عند الظهيرة، اعتلى رجل أنيق سطح العمارة التي لم تجهز بعد، وهناك صادف أحد عمال البناء يتناول وجبة غذائه وحيدا.
تبادل الرجلان نظرات تقدير صامت، ثم طفق الأنيق ينقل بصره، بين مباني المدينة العملاقة، كأنه شاعر يبحث عن مصدر إلهام، وبعد لحظات التفت إلى العامل، بسيط الشكل والمأكل، ليشاركه بعض تجلياته:
- أعتقد أن عدد الفقراء قليل جدا.. في هذه البلاد..
بغباء ظاهر، تبسم الرجل ذو الوجه الشاحب، ولم يعلق بشيء.. فأضاف الأنيق قائلا:
- الحزن يخيم على هذه المدينة.. في المساء، حين تتجول في الشوارع الكبيرة، يدهشك فشل الناس في التغلب على بؤسهم الرهيب، جلهم مترفون، ملابسهم البراقة، سياراتهم العريضة، وعيونهم الجائعة للمزيد من الشهوات، غير قادرة على منحهم الشعور بالأمان، جميعهم خائفون من زوال النعمة، أو تحولها بعد وقت قليل، إلى مظاهر حياة مملّة، وغير قادرة على منافسة العوالم الأكثر ثراء وتقدما.. أتدري لماذا؟
الابتسامة الغبية، هي كل ما يصدر عن عامل البناء، كردة فعل وتجاوب مع أحاديث هذا السيد المهيب، الواقف أمامه مثل تمثال الأمير السعيد الذي بللت خديه دموع التعاطف مع فقراء مدينته. أما الكادح فقد اكتفى بالإصغاء، كأن من واجبه تفادي مغبة الدخول في هذا الحديث المثير للغرابة.
- أنت تتجنب التورط في الكلام مع أمثالي، أليس كذلك..؟
قال العامل: لاسيدي حاشا معاذ الله، لكنك تتحدث عن أمور لا أفهمها جيدا.
حدق الأنيق في وجه محاوره البائس، الجالس على ركام الاسمنت بفضول مستفز، ثم قال:
- ما الذي يصعب عليك فهمه حين أقول مثلا، أن هؤلاء الأوغاد، لم يتعودوا على حمد النعمة الحاضرة، ولا على النظر إلى من هم أقل منهم حظا.. هل تعلم أنهم يعتبرون أمثالكم لاشيء؟
نفض العامل كفيه من بقايا الطعام، أشعل سيجارة رخيصة، ثم قال:
- أنا لست متعلما سيدي، ولا أجيد الحديث مثلكم..
استدار الأنيق نحو الفراغ، قدم رجله اليمنى نحو الحافة، ثم سحبها للوراء، ثم قدم اليسرى، كأنه ينوي التحليق فوق السطوح الأقل علوا، ثم خاطب الرجل بنبرة عتاب:
- لماذا تناديني سيدي؟ ألم تتعلم كيف تعتبر نفسك حرا؟ حقيقة أنا لا أفهم كيف لأمثالك أن يعيشوا دون أن يكون لهم رأي في أي شيء، انظر من حولك العالم أوسع من فكرة الصمت اللعين، هل تمتلك رأيا بالفعل؟ أم أنك فاقد للشجاعة.. هيا أخبرني شيئا مهما.. يشغل دماغي المبعثر.
بإمعان تابع العامل حركات الرجل الأنيق الحادة والنزقة.. توقفت أنفاسه، وهو يرى ترنح قدمي صاحبه قليلا، على حافة السطح، ثم بدا أن البناء متحمس لوقوع أمر ما.. خاصة وهو يرى محاوره، يلوح نحو الفراغ، بخاتم انتزعه من أحد أصابعه بعنف، ليأخذ بعد ذلك نفسا عميقا.. وكأنه أزاح ثقلا كبيرا، عن كاهله.
- أخبرني وعلى سبيل المؤانسة.. منذ متى وأنت تعمل هنا؟
- ذاكرتي ضعيفة سيدي، كما أنني لست متعلما، كل المعلومات تجدها مكتوبة عند رئيسنا الشاف، لكنني لا أنسى أبدا ما حدث هناك قبل عام، ثم أشار إلى العمارة المقابلة، ذات الواجهة الزجاجية..
- ما الذي حدث هناك؟..
- يومها لم تكن تلك البناية الفخمة، قد اكتملت بعد، ولم تكن بنفس الروعة التي تراها الآن.. وكنا أنا ويوسف ابن بلدتي، نعمل فوق السطح جنبا لجنب..
- أين هو صاحبك الآن؟
- آه.. نعم سيدي، لقد كان يجمع المال من أجل الزواج.. وكان يحكي نكتا عن السيد الذي كنا نعمل عنده، قال أنه لم يكن قادرا على إشباع رغبة امرأة جميلة، رغم ثرائه الفاحش، هل تصدق، صاحبي اللئيم برغم فقره، كان زير نساء، البائسات مثله طبعا، لقد كان وغدا، لكنني كنت أحبه، لأنه عاش صادقا ولا يقبل المال الحرام..
- وهل عرضت الدنيا نفسها عليه يوما؟
- نعم سيدي، لقد سبق له العثور على حقيبة مليئة بقدر مهم من المال، لكنه. أعادها إلى أصحابها، قال أنه يخاف من أن يحاسبه الله..
- إنه صاحب مبدأ، المهم، أين هو الآن؟
- في ذلك اليوم اللعين، انقلبت به عارضة خشبية فسقط إلى أسفل، نعم.. في لمح البصر، تحول أعز أصدقائي إلى كومة من الدم والعظم المشوه، حين نزلت إليه، كان مستلقيا على ظهره هامدا فوق الإسفلت، وعيناه أكثر اتساعا من محجريهما.. وكم حزنت لأنه غادرني دون وداع، ولا حتى كلمة واحدة، فقد كانت المدة الزمنية الفاصلة بين حياته وموته، سريعة جدا، لم تمهله حتى ينطق الشهادة.
توقف العامل عن السرد، كأنه يشاهد تفاصيل الموت المؤلم مرة أخرى، ثم هب واقفا من مكانه، كما لو كان يهم بالقفز هو أيضا من ذلك العلو الشاهق، وبينما كان الرجل الأنيق يراقب تعابير وجهه، أدرك أن هذا المتعب، قد بلغ حدا من الحزن، يصعب عليه معه قول المزيد..
- ما الذي حدث بعد ذلك..؟ أكمل..
- لاشيء. جمعوا أشلاءه، وقدموا لوالده بضعة نقود..
وأنتم، ما الذي فعلتموه؟
- التزمنا الصمت، عفوا لم نصمت، لقد أرغمونا أن ندلي بشهادة محرفة..
- وهل وافقتم؟
- نعم.. للأسف، في البداية اعترضنا، لكننا وبعد تعرضنا للترهيب، تراجعنا، وهذا ماحدث تماما، واليوم أنا حائر، لا أعرف كيف سأتمكن يوم القيامة، من النظر إلى عيني صديقي يوسف..
- هل تؤمن بيوم القيامة؟
- نعم أنا مسلم، وأعرف أننا جميعنا سوف نلتقي هناك..
- وماذا ستقول لصديقك الذي خنته؟
- لا أعرف.. ربما.. لاشيء.. ليس لدي ما أخبره به..
فجأة رن الهاتف في جيب الرجل الأنيق، أقفل الخط في وجه المتصل بسرعة، نظر إلى العامل الذي اكتست وجهه ملامح الغضب، وقد شرع في استئناف العمل..
- كيف يعاملونكم هنا؟
من أجل تفادي الرد على هذا السؤال، شرع البناء في خبط عارضة خشبية أمامه بقوة، وكأن المطرقة في يده، تنوب عنه في الجهر بكل مايضمر، من وجهات نظر صامتة..
- أخبرني، لم تتهرب من الكلام؟ ماذا لو تكررت نفس الحادثة، مرة أخرى؟ ماذا لو كنت أنا الهالك هذه المرة؟ من الواضح أنك ستستمتع بمشهد سقوطي، بعدها سوف تصبح لديك قصة مثيرة تحكيها للناس، أليس هذا ما تفكر فيه الآن؟
أمام عنف الخطاب الموجه إليه، اضطر البناء للتوقف عن الطرق، حدق في عيني الرجل عميقا، ثم قال وهو يضغط بقوة على مقبض المطرقة الحديدي:
- الحوادث كثيرة هذه الأيام.. ومن لم يمت اليوم.. سوف يموت غدا..
بعد لحظات من الصمت، وتبادل النظرات المريبة بين الرجلين، غادر الأنيق سطح العمارة.. فأطلق العامل زفرة طويلة، ثم ترك المطرقة تهوي عند قدميه.. وقد فاضت عيناه بالدمع.
بعد وقت قليل، انضم إليه كهل بائس يشبهه.. وتعابير وجهه مزيج من الدهشة والاستفسار:
- هل عرفت من هذا المجنون الذي كان يكلمك؟
قال البناء بانفعال شديد:
- لايمكنني نسيانه أبدا، إنه المجرم الذي هددنا، حين رفضنا الشهادة بأن يوسف يرحمه الله، لم يشرع في العمل معنا إلا ذلك الصباح.
تمت.
تبادل الرجلان نظرات تقدير صامت، ثم طفق الأنيق ينقل بصره، بين مباني المدينة العملاقة، كأنه شاعر يبحث عن مصدر إلهام، وبعد لحظات التفت إلى العامل، بسيط الشكل والمأكل، ليشاركه بعض تجلياته:
- أعتقد أن عدد الفقراء قليل جدا.. في هذه البلاد..
بغباء ظاهر، تبسم الرجل ذو الوجه الشاحب، ولم يعلق بشيء.. فأضاف الأنيق قائلا:
- الحزن يخيم على هذه المدينة.. في المساء، حين تتجول في الشوارع الكبيرة، يدهشك فشل الناس في التغلب على بؤسهم الرهيب، جلهم مترفون، ملابسهم البراقة، سياراتهم العريضة، وعيونهم الجائعة للمزيد من الشهوات، غير قادرة على منحهم الشعور بالأمان، جميعهم خائفون من زوال النعمة، أو تحولها بعد وقت قليل، إلى مظاهر حياة مملّة، وغير قادرة على منافسة العوالم الأكثر ثراء وتقدما.. أتدري لماذا؟
الابتسامة الغبية، هي كل ما يصدر عن عامل البناء، كردة فعل وتجاوب مع أحاديث هذا السيد المهيب، الواقف أمامه مثل تمثال الأمير السعيد الذي بللت خديه دموع التعاطف مع فقراء مدينته. أما الكادح فقد اكتفى بالإصغاء، كأن من واجبه تفادي مغبة الدخول في هذا الحديث المثير للغرابة.
- أنت تتجنب التورط في الكلام مع أمثالي، أليس كذلك..؟
قال العامل: لاسيدي حاشا معاذ الله، لكنك تتحدث عن أمور لا أفهمها جيدا.
حدق الأنيق في وجه محاوره البائس، الجالس على ركام الاسمنت بفضول مستفز، ثم قال:
- ما الذي يصعب عليك فهمه حين أقول مثلا، أن هؤلاء الأوغاد، لم يتعودوا على حمد النعمة الحاضرة، ولا على النظر إلى من هم أقل منهم حظا.. هل تعلم أنهم يعتبرون أمثالكم لاشيء؟
نفض العامل كفيه من بقايا الطعام، أشعل سيجارة رخيصة، ثم قال:
- أنا لست متعلما سيدي، ولا أجيد الحديث مثلكم..
استدار الأنيق نحو الفراغ، قدم رجله اليمنى نحو الحافة، ثم سحبها للوراء، ثم قدم اليسرى، كأنه ينوي التحليق فوق السطوح الأقل علوا، ثم خاطب الرجل بنبرة عتاب:
- لماذا تناديني سيدي؟ ألم تتعلم كيف تعتبر نفسك حرا؟ حقيقة أنا لا أفهم كيف لأمثالك أن يعيشوا دون أن يكون لهم رأي في أي شيء، انظر من حولك العالم أوسع من فكرة الصمت اللعين، هل تمتلك رأيا بالفعل؟ أم أنك فاقد للشجاعة.. هيا أخبرني شيئا مهما.. يشغل دماغي المبعثر.
بإمعان تابع العامل حركات الرجل الأنيق الحادة والنزقة.. توقفت أنفاسه، وهو يرى ترنح قدمي صاحبه قليلا، على حافة السطح، ثم بدا أن البناء متحمس لوقوع أمر ما.. خاصة وهو يرى محاوره، يلوح نحو الفراغ، بخاتم انتزعه من أحد أصابعه بعنف، ليأخذ بعد ذلك نفسا عميقا.. وكأنه أزاح ثقلا كبيرا، عن كاهله.
- أخبرني وعلى سبيل المؤانسة.. منذ متى وأنت تعمل هنا؟
- ذاكرتي ضعيفة سيدي، كما أنني لست متعلما، كل المعلومات تجدها مكتوبة عند رئيسنا الشاف، لكنني لا أنسى أبدا ما حدث هناك قبل عام، ثم أشار إلى العمارة المقابلة، ذات الواجهة الزجاجية..
- ما الذي حدث هناك؟..
- يومها لم تكن تلك البناية الفخمة، قد اكتملت بعد، ولم تكن بنفس الروعة التي تراها الآن.. وكنا أنا ويوسف ابن بلدتي، نعمل فوق السطح جنبا لجنب..
- أين هو صاحبك الآن؟
- آه.. نعم سيدي، لقد كان يجمع المال من أجل الزواج.. وكان يحكي نكتا عن السيد الذي كنا نعمل عنده، قال أنه لم يكن قادرا على إشباع رغبة امرأة جميلة، رغم ثرائه الفاحش، هل تصدق، صاحبي اللئيم برغم فقره، كان زير نساء، البائسات مثله طبعا، لقد كان وغدا، لكنني كنت أحبه، لأنه عاش صادقا ولا يقبل المال الحرام..
- وهل عرضت الدنيا نفسها عليه يوما؟
- نعم سيدي، لقد سبق له العثور على حقيبة مليئة بقدر مهم من المال، لكنه. أعادها إلى أصحابها، قال أنه يخاف من أن يحاسبه الله..
- إنه صاحب مبدأ، المهم، أين هو الآن؟
- في ذلك اليوم اللعين، انقلبت به عارضة خشبية فسقط إلى أسفل، نعم.. في لمح البصر، تحول أعز أصدقائي إلى كومة من الدم والعظم المشوه، حين نزلت إليه، كان مستلقيا على ظهره هامدا فوق الإسفلت، وعيناه أكثر اتساعا من محجريهما.. وكم حزنت لأنه غادرني دون وداع، ولا حتى كلمة واحدة، فقد كانت المدة الزمنية الفاصلة بين حياته وموته، سريعة جدا، لم تمهله حتى ينطق الشهادة.
توقف العامل عن السرد، كأنه يشاهد تفاصيل الموت المؤلم مرة أخرى، ثم هب واقفا من مكانه، كما لو كان يهم بالقفز هو أيضا من ذلك العلو الشاهق، وبينما كان الرجل الأنيق يراقب تعابير وجهه، أدرك أن هذا المتعب، قد بلغ حدا من الحزن، يصعب عليه معه قول المزيد..
- ما الذي حدث بعد ذلك..؟ أكمل..
- لاشيء. جمعوا أشلاءه، وقدموا لوالده بضعة نقود..
وأنتم، ما الذي فعلتموه؟
- التزمنا الصمت، عفوا لم نصمت، لقد أرغمونا أن ندلي بشهادة محرفة..
- وهل وافقتم؟
- نعم.. للأسف، في البداية اعترضنا، لكننا وبعد تعرضنا للترهيب، تراجعنا، وهذا ماحدث تماما، واليوم أنا حائر، لا أعرف كيف سأتمكن يوم القيامة، من النظر إلى عيني صديقي يوسف..
- هل تؤمن بيوم القيامة؟
- نعم أنا مسلم، وأعرف أننا جميعنا سوف نلتقي هناك..
- وماذا ستقول لصديقك الذي خنته؟
- لا أعرف.. ربما.. لاشيء.. ليس لدي ما أخبره به..
فجأة رن الهاتف في جيب الرجل الأنيق، أقفل الخط في وجه المتصل بسرعة، نظر إلى العامل الذي اكتست وجهه ملامح الغضب، وقد شرع في استئناف العمل..
- كيف يعاملونكم هنا؟
من أجل تفادي الرد على هذا السؤال، شرع البناء في خبط عارضة خشبية أمامه بقوة، وكأن المطرقة في يده، تنوب عنه في الجهر بكل مايضمر، من وجهات نظر صامتة..
- أخبرني، لم تتهرب من الكلام؟ ماذا لو تكررت نفس الحادثة، مرة أخرى؟ ماذا لو كنت أنا الهالك هذه المرة؟ من الواضح أنك ستستمتع بمشهد سقوطي، بعدها سوف تصبح لديك قصة مثيرة تحكيها للناس، أليس هذا ما تفكر فيه الآن؟
أمام عنف الخطاب الموجه إليه، اضطر البناء للتوقف عن الطرق، حدق في عيني الرجل عميقا، ثم قال وهو يضغط بقوة على مقبض المطرقة الحديدي:
- الحوادث كثيرة هذه الأيام.. ومن لم يمت اليوم.. سوف يموت غدا..
بعد لحظات من الصمت، وتبادل النظرات المريبة بين الرجلين، غادر الأنيق سطح العمارة.. فأطلق العامل زفرة طويلة، ثم ترك المطرقة تهوي عند قدميه.. وقد فاضت عيناه بالدمع.
بعد وقت قليل، انضم إليه كهل بائس يشبهه.. وتعابير وجهه مزيج من الدهشة والاستفسار:
- هل عرفت من هذا المجنون الذي كان يكلمك؟
قال البناء بانفعال شديد:
- لايمكنني نسيانه أبدا، إنه المجرم الذي هددنا، حين رفضنا الشهادة بأن يوسف يرحمه الله، لم يشرع في العمل معنا إلا ذلك الصباح.
تمت.