توطئة
ترتبط (اللسانيات المعرفية) إرتباطاً وثيقاً بميادين البحث المعرفي في الحقول الأخرى وخاصة الفلسفة وعلم النفس المعرفي والعلوم العصبية والذكاء الإصطناعي. ولطالما تفاعلت المدارس اللسانية مع تيارات ومدارس الفكر الفلسفي والنفسي على وجه الخصوص. إذ لعبت طروحات ديكارت المتعلقة بثنائية (العقل/الجسد) دوراً بارزاً في تحديد المسارات البحثية لأهم مدرستين لسانيتين وهما مدرسة النحو التوليدي لجومسكي ومدرسة الدلالة الصورية لمونتيغيو. إذ أكدَ ديكارت على أن العقل والجسد يُشكلان ثنائية متباينة بحيث أن بوسعنا دراسة طبيعة العقل بمعزلٍ تام عن طبيعة الجسد بل وبعيداً عنها. شكلت هذه النظرية مرتكزاً أساسياً في تحديد منهجية البحث اللساني منذ خمسينيات القرن المنصرم فأصبحت اللغة مجرد نظام صُورِيّ أو مُحَوسَب بوسعنا دراسته بعيداً ومعزولاً عن أي مُحَدِدات أو تأثيرات للجسد البشري أو لطبيعة الخبرات المعرفية للإنسان.
أما اللسانيات المعرفية فتنضوي تحت مظلة تيارات فلسفية ونفسية تتقاطع جوهرياً مع ثنائية ديكارت لأنها ببساطة شديدة تؤكد على مركزية الجسد البشري في تحديد طبيعة العقل أو الخبرات والنشاطات الإدراكية الخاصة بالإنسان. ولذا ما عاد بوسعنا تجاهل الأثر الذي يتركه جسدنا وطبيعته البايلوجية والتصميمية على طبيعة عمل العقل وجميع أنشطته الإدراكية المختلفة وبالطبع لا تعد اللغة إلا إحدى تلك الأنشطة الإدراكية للعقل البشري إذا لم تكن من أعقدها.
وتؤكد اللسانيات المعرفية على خضوع اللغة بمجملها لتجاربنا وحالاتنا الجسدية وتفاعلنا مع الوسط المادي الذي نعيش فيه. فنحن نُدرك العالم من حولنا ونختبره وفقاً لمُحَدِدَات البناء البيولوجي لأجسامنا. ولا يُعد النص بحد ذاته سوى ظِلاً من ظلال هذا العالم وهي تسقطُ على عين القارئ فيحاول إدراك ماهيتها وتأويلها بمساعدة المُحَدِدَات البصرية لعدسة ذلك الصندوق الصغير الذي ندعوه (العين). وبعبارةٍ أخرى, إن فهم وإدراك القارئ للنص محكومٌ الى حدٍ ما بمفاتيح الطبيعة البيولوجية لفعل القراءة بحد ذاته.
ألف ليلة وليلة
تحاول هذه المقالة الإستعانة بطروحات (اللسانيات المعرفية) المتعلقة بالطبيعة الإدراكية لفعل القراءة لأجل طرح سؤالين فقط:
يحلمُ كلُ ساردٍ بالإستبداد بالقارئ والإستحواذ على عينيه، إذا ما كان السرد مُدَوناً، أو على أذنية، إذا ما كان هذا السرد سمعياً. ليس بوسع السرد الناجح إلا أن يكون سرداً إستبدادياً وإلا فإنه سيفشل ويذوي وينحسر بعيداً عن دائرة إهتمام القارئ البصرية والسمعية معاً.
يرتكز البناء السردي لـ (ألف ليلة وليلة) برمته على تبادل أدوار معقد وفريد من نوعه بين السلطة الدموية للملك شهريار وهو يُضمِر الذبح لزوجته وبين السلطة السردية لشهرزاد وهي تحاول تأجيل مصيرها المحتوم. الإستبداد الهمجي و البدائي لفعل الذبح والإنتقام إزاء الإستبداد السردي اللذيذ لفعل القَص وبهجة الحَكي. هنا تحديداً تهتز حلبة الصراع الصاخب بين المؤلف الذي يُحاول إذكاء نيران بهجة القراءة والإستماع وبين إنطفاء هذه النيران وما يستتبعه من موت سردي ومادي لهذا المؤلف.
يزودنا (علم النفس المعرفي) المعاصر بآلية تفسيرية مثيرة للإهتمام ربما تساعدنا كثيراً على فهم الميكانزم التي تكفل إستمرارية فعل القراءة فضلاً عن دوام الزَخمْ اللازم لحركة عين القارئ. تلك هي آلية أو نظرية (بقعة الضوء).
تعد قراءة النص الأدبي وفقاً لهذه النظرية عملية إنغماس في تجربة ديناميكية تشتملُ على شدٍ مطرد ومتواصل لعين القارئ وهي تُتابع وتَمسحُ بصرياً سلاسل العلاقات الشائكة بين عناصر معينة من النص المَقرُوءْ بينما تتدفق هذه العناصر تِباعاً في مجال بقعة الضوء المتنقلة لعين القارئ. وعادةً ما يكون هذا الشد لعين القارئ إنتقائياً إذ يقتصر على عناصر معينة دون غيرها ضمن حدود المجال البصري الذي تقع فيه تلك العناصر. أما العناصر التي لا توفر الشد القرائي المطلوب للعين فسوف تقع ضمن دائرة الإهمال حتى وإن كانت موجودة بصرياً ضمن حدود دائرة المجال البصري لبقعة الضوء.
يستعين علماء النفس المعرفي بمصطلح (بقعة الضوء) لمساعدتهم على توفير فهم وإدراك كافيين لطبيعة المركز أو البؤرة التي تستولي وتُهيمن على عين القارئ الباحثة أبداً عن كل ما من شأنه أن يكون جديراً بالتركيز ويوفر لها حافزاً على مواصلة وإدامة فعل القراءة أو فعل المسح البصري للنص السردي المطروح للقراءة. كل ما يقع ضمن حدود بقعة الضوء في غضون لحظة معينة يكون خاضعاً للتَفَحُص السريع والمعالجة البصرية لعين القارئ. بيد أن مسار الشد لعين القارئ سيكون محكوماً على الدوام بطبيعة التجربة القرائية السابقة له والمتراكمة من معالجاته البصرية لبقع الضوء التي مَرَت وأنزلقت على أجزاءٍ سابقةٍ من النص. إن تراكمات هذه التجربة القرائية السابقة سيكون لها تأثيراً بالغاً على رسم وتحديد خارطة المسار المستقبلي المُتَوَقع لحركة العين وهي تستحضر وتُهيئ سَلَفاً كل ما يتعلق بعنصر الشد البصري مما يوفر نوعاً من الإنسيابية والإستمرارية لحركة بقعة الضوء التي تُسلِطُها عين القارئ النهمة وهي تتفحص الإنعكاسات البصرية المتتابعة للكلمات المطبوعة على سطح الورقة الأبيض.
ويَطرح علم النفس المعرفي ثلاثة قضايا أساسية تُساعِدنا على فهم طبيعة الآلية التي تستولي بها عناصر المجال البصري على إهتمام الراصد أو بالأحرى على إهتمام عينيه تحديداً, وهذه القضايا هي:
فيما يتعلق بقضية السؤال الأول نستطيع القول أن السرد النصي يتمثل عادةً بصورة مراكز أو بؤر سردية تتوزع هنا وهناك على إمتداد مساحة النص ووفقاً لستراتيجيات سردية يلجئ إليها المؤلف.
أما ما يحدد شكل الفضاء السردي المَقروء فهي هيكلية البناء السردي للنص وآلية توزيع الأدوار والستراتيجيات السردية المطروحة.
كما تجري آلية الإختيار بين العناصر السردية البارزة وتلك الضامرة وفقاً لآلية التركيز على العناصر السردية الديناميكية التي تُسهِم في الحفاظ على مستوى مضطرد ومتصاعد من الشد والتجديد السردي إزاء تجاهل سافر للعناصر السردية الستاتيكية والتي لا توفر سوى مستويات هابطة ومنخفضة للغاية من الشد السردي المفقود.
لا يمكن للنص السردي أن يستولي على القارئ مالم يُجيد هذا النص لُعبة (صرف الإنتباه). فالسرد الأسِرْ عموماً هو سرد ديناميكي ومتحرك يستولي على إهتمام القارئ عبر صرف إنتباهه بعيداً عن بعض العناصر السردية الساكنة وتوجيهه وتركيزه نحو عناصر أخرى متحركة ومُتجددة ضمن فضاء وهيكلية بقعة الضوء وهي تتنقل من مركزٍ سرديٍ إلى أخر على إمتداد المساحة النصية المشرعة أمام عيني القارئ .
لذا نجد أن أعيننا كقراء منصرفةً على الدوام نحو تلك العناصر الديناميكية (الجاذبة)، أما تَشَتُتِها بعيداً عما يُعرف بالعناصر الستاتيكية أو الهامدة فيدعو علماء النفس المعرفي هذا النوع من السلوك البصري بـ (الإحجام عن الرجوع) بمعنى أن وجود هذا النوع من العناصر الساكنة في النص السردي يُسهِم في تثبيط أو منع أي عودة قرائية مُحتملة لعين القارئ لتلك المساحات السردية الخاملة وبدل ذلك نجد أنها (أي العين) ستواصل مسحها البصري لأجزاء جديدة من النص بعيداً عن تخوم تلك العناصر السردية المُمِلَة وبحثاً عن المزيد من عناصر الشد البصري المختبئة بين ثنايا النص السردي المَقرُوءْ.
تحدثنا طويلاً على ما يبدو عن (العناصر), فما هي طبيعتها بالضبط يا ترى؟
قد تكون تلك العناصر ذات طبيعة بصرية ثلاثية الأبعاد عموماً، كما هي عليه الحال مثلاً حينما يقع بصرنا على عمارة سكنية أو طائرة وهي تحلق عالياً، أو ذات طبيعة بصرية خطية أو ببعد واحد، كما هي عليه الحال في قراءتنا للكلمات المطبوعة على سطح الورقة. ولكي نستطيع إدراك الآلية التي تَتَبِعُها العين المُبصِرة وسط بيئة بصرية تحتشد بمختلف أنواع العناصر لا بد لنا من إدراك قاعدة فسلجية عامة وأساسية في تحديد ماهية العناصر التي تستولي وتجذب العين في مجالها البصري أو بقعتها الضوئية. يُزودنا علم النفس المعرفي في هذا الشأن بقاعدة ذهبية وهي: إن العنصر الديناميكي أو المختلف عن محيطه البصري يأسر العين ويهيمن على حركتها أكثر بكثير من بقية العناصر الأخرى. ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟
إذا كان المجال البصري مثلاً يتكون من عمارة سكنية شاهقة الى جانب منازل منخفضة فبالطبع ستكون تلك العمارة مركزاً للشد البصري فتستحوذ وتستولي على عين الناظر بحكم إختلاف أبعادها المكانية والبصرية عن خلفية تلك المنازل المحيطة بتلك العمارة والتي تبدو متشابهة فيما بينها مكانياً وبصرياً، ولو أضفنا لنفس هذا المشهد طائرة تُحلق وتتحرك عالياً فوق تلك العمارة لأصبحت الطائرة، بدل العمارة، مركزاً للشد لأن تلك الطائرة تُمَثِل حافزاً بصرياً ديناميكياً إزاء خلفية ساكنة من بقية الحوافز المُتَمَثِلة بالمنازل المنخفضة والعمارة السكنية الشاهقة.
ولكن كيف بوسعنا إسقاط ذلك كله على عين القارئ حينما يكون مجاله البصري محكوماً فقط بنصٍ سردي مُدَوَنٍ على سطح ورقةٍ صقيلة؟
يتركز إهتمام عين القارئ في هذه الحالة على أي عنصرٍ سردي تكون له سِمات وخصائص لسانية مُدَونة وبارزة للعيان. وبوسع هذا العنصر أن يكون شخصيةً قَصَصيةً قابلة للتتبع أو ثيمة معينة متكررة أو مكانٍ ما أو نوعٍ من الإستمرارية والوقوع المتتابع لحدثٍ أو فعلٍ ما كما هي عليه الحال في فعل المطاردة مثلاً. ولا بد لتلك السمات والخصائص اللسانية والبصرية من شيءٍ ما يجمعها معاً ويجعلها ممكنة التَتَبع حتى يوفر ذلك الزخم البصري الضروري والكافي لتركيز إنتباه العين بدل تشتيتها.
ولكن ما الذي سيحدث لو ظهرَ لعين القارئ أكثر من عنصرٍ سرديٍ واحد يتنافسون فيما بينهم على جذب إنتباه تلك العين؟ تتحرك البقعة الضوئية للعين عندئذ حتى ينصب إهتمامها على أكثر عنصر سردي ملفت للإنتباه في محيط النص المَقرُوء ضمن حدود بقعة الضوء تلك. وقد تتجسد العلامات والسِمات البارزة لهذا العنصر في صورة لازمة تتكرر في عدة أماكن من النص السردي أو في صورة مساحة نصية هائلة مُكَرسَة لذلك العنصر أو في صورة كلمات أو سلاسل من الكلمات الزاخرة بالتمرد على أصول وقواعد اللغة التي ينتمي إليها ذلك النص وهكذا. وعندئذ فحسب تمتلك عين القارئ ما يكفي من الزخم للتغلب على جميع موانع الرجوع التي تحاول كفها عن العودة لنفس البقعة الضوئية وتغلبها هذا قد يعود لأسباب تتعلق مثلاً بعنصر سردي لشخصية قَصَصية ديناميكية ومعقدة أو ببساطة شديدة لأسلوب سردي لا يكترث بين الفينة والأخرى للأصول والقواعد المعيارية للغة.
فلنعد الآن بعد كل هذا التنظير الى نصوص ألف ليلة وليلة. أعتقد أن الهيكلية السردية لما يُعرَف بـ الحكاية الإطارية في ألف ليلة وليلة تَبرِز بصفتها إحدى العناصر الفاعلة في تحقيق حالة الإستحواذ البصري على عين القارئ. هذه الحكاية الإطار هي المِرجَل الذي يزود نصوص الف ليلة وليلة بالطاقة السردية والتشويقية لأذني الملك شهريار ولعيني القارئ المتلهفتين لمسح المزيد من المساحات السردية للنص الذي توشك شهرزاد على نسجه.
إن هذه الحكاية تحديداً تمثل عنصراً سردياً متكرراً ومُوَزعاً بمهارة ودهاء بين طيات الحكايات التي تنضوي تحتها. إن المجال أو (البقعة الضوئية/النصية) لعين القارئ محكومة بحدين صارمين هما: (حد الإستهلال) مُتمَثِلاً بعبارة:
(قالت دنيازاد لأختها شهرزاد: يا أختي أتممي لنا حديثك الذي هو حديث التاجر والجني)،
و(حد التوقف) مُتَمَثِلاً بعبارة:
(وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عِن الكلام المباح. فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك فقال الملك في نفسه: والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها لأنه عجيب).
يؤطِر هذين الحدين معظم حكايات ألف ليلة وليلة مما يجعل منهما عنصرين سرديين لافتين لإنتباه القارئ ضمن حدود المجال أو البقعة النصية المَنظورة. بل إن إمتلاك هذين العنصرين لحدود نصية واضحة المعالم ومُتاخمة تماماً لمساحة الحكايات الأخرى يعمل على خلق تباين بصري ونصي يأسر عيني القارئ ويُهيئهما للشروع بمسح مساحات سردية جديدة والتي تبدأ البقعة النصية لكل واحدةٍ منها مع نهاية حد الإستئناف و تنتهي مع بداية حد التوقف لتلك الحكاية الإطارية.
كما يلعب موقع الصدارة للحدين في المجال البصري والنصي دوراً هائلاً في إستثارة عين القارئ. إذ غالباً ما يرتكز الشد البصري للعين، وفقاً لمعطيات علم النفس المعرفي، على العناصر البصرية التي تشغل أو تحتل موقع الصدارة بالنسبة لبقية أجزاء البقعة الضوئية. وبذا يستولي حد الإستئناف من الحكاية الإطارية على مُجمَل حركة العين لصدارة موقعه البصري والنصي وتقدمه مكانياً وزمانياً على المساحة النصية للحكاية التالية. ثم ينتقل خط المسار البصري للعين من حد الإستئناف الى مساحة الحكاية التالية لتكون هي محطة الإهتمام القرائية التالية. وفي اللحظة التي يصل فيها المسح البصري للعين إلى تخوم حد التوقف يستعيد الإهتمام البصري عافيته ونشاطه من جديد بعد أن يكون قد إستهلك معظم طاقته في تفحص وتتبع العناصر البصرية للحكاية السابقة. إن طبيعة المحتوى الدلالي لحد التوقف يَعِد الملك/القارئ بالمزيد من التشويق والإثارة إذا ما سمح الملك الغضوب بالإبقاء على حياة شهرزاد لليلةٍ أخرى أو بالأحرى إذا ما سمح القارئ الملول بمتابعة بهجة القراءة لكي يُجَنِّب المؤلف أو السارد حتمية الموت المؤجل. هذا المحتوى التشويقي بحد ذاته يمنح حد التوقف زخماً وشداً بصريين يُزودان (الملك/القارئ) بالرغبة والفضول اللازمين لإستكشاف حقيقة المتعة والبهجة القرائية التي تعد بهما (شهرزاد/المؤلف).
وبذا تتعاقب موجات الشد البصري والنصي على عين القارئ فتبدو وكأنها قطع من الدومينو تتساقط تباعاً: فما أن يتسرب الملل لعيني القارئ حتى تستعيدان نشاطهما وشدهما البصريين ثم ما تلبثان أن تستشعرا الملل من جديد وهكذا دواليك، إنتقالاً من حد الإستئناف ثم الحكاية ثم حد التوقف ثم حد الإستئناف وهلم جرا.
ما كان لهذه الحركة الموجية والمتعاقبة للشد البصري أن تَحدُث لولا هذا التقسيم والتوزيع البارع للحكاية الإطارية بحديها الإستئنافي والتوقفي حيث يعملان وكأنهما سدين صغيرين يعترضان موجة السرد المتدفق كلما تباطأت هذه الموجة وفقدت زخمها لكنها لا تلبث أن تستعيد تدفقها السردي من جديد بعد أن تتراكم وتتصاعد فتنفلت عقدة السرد وتطفو فوق حاجزي الحكاية الإطارية تلك. كما لا تكتسب الحكاية الإطارية دورها البصري الملفت هذا فقط لموقع مساحتها النصية وهي تستقطع الليالي الشهرزادية أو المجال البصري للقارئ إلى ١٠٠١ حكاية وليلة، بل تلعب طبيعة العناصر السردية أيضاً للشخصيات المطروحة ضمن هيكلية المجال النصي دوراً في إستفزاز المياه السردية الراكدة وتمويجها بين حدود الأدوار السردية التي تُسهِمُ تلك الشخصيات في تأديتها ولكن بمستويات مختلفة من الشد والزخم السرديين. إذ تشكل الشخصيات الثلاثة المطروحة في الحكاية الإطارية نوعاً ما مراكز شد وجذب لعين القارئ ولكن بمستويات مختلفة من التحفيز البصري.
وعادةً ما يعتمد المقدار الذي تستولي به الشخصيات على إنتباه القارئ على طبيعة الدور السردي الذي تلعبه كل شخصية. فالشخصيات عموماً تجذب عين القارئ أكثر من المكان كونها تُشكل عناصر بصرية متحركة وديناميكية مقارنةً بمحيطها المكاني الساكن والمستقر. كما تحمل كل شخصية إسم علم يرسم حدودها السردية بوضوح إزاء خلفية هامدة وغير محددة وذلك مبرر أخر لعين القارئ يجعلها تنجذب أكثر وأكثر للشخصيات التي تُشير إليها تلك الأسماء. وليس هذا وحسب بل توفر الشخصيات فيما بينها مراكز جذب بصري تختلف بإختلاف الحضور السردي لكلٍ منها، فالشخصية الديناميكية والمعقدة توفر شد بصري لعين القارئ أكثر مما توفره الشخصية الستاتيكية والهامشية وهكذا. الحركة تأسر العين كما أن غيابها يصرف تلك العين بعيداً. توفر الشخصية الديناميكية مركزاً للشد البصري لأنها ببساطة شديدة تتحرك إزاء خلفية مكانية ساكنة سواءٌ كانت حركتها هذه مكانية أم زمانية على إمتداد المجال السردي المفتوح أمام عين القارئ، وقد يكون نمط الحركة نوعياً أو نفسياً إعتماداً على طبيعة التطور النفسي والتفاعل الإدراكي لوعي الشخصية السردية.
ترتكز الهيكلية السردية للحكاية الإطارية في ألف ليلة وليلة على ثلاثة شخصيات هي: شهرزاد والملك شهريار ودنيازاد أخت شهرزاد. تعد شهرزاد عنصراً سردياً ديناميكياً وفاعلاً ومهيمناً أيضاً على مُجمَل تفاصيل المشهد السردي للحكايات وهي تتحكم بالمسارات البصرية لعين القارئ. أما شهريار فيعد عنصراً سردياً ساكناً وخاملاً وهو يمارس فقط دور المستمع الضَجِر والمُطالِب بإبعاد الملل عن لياليه عبر إبتزاز شهرزاد على حياتها. أما دنيازاد فتلعب شبكةً معقدةً من الأدوار السردية فتتدخل في المشهد الحكائي تارةً بدافع إنقاذ الموقف الحرج لشهرزاد كلما أخذ مسار سردها إيقاعاً مملاً قد يُهدِد بإنطفاء متعة الإستماع لدى الملك الضَجِرْ، و تارةً أخرى يكتسب الدور السردي لدنيازاد بعداً أخراً أكثر أهمية وذلك بصفتها هي المُحَرِّض الأول أو المُحَفِّز الأصلي لفعل (الحَكي):
(فقالت لها أختها بالله عليك يا أختي حديثينا حديثا نقطع به ليل سهرتنا / فقالت حبا وكرامة إن أذن لي هذا الملك المهذب/ فلما سمع ذلك الكلام وكان به قلق فرح بسماع الحديث)
ولا تكتفي دنيازاد بهذا فقط بل وتمضي قُدُماً في ممارسة دور الناقد المُجَمِّل لسرديات شهرزاد أمام الملك فتقول:
(ما أطيب حديثك وألطفه وأعذبه فقالت لها وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك)
هذا التفاعل بين العنصرين السرديين لـ (شهرزاد /السارد) و لـ (دنيازاد /المُنقِذْ) في الفضاء النصي للحكاية الإطارية يَسحَب عين القارئ في كل مرة نحو قرار (الملك/ القارئ) بتأجيل فعل (القتل/ الملل) لليلةٍ أو حكايةٍ واعدةٍ أخرى.
تلك هي متلازمة السرد الواعد والمؤجل وهي تُحكِمُ قبضتها على مقادير التدفق النصي التي تتعرض لها عين القارئ ضمن حدود الفضاء السردي لحكايات الف ليلة وليلة. هذا التدفق المحسوب بعناية لمقادير المساحة النصية المقروءة يكسر شيئاً من رتابة المسار البصري لعين القارئ أو بالأحرى يتدارك رتابة المسار السمعي أيضاً لأذن الملك شهريار. إن فواصل الحكاية الإطارية بشطريها توفر نوعاً من الحركة التأرجحية لعين القارئ بين مجال نصي مرجعي للإطار السردي وبين مجال نصي متدفق للحكايات المتتابعة. يبدو هذا التأرجح البصري لنصوص وحكايات ألف ليلة وليلة وكأنه تهويدة أو هدهدة تلجأ إليها شهرزاد بمساعدة أختها دنيازاد للتغلب على أي يقظة وشيكة لنوبات الملل أو الضجر التي قد تستولي على ذلك الملك المُستَبد أو ذلك القارئ الذي يَصعُبُ إرضاؤه.
تعد هذه الهدهدة القرائية بين حدي الإستئناف والتوقف أخطر استراتيجية سردية تُغَيِّبُ بها شهرزاد وعي (الملك/القارئ) وتستولي بها على المُقدرات الإسلوبية والبلاغية للحكايات بصفتها (جُرُعَات نصية) تُحقَن في وريد القارئ في المكان النصي والزمان القرائي المناسبين مما يكفل لشهرزاد السيطرة التامة على مُفَارَقَات (البهجة إزاء الملل) أو (القراءة إزاء الصمت) أو (الحياة إزاء الموت).
ترتبط (اللسانيات المعرفية) إرتباطاً وثيقاً بميادين البحث المعرفي في الحقول الأخرى وخاصة الفلسفة وعلم النفس المعرفي والعلوم العصبية والذكاء الإصطناعي. ولطالما تفاعلت المدارس اللسانية مع تيارات ومدارس الفكر الفلسفي والنفسي على وجه الخصوص. إذ لعبت طروحات ديكارت المتعلقة بثنائية (العقل/الجسد) دوراً بارزاً في تحديد المسارات البحثية لأهم مدرستين لسانيتين وهما مدرسة النحو التوليدي لجومسكي ومدرسة الدلالة الصورية لمونتيغيو. إذ أكدَ ديكارت على أن العقل والجسد يُشكلان ثنائية متباينة بحيث أن بوسعنا دراسة طبيعة العقل بمعزلٍ تام عن طبيعة الجسد بل وبعيداً عنها. شكلت هذه النظرية مرتكزاً أساسياً في تحديد منهجية البحث اللساني منذ خمسينيات القرن المنصرم فأصبحت اللغة مجرد نظام صُورِيّ أو مُحَوسَب بوسعنا دراسته بعيداً ومعزولاً عن أي مُحَدِدات أو تأثيرات للجسد البشري أو لطبيعة الخبرات المعرفية للإنسان.
أما اللسانيات المعرفية فتنضوي تحت مظلة تيارات فلسفية ونفسية تتقاطع جوهرياً مع ثنائية ديكارت لأنها ببساطة شديدة تؤكد على مركزية الجسد البشري في تحديد طبيعة العقل أو الخبرات والنشاطات الإدراكية الخاصة بالإنسان. ولذا ما عاد بوسعنا تجاهل الأثر الذي يتركه جسدنا وطبيعته البايلوجية والتصميمية على طبيعة عمل العقل وجميع أنشطته الإدراكية المختلفة وبالطبع لا تعد اللغة إلا إحدى تلك الأنشطة الإدراكية للعقل البشري إذا لم تكن من أعقدها.
وتؤكد اللسانيات المعرفية على خضوع اللغة بمجملها لتجاربنا وحالاتنا الجسدية وتفاعلنا مع الوسط المادي الذي نعيش فيه. فنحن نُدرك العالم من حولنا ونختبره وفقاً لمُحَدِدَات البناء البيولوجي لأجسامنا. ولا يُعد النص بحد ذاته سوى ظِلاً من ظلال هذا العالم وهي تسقطُ على عين القارئ فيحاول إدراك ماهيتها وتأويلها بمساعدة المُحَدِدَات البصرية لعدسة ذلك الصندوق الصغير الذي ندعوه (العين). وبعبارةٍ أخرى, إن فهم وإدراك القارئ للنص محكومٌ الى حدٍ ما بمفاتيح الطبيعة البيولوجية لفعل القراءة بحد ذاته.
ألف ليلة وليلة
تحاول هذه المقالة الإستعانة بطروحات (اللسانيات المعرفية) المتعلقة بالطبيعة الإدراكية لفعل القراءة لأجل طرح سؤالين فقط:
- كيف بوسعنا التعاطي مع نصوص (ألف ليلة وليلة) من زاوية التجربة البصرية لفعل القراءة؟
- هل توجد أي دلالات بلاغية أو إسلوبية لطريقة توزيع المساحات النصية كما هي عليه في حكايات (ألف ليلة وليلة)؟
يحلمُ كلُ ساردٍ بالإستبداد بالقارئ والإستحواذ على عينيه، إذا ما كان السرد مُدَوناً، أو على أذنية، إذا ما كان هذا السرد سمعياً. ليس بوسع السرد الناجح إلا أن يكون سرداً إستبدادياً وإلا فإنه سيفشل ويذوي وينحسر بعيداً عن دائرة إهتمام القارئ البصرية والسمعية معاً.
يرتكز البناء السردي لـ (ألف ليلة وليلة) برمته على تبادل أدوار معقد وفريد من نوعه بين السلطة الدموية للملك شهريار وهو يُضمِر الذبح لزوجته وبين السلطة السردية لشهرزاد وهي تحاول تأجيل مصيرها المحتوم. الإستبداد الهمجي و البدائي لفعل الذبح والإنتقام إزاء الإستبداد السردي اللذيذ لفعل القَص وبهجة الحَكي. هنا تحديداً تهتز حلبة الصراع الصاخب بين المؤلف الذي يُحاول إذكاء نيران بهجة القراءة والإستماع وبين إنطفاء هذه النيران وما يستتبعه من موت سردي ومادي لهذا المؤلف.
يزودنا (علم النفس المعرفي) المعاصر بآلية تفسيرية مثيرة للإهتمام ربما تساعدنا كثيراً على فهم الميكانزم التي تكفل إستمرارية فعل القراءة فضلاً عن دوام الزَخمْ اللازم لحركة عين القارئ. تلك هي آلية أو نظرية (بقعة الضوء).
تعد قراءة النص الأدبي وفقاً لهذه النظرية عملية إنغماس في تجربة ديناميكية تشتملُ على شدٍ مطرد ومتواصل لعين القارئ وهي تُتابع وتَمسحُ بصرياً سلاسل العلاقات الشائكة بين عناصر معينة من النص المَقرُوءْ بينما تتدفق هذه العناصر تِباعاً في مجال بقعة الضوء المتنقلة لعين القارئ. وعادةً ما يكون هذا الشد لعين القارئ إنتقائياً إذ يقتصر على عناصر معينة دون غيرها ضمن حدود المجال البصري الذي تقع فيه تلك العناصر. أما العناصر التي لا توفر الشد القرائي المطلوب للعين فسوف تقع ضمن دائرة الإهمال حتى وإن كانت موجودة بصرياً ضمن حدود دائرة المجال البصري لبقعة الضوء.
يستعين علماء النفس المعرفي بمصطلح (بقعة الضوء) لمساعدتهم على توفير فهم وإدراك كافيين لطبيعة المركز أو البؤرة التي تستولي وتُهيمن على عين القارئ الباحثة أبداً عن كل ما من شأنه أن يكون جديراً بالتركيز ويوفر لها حافزاً على مواصلة وإدامة فعل القراءة أو فعل المسح البصري للنص السردي المطروح للقراءة. كل ما يقع ضمن حدود بقعة الضوء في غضون لحظة معينة يكون خاضعاً للتَفَحُص السريع والمعالجة البصرية لعين القارئ. بيد أن مسار الشد لعين القارئ سيكون محكوماً على الدوام بطبيعة التجربة القرائية السابقة له والمتراكمة من معالجاته البصرية لبقع الضوء التي مَرَت وأنزلقت على أجزاءٍ سابقةٍ من النص. إن تراكمات هذه التجربة القرائية السابقة سيكون لها تأثيراً بالغاً على رسم وتحديد خارطة المسار المستقبلي المُتَوَقع لحركة العين وهي تستحضر وتُهيئ سَلَفاً كل ما يتعلق بعنصر الشد البصري مما يوفر نوعاً من الإنسيابية والإستمرارية لحركة بقعة الضوء التي تُسلِطُها عين القارئ النهمة وهي تتفحص الإنعكاسات البصرية المتتابعة للكلمات المطبوعة على سطح الورقة الأبيض.
ويَطرح علم النفس المعرفي ثلاثة قضايا أساسية تُساعِدنا على فهم طبيعة الآلية التي تستولي بها عناصر المجال البصري على إهتمام الراصد أو بالأحرى على إهتمام عينيه تحديداً, وهذه القضايا هي:
- كيف يتمثل الفضاء البصري؟
- ما الذي يُحدِد شكل البقعة الضوئية؟
- كيف تجري آلية الإختيار بين العناصر البصرية البارزة وتلك الضامرة ضمن حدود البقعة الضوئية؟
- كيف يتمثل السرد النصي؟
- ما الذي يحدد شكل الفضاء السردي المَقروء؟
- كيف تجري آلية الإختيار بين العناصر السردية البارزة وتلك الضامرة ضمن حدود البقعة الضوئية المقروءة من النصِ؟
فيما يتعلق بقضية السؤال الأول نستطيع القول أن السرد النصي يتمثل عادةً بصورة مراكز أو بؤر سردية تتوزع هنا وهناك على إمتداد مساحة النص ووفقاً لستراتيجيات سردية يلجئ إليها المؤلف.
أما ما يحدد شكل الفضاء السردي المَقروء فهي هيكلية البناء السردي للنص وآلية توزيع الأدوار والستراتيجيات السردية المطروحة.
كما تجري آلية الإختيار بين العناصر السردية البارزة وتلك الضامرة وفقاً لآلية التركيز على العناصر السردية الديناميكية التي تُسهِم في الحفاظ على مستوى مضطرد ومتصاعد من الشد والتجديد السردي إزاء تجاهل سافر للعناصر السردية الستاتيكية والتي لا توفر سوى مستويات هابطة ومنخفضة للغاية من الشد السردي المفقود.
لا يمكن للنص السردي أن يستولي على القارئ مالم يُجيد هذا النص لُعبة (صرف الإنتباه). فالسرد الأسِرْ عموماً هو سرد ديناميكي ومتحرك يستولي على إهتمام القارئ عبر صرف إنتباهه بعيداً عن بعض العناصر السردية الساكنة وتوجيهه وتركيزه نحو عناصر أخرى متحركة ومُتجددة ضمن فضاء وهيكلية بقعة الضوء وهي تتنقل من مركزٍ سرديٍ إلى أخر على إمتداد المساحة النصية المشرعة أمام عيني القارئ .
لذا نجد أن أعيننا كقراء منصرفةً على الدوام نحو تلك العناصر الديناميكية (الجاذبة)، أما تَشَتُتِها بعيداً عما يُعرف بالعناصر الستاتيكية أو الهامدة فيدعو علماء النفس المعرفي هذا النوع من السلوك البصري بـ (الإحجام عن الرجوع) بمعنى أن وجود هذا النوع من العناصر الساكنة في النص السردي يُسهِم في تثبيط أو منع أي عودة قرائية مُحتملة لعين القارئ لتلك المساحات السردية الخاملة وبدل ذلك نجد أنها (أي العين) ستواصل مسحها البصري لأجزاء جديدة من النص بعيداً عن تخوم تلك العناصر السردية المُمِلَة وبحثاً عن المزيد من عناصر الشد البصري المختبئة بين ثنايا النص السردي المَقرُوءْ.
تحدثنا طويلاً على ما يبدو عن (العناصر), فما هي طبيعتها بالضبط يا ترى؟
قد تكون تلك العناصر ذات طبيعة بصرية ثلاثية الأبعاد عموماً، كما هي عليه الحال مثلاً حينما يقع بصرنا على عمارة سكنية أو طائرة وهي تحلق عالياً، أو ذات طبيعة بصرية خطية أو ببعد واحد، كما هي عليه الحال في قراءتنا للكلمات المطبوعة على سطح الورقة. ولكي نستطيع إدراك الآلية التي تَتَبِعُها العين المُبصِرة وسط بيئة بصرية تحتشد بمختلف أنواع العناصر لا بد لنا من إدراك قاعدة فسلجية عامة وأساسية في تحديد ماهية العناصر التي تستولي وتجذب العين في مجالها البصري أو بقعتها الضوئية. يُزودنا علم النفس المعرفي في هذا الشأن بقاعدة ذهبية وهي: إن العنصر الديناميكي أو المختلف عن محيطه البصري يأسر العين ويهيمن على حركتها أكثر بكثير من بقية العناصر الأخرى. ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟
إذا كان المجال البصري مثلاً يتكون من عمارة سكنية شاهقة الى جانب منازل منخفضة فبالطبع ستكون تلك العمارة مركزاً للشد البصري فتستحوذ وتستولي على عين الناظر بحكم إختلاف أبعادها المكانية والبصرية عن خلفية تلك المنازل المحيطة بتلك العمارة والتي تبدو متشابهة فيما بينها مكانياً وبصرياً، ولو أضفنا لنفس هذا المشهد طائرة تُحلق وتتحرك عالياً فوق تلك العمارة لأصبحت الطائرة، بدل العمارة، مركزاً للشد لأن تلك الطائرة تُمَثِل حافزاً بصرياً ديناميكياً إزاء خلفية ساكنة من بقية الحوافز المُتَمَثِلة بالمنازل المنخفضة والعمارة السكنية الشاهقة.
ولكن كيف بوسعنا إسقاط ذلك كله على عين القارئ حينما يكون مجاله البصري محكوماً فقط بنصٍ سردي مُدَوَنٍ على سطح ورقةٍ صقيلة؟
يتركز إهتمام عين القارئ في هذه الحالة على أي عنصرٍ سردي تكون له سِمات وخصائص لسانية مُدَونة وبارزة للعيان. وبوسع هذا العنصر أن يكون شخصيةً قَصَصيةً قابلة للتتبع أو ثيمة معينة متكررة أو مكانٍ ما أو نوعٍ من الإستمرارية والوقوع المتتابع لحدثٍ أو فعلٍ ما كما هي عليه الحال في فعل المطاردة مثلاً. ولا بد لتلك السمات والخصائص اللسانية والبصرية من شيءٍ ما يجمعها معاً ويجعلها ممكنة التَتَبع حتى يوفر ذلك الزخم البصري الضروري والكافي لتركيز إنتباه العين بدل تشتيتها.
ولكن ما الذي سيحدث لو ظهرَ لعين القارئ أكثر من عنصرٍ سرديٍ واحد يتنافسون فيما بينهم على جذب إنتباه تلك العين؟ تتحرك البقعة الضوئية للعين عندئذ حتى ينصب إهتمامها على أكثر عنصر سردي ملفت للإنتباه في محيط النص المَقرُوء ضمن حدود بقعة الضوء تلك. وقد تتجسد العلامات والسِمات البارزة لهذا العنصر في صورة لازمة تتكرر في عدة أماكن من النص السردي أو في صورة مساحة نصية هائلة مُكَرسَة لذلك العنصر أو في صورة كلمات أو سلاسل من الكلمات الزاخرة بالتمرد على أصول وقواعد اللغة التي ينتمي إليها ذلك النص وهكذا. وعندئذ فحسب تمتلك عين القارئ ما يكفي من الزخم للتغلب على جميع موانع الرجوع التي تحاول كفها عن العودة لنفس البقعة الضوئية وتغلبها هذا قد يعود لأسباب تتعلق مثلاً بعنصر سردي لشخصية قَصَصية ديناميكية ومعقدة أو ببساطة شديدة لأسلوب سردي لا يكترث بين الفينة والأخرى للأصول والقواعد المعيارية للغة.
فلنعد الآن بعد كل هذا التنظير الى نصوص ألف ليلة وليلة. أعتقد أن الهيكلية السردية لما يُعرَف بـ الحكاية الإطارية في ألف ليلة وليلة تَبرِز بصفتها إحدى العناصر الفاعلة في تحقيق حالة الإستحواذ البصري على عين القارئ. هذه الحكاية الإطار هي المِرجَل الذي يزود نصوص الف ليلة وليلة بالطاقة السردية والتشويقية لأذني الملك شهريار ولعيني القارئ المتلهفتين لمسح المزيد من المساحات السردية للنص الذي توشك شهرزاد على نسجه.
إن هذه الحكاية تحديداً تمثل عنصراً سردياً متكرراً ومُوَزعاً بمهارة ودهاء بين طيات الحكايات التي تنضوي تحتها. إن المجال أو (البقعة الضوئية/النصية) لعين القارئ محكومة بحدين صارمين هما: (حد الإستهلال) مُتمَثِلاً بعبارة:
(قالت دنيازاد لأختها شهرزاد: يا أختي أتممي لنا حديثك الذي هو حديث التاجر والجني)،
و(حد التوقف) مُتَمَثِلاً بعبارة:
(وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عِن الكلام المباح. فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك فقال الملك في نفسه: والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها لأنه عجيب).
يؤطِر هذين الحدين معظم حكايات ألف ليلة وليلة مما يجعل منهما عنصرين سرديين لافتين لإنتباه القارئ ضمن حدود المجال أو البقعة النصية المَنظورة. بل إن إمتلاك هذين العنصرين لحدود نصية واضحة المعالم ومُتاخمة تماماً لمساحة الحكايات الأخرى يعمل على خلق تباين بصري ونصي يأسر عيني القارئ ويُهيئهما للشروع بمسح مساحات سردية جديدة والتي تبدأ البقعة النصية لكل واحدةٍ منها مع نهاية حد الإستئناف و تنتهي مع بداية حد التوقف لتلك الحكاية الإطارية.
كما يلعب موقع الصدارة للحدين في المجال البصري والنصي دوراً هائلاً في إستثارة عين القارئ. إذ غالباً ما يرتكز الشد البصري للعين، وفقاً لمعطيات علم النفس المعرفي، على العناصر البصرية التي تشغل أو تحتل موقع الصدارة بالنسبة لبقية أجزاء البقعة الضوئية. وبذا يستولي حد الإستئناف من الحكاية الإطارية على مُجمَل حركة العين لصدارة موقعه البصري والنصي وتقدمه مكانياً وزمانياً على المساحة النصية للحكاية التالية. ثم ينتقل خط المسار البصري للعين من حد الإستئناف الى مساحة الحكاية التالية لتكون هي محطة الإهتمام القرائية التالية. وفي اللحظة التي يصل فيها المسح البصري للعين إلى تخوم حد التوقف يستعيد الإهتمام البصري عافيته ونشاطه من جديد بعد أن يكون قد إستهلك معظم طاقته في تفحص وتتبع العناصر البصرية للحكاية السابقة. إن طبيعة المحتوى الدلالي لحد التوقف يَعِد الملك/القارئ بالمزيد من التشويق والإثارة إذا ما سمح الملك الغضوب بالإبقاء على حياة شهرزاد لليلةٍ أخرى أو بالأحرى إذا ما سمح القارئ الملول بمتابعة بهجة القراءة لكي يُجَنِّب المؤلف أو السارد حتمية الموت المؤجل. هذا المحتوى التشويقي بحد ذاته يمنح حد التوقف زخماً وشداً بصريين يُزودان (الملك/القارئ) بالرغبة والفضول اللازمين لإستكشاف حقيقة المتعة والبهجة القرائية التي تعد بهما (شهرزاد/المؤلف).
وبذا تتعاقب موجات الشد البصري والنصي على عين القارئ فتبدو وكأنها قطع من الدومينو تتساقط تباعاً: فما أن يتسرب الملل لعيني القارئ حتى تستعيدان نشاطهما وشدهما البصريين ثم ما تلبثان أن تستشعرا الملل من جديد وهكذا دواليك، إنتقالاً من حد الإستئناف ثم الحكاية ثم حد التوقف ثم حد الإستئناف وهلم جرا.
ما كان لهذه الحركة الموجية والمتعاقبة للشد البصري أن تَحدُث لولا هذا التقسيم والتوزيع البارع للحكاية الإطارية بحديها الإستئنافي والتوقفي حيث يعملان وكأنهما سدين صغيرين يعترضان موجة السرد المتدفق كلما تباطأت هذه الموجة وفقدت زخمها لكنها لا تلبث أن تستعيد تدفقها السردي من جديد بعد أن تتراكم وتتصاعد فتنفلت عقدة السرد وتطفو فوق حاجزي الحكاية الإطارية تلك. كما لا تكتسب الحكاية الإطارية دورها البصري الملفت هذا فقط لموقع مساحتها النصية وهي تستقطع الليالي الشهرزادية أو المجال البصري للقارئ إلى ١٠٠١ حكاية وليلة، بل تلعب طبيعة العناصر السردية أيضاً للشخصيات المطروحة ضمن هيكلية المجال النصي دوراً في إستفزاز المياه السردية الراكدة وتمويجها بين حدود الأدوار السردية التي تُسهِمُ تلك الشخصيات في تأديتها ولكن بمستويات مختلفة من الشد والزخم السرديين. إذ تشكل الشخصيات الثلاثة المطروحة في الحكاية الإطارية نوعاً ما مراكز شد وجذب لعين القارئ ولكن بمستويات مختلفة من التحفيز البصري.
وعادةً ما يعتمد المقدار الذي تستولي به الشخصيات على إنتباه القارئ على طبيعة الدور السردي الذي تلعبه كل شخصية. فالشخصيات عموماً تجذب عين القارئ أكثر من المكان كونها تُشكل عناصر بصرية متحركة وديناميكية مقارنةً بمحيطها المكاني الساكن والمستقر. كما تحمل كل شخصية إسم علم يرسم حدودها السردية بوضوح إزاء خلفية هامدة وغير محددة وذلك مبرر أخر لعين القارئ يجعلها تنجذب أكثر وأكثر للشخصيات التي تُشير إليها تلك الأسماء. وليس هذا وحسب بل توفر الشخصيات فيما بينها مراكز جذب بصري تختلف بإختلاف الحضور السردي لكلٍ منها، فالشخصية الديناميكية والمعقدة توفر شد بصري لعين القارئ أكثر مما توفره الشخصية الستاتيكية والهامشية وهكذا. الحركة تأسر العين كما أن غيابها يصرف تلك العين بعيداً. توفر الشخصية الديناميكية مركزاً للشد البصري لأنها ببساطة شديدة تتحرك إزاء خلفية مكانية ساكنة سواءٌ كانت حركتها هذه مكانية أم زمانية على إمتداد المجال السردي المفتوح أمام عين القارئ، وقد يكون نمط الحركة نوعياً أو نفسياً إعتماداً على طبيعة التطور النفسي والتفاعل الإدراكي لوعي الشخصية السردية.
ترتكز الهيكلية السردية للحكاية الإطارية في ألف ليلة وليلة على ثلاثة شخصيات هي: شهرزاد والملك شهريار ودنيازاد أخت شهرزاد. تعد شهرزاد عنصراً سردياً ديناميكياً وفاعلاً ومهيمناً أيضاً على مُجمَل تفاصيل المشهد السردي للحكايات وهي تتحكم بالمسارات البصرية لعين القارئ. أما شهريار فيعد عنصراً سردياً ساكناً وخاملاً وهو يمارس فقط دور المستمع الضَجِر والمُطالِب بإبعاد الملل عن لياليه عبر إبتزاز شهرزاد على حياتها. أما دنيازاد فتلعب شبكةً معقدةً من الأدوار السردية فتتدخل في المشهد الحكائي تارةً بدافع إنقاذ الموقف الحرج لشهرزاد كلما أخذ مسار سردها إيقاعاً مملاً قد يُهدِد بإنطفاء متعة الإستماع لدى الملك الضَجِرْ، و تارةً أخرى يكتسب الدور السردي لدنيازاد بعداً أخراً أكثر أهمية وذلك بصفتها هي المُحَرِّض الأول أو المُحَفِّز الأصلي لفعل (الحَكي):
(فقالت لها أختها بالله عليك يا أختي حديثينا حديثا نقطع به ليل سهرتنا / فقالت حبا وكرامة إن أذن لي هذا الملك المهذب/ فلما سمع ذلك الكلام وكان به قلق فرح بسماع الحديث)
ولا تكتفي دنيازاد بهذا فقط بل وتمضي قُدُماً في ممارسة دور الناقد المُجَمِّل لسرديات شهرزاد أمام الملك فتقول:
(ما أطيب حديثك وألطفه وأعذبه فقالت لها وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك)
هذا التفاعل بين العنصرين السرديين لـ (شهرزاد /السارد) و لـ (دنيازاد /المُنقِذْ) في الفضاء النصي للحكاية الإطارية يَسحَب عين القارئ في كل مرة نحو قرار (الملك/ القارئ) بتأجيل فعل (القتل/ الملل) لليلةٍ أو حكايةٍ واعدةٍ أخرى.
تلك هي متلازمة السرد الواعد والمؤجل وهي تُحكِمُ قبضتها على مقادير التدفق النصي التي تتعرض لها عين القارئ ضمن حدود الفضاء السردي لحكايات الف ليلة وليلة. هذا التدفق المحسوب بعناية لمقادير المساحة النصية المقروءة يكسر شيئاً من رتابة المسار البصري لعين القارئ أو بالأحرى يتدارك رتابة المسار السمعي أيضاً لأذن الملك شهريار. إن فواصل الحكاية الإطارية بشطريها توفر نوعاً من الحركة التأرجحية لعين القارئ بين مجال نصي مرجعي للإطار السردي وبين مجال نصي متدفق للحكايات المتتابعة. يبدو هذا التأرجح البصري لنصوص وحكايات ألف ليلة وليلة وكأنه تهويدة أو هدهدة تلجأ إليها شهرزاد بمساعدة أختها دنيازاد للتغلب على أي يقظة وشيكة لنوبات الملل أو الضجر التي قد تستولي على ذلك الملك المُستَبد أو ذلك القارئ الذي يَصعُبُ إرضاؤه.
تعد هذه الهدهدة القرائية بين حدي الإستئناف والتوقف أخطر استراتيجية سردية تُغَيِّبُ بها شهرزاد وعي (الملك/القارئ) وتستولي بها على المُقدرات الإسلوبية والبلاغية للحكايات بصفتها (جُرُعَات نصية) تُحقَن في وريد القارئ في المكان النصي والزمان القرائي المناسبين مما يكفل لشهرزاد السيطرة التامة على مُفَارَقَات (البهجة إزاء الملل) أو (القراءة إزاء الصمت) أو (الحياة إزاء الموت).