‏،‏ ونظر عمر فقال‏:‏ يا أبا سفيان خذ هذا الحَجر من ها هنا فضعه ها هنا ،فقال‏:‏ والله لا أفعل فقال‏:‏ والله لتفعلن، فقال‏:‏ والله لا أفعل؛ فعلاه بالدرة‏،‏ وقال‏:‏ خذه لا أم لك فضعه ها هنا؛ فإنك ما علمت قديم الظلم، فأخذ أبو سفيان الحجر‏‏ ووضعه حيث قال عمر، ثم استقبل عمر القبلة فقال‏:‏ اللهم لك الحمد حيث لم تُمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه‏،‏ وأذللته لي بالإسلام، قال‏:‏ فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال‏:‏ اللهم لك الحمد إذ لم تُمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر، قالوا‏:‏ فحكم بعلمه.
وقال أبو حنيفة‏:‏ ما كان من حقوق الله‏ لا يحكم فيه بعلمه؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة، وأما حقوق الآدميين فما عَلمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته‏ حكم به؛ لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته.
وفي‏ قول النبي ﷺ ‏"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‏،‏ فأقضي له على نحو ما أسمع منه‏" فدلَّ على أنه إنما يقضي بما يَسمع لا بما يعلم.
‏ ‏وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو رأيت حدا على رجل لم أحده حتى تقوم البينة.
- الدفاع الشرعي:
روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة؛ ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح. وفي لفظ: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص (3).
(*) الأخذ بالمبادئ المستقرة:
(*) استودع رجل لغيره مالا فجحده، فرفعه إلى إياس بن معاوية فأنكر، فقال للمدعي: أين دفعت المال، فقال: في مكان في البرية، فقال: وما كان هناك، قال: شجرة. قال اذهب إليها فلعلك دفنت المال عندها ونسيت فتتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى، وقال للخصم اجلس حتى يرجع صاحبك، وإياس يقضي وينظر إليه ساعة بعد ساعة، ثم قال: يا هذا أترى صاحبك بلغ مكان الشجرة، قال لا. قال يا عدو الله إنك خائن، قال أقلني، قال، أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل فقال له إياس: اذهب معه فخذ حقك.
(*) وجرى نظير هذه القضية لغيره من القضاة - وكأنها مبدأ مستقرا - فقد ادعى رجل أنه سلم غريما مالا وديعة فأنكره، فسأله القاضي: أين سلمته إياه؟ قال: بمسجد ناءٍ عن البلد، قال: اذهب فجئني منه بمصحف أحلفه عليه، واعتقل القاضي الغريم، ثم قال: أتراه بلغ المسجد؟ قال: لا. فألزمه بالمال.
ونأخذ من هذا القضاء، الفهم، فلو أن المدعى عليه قال حين سئل عن الشجرة لا أعلم، لكان صادقا، ولكنه أجاب من فوره "لا" أي أن ما مضى من وقت لا يجعل المدعي يصل إلى الشجرة، إذن فهناك شجرة والمدعي صادق في ادعائه.
كما يؤخذ منه أهمية أن يراقب القاضي انفعال الخصوم أو الشهود أو المتهم، من خلال ما يبدو عليهم من أثر انفعال، فكان ابن إياس يقضي، ثم يختلس النظر بين الفينة والفينة إلى المدعى عليه.
- جرائم الجلسات:
قال الفقهاء أن للقاضي أن ينتهر الخصم إذا التوى‏ ويصيح عليه، وإن استحق التعزير عزَّره بما يرى من أدب أو حبس، وإن افتأت عليه بأن يقول‏:‏ حكمت علي بغير الحق أو‏:‏ ارتشيتَ، فله تأديبه، وله أن يعفو وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه‏،‏ وقال‏:‏ البينة على خصمك، فإن عاد نهره فإن عاد عزَّره إن رأى، وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله‏ وله العفو(4)‏.‏


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(1) أخرجه البخاري 3/232 في الشهادات باب اليمين على المدعى عليه في الأموال.
(2) المُوطَّأ صـ 306.
(3) أخرجه أحمد في المسند 2/ 385. والنسائي 8/ 61.
(4) المغني لابن قدامة. باب القضاء.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى