سعيد بوخليط - لوحات عن شاعرية وشعرية الترجمة

(1)
الترجمة شغف وعشق ودَأَب ثم تمرس وصناعة في نهاية المطاف. غير، أن مفهوم الصناعة يبتعد بالمعنى المتوخى عن المفاهيم التقليدية ذات النزوع العلمي الساذج، بل القصد تظل الترجمة رحلة معرفية طويلة، لا يتوقف ذهابها وإيابها المستمرين خلال الفصول وعلى امتداد اليوم، من خلال آفاق عدة ومتعددة يفتحها النص الواحد –لاسيما النصوص العتيدة والعنيدة- عبر الإحالات والهوامش والسياقات والأطروحات والمعاني والأعلام والمعجم، إلخ. تصور من هذا القبيل، لعملية الترجمة، والأخيرة بالمناسبة ليست بالعملية القيصرية؛ مثلما يعتقد غالبا، لكنها تعكس أساسا ولادة طبيعية منسابة أو بالأحرى فالترجمة جامعة حينها بين المتعة والمكابدة والخلاص، وفق تآلف سيمفوني خلاق، بحيث يعيش المترجم مختلف الحالات العقلية والوجدانية مع النص الواحد.أريد القول، أن أساس التفاضل النوعي بين مترجم وآخر، يكمن في مستويات معايشة النص المتوخى ترجمته ضمن ممكنات حياته. من هنا، ألح دائما على ضرورة تشكل شاعرية الشغف وشعرية الاستئناس قصد الانتهاء إلى نتائج موحية. أما وضع الترجمة تحت الاكراه، لأي سبب من الأسباب، فلا يؤدي غالبا سوى لنتائج عكسية، حتى مع توفر عامل التمرس. العامل النفسي الحاسم في هذا الإطار، حسب اعتقادي، يعود مقياسه إلى عدم إحساس القارئ بتباين للهوية واتساع للهوة بين الأصلي والنسخة. يفرض عليك النص الجديد/المترجَمِ هوية واحدة، رغم السفر والانتقال من ضفة لأخرى، ثم أحيانا، وياللمفارقة العجيبة! قد يكون نص الترجمة أفضل كتابة وتنضيدا للبنيات التركيبية والدلالية من النص الأصلي، مثلما يحدث العكس، بحيث تسيء الترجمة كثيرا للنص الأم فيغدو الفعل جريمة متكاملة الأركان. لذلك، يفضل بعض الكتَّاب ترجمة نصوصهم بأنفسهم تجنبا لأيِّ متاهة، أو ترشيحهم مترجما يثقون في عمله، أو يرفضون رفضا باتا إخراجها إلى الجمهور، قبل اطلاعهم عليها وإعادة صياغة ما يلزم صياغته.
(2)
الاختلاف قائم بالمطلق على مستوى تصور الترجمة بمختلف مقومات عدَّتها المعرفية والمنهجية، حينما تجد نفسك أمام نص سردي أو شعري وكذا انتمائه لهذا الحقل أو ذاك.للخروج من هذا المأزق، وجب التأكيد على وجود ثوابت ومتغيرات تصاحب الترجمة باعتبارها قراءة، تأويلا، كتابة ثانية. تتمثل الأولى،في ضرورة حضور الشغف، مثلما قلت سابقا، لأنه السند الوحيد قبل وبعد كل شيء، ثم الاستئناس لفترة طويلة بطبيعة المجال المتوخى ولوجه قصد تمثل وفهم ما يجري.
يبدو المترجم ككاتب مستقبلي يعيش تحت الوصاية، أو مشروع مؤلف بصدد امتثاله لفترة تمرين غير محدد زمنها، قد تطول أو تقصر، وربما توقف سعيه منذ البداية، تبعا لأهداف قصده من العملية برمتها. كيف ذلك؟ حينما تختبر الترجمة لفترة طويلة، تشرع ضمنيا في البحث من جديد عن القدرات الذاتية لكتابة شخصية، وليست ”استنساخا” لخطاب كاتب ثان. ما دام ورش الترجمة، على الأقل حسب التصور القائم من الوهلة الأولى، يستدعي فقط توفر نص مكتمل، جاهز من ألفه إلى يائه، فوق الطاولة تلزمه مجرد إعادة نقل وتحول هوياتي وجهة اللغة التي تريد. إذن، المطلوب فقط، امتلاك معجمين لغويين وورقة وقلم، ثم انطلاق القراءة وتدبيج الصياغات الجديدة، دون الخوض هنا في مسألة المعنى، التي تتقاطع كما نعلم عند تصورين، هناك فريق من المترجمين يتمسك برؤية أصولية محضة إن صح التعبير، بحيث يشتغل على معجم الكلمات حرفيا مؤولا المعنى حسب متوالية خطية، تبعا لحصيلة تلك الكلمات. بينما، يراهن فريق ثان، على مجرد استيعاب للمضمون ثم كتابته بحرية تركيبية. عموما، الفكرة التي أرغب في طرحها، تلك المتصلة بمستويات الإبداع الحقيقية، انطلاقا من الرهان على التأليف أو الترجمة؟ لاسيما، بالنسبة لمن قطعوا مع التأليف وتفرغوا تماما لمهام الترجمة.هل المترجم مجرد كاتب فاشل؟ قياسا على تداعيات تلك المقولة التعليمية الشهيرة الناقد كاتب فاشل؟طبعا لا أتفق تماما مع الوصفات الميكانيكية الجاهزة، لأن المسألة أعقد بكثير ومتداخلة جدا، مع ذلك، يشغلني هذا الهاجس : لماذا ألجأ إلى ترجمة نص معين، ولم أكتف فقط بقراءته، بحيث أضع اسمي تعسفا بجانب صاحبه الأصلي. هل أردت ضمنيا أن يكون لي قبل غيري؟
(3)
أعود ثانية ودائما، لاستلهام ترياق الشغف وسحر الرغبة العاشقة، باعتبارهما مدخلين جوهريين لاغنى عنهما بتاتا، قصد تبلور مفعول القدرة الذهنية والنفسية على المصاحبة اليومية، بهدف تذليل مختلف الصعوبات التي تواجهك بها تضاريس وأرخبيل النص المأمول اقتحامه. الانطلاق من محفزات تشعرك بالارتياح، يمنحك قدرات على القراءة والإصغاء بصفاء روحي، يسمو حتما على باقي الدواعي المادية، تحديدا الرهانات التجارية ذات الربح السريع، مما يساعد كثيرا على تقديم منتوج في نهاية المطاف يحترم بكيفية حضارية، كيان وذكاء وحواس مختلف الأطراف المتعاقدة: النص، الكاتب، المترجم القارئ.
بالتأكيد، تواجهني كباقي المترجمين صعوبات شتى، لأني شخصيا أنتمي إلى مدرسة العصاميين والتكوين الذاتي بحيث لم أدرس قط الترجمة داخل فصول مؤسسة معينة، ولم أتلق مثلا تكوينا نظريا ومنهجيا، إذا أردنا الامتثال للأعراف والقواعد الأكاديمية المتفق عليها، مثلما لم أحضر في يوم من الأيام لقاء للترجمة سواء هنا في المغرب أو خارجه، ولم أشارك في أيِّ مؤتمر للترجمة، ولا علاقة تجمعني من قريب أو بعيد بأيِّ جماعة أو هيئة أو مؤسسة أو دار نشر إلخ. جل ما راكمته غاية الآن، بخصوص مخططات تهم باقي مشاريعي المستقبلية، المطروحة يوميا على مكتب اشتغالي، قوامها رغبة ذاتية خالصة. بالتالي، أعتبر ترجماتي بجانب طبعا باقي أبحاثي وكتاباتي التأليفية، انعكاسا وتجليا مرآويا لتاريخ مسار حياتي.
(4)
توخيت دائما على مستوى حياتي الشخصية الإبقاء على جوهر حريتي نقيا، سليما، معافى، سينطبق الأمر بذات الثقل على الأسماء والأعمال التي أرغب في الانتقال بها إلى سياق لغتنا العربية. تعود شرارة البداية إلى مقالة صغيرة حول الصورة الشعرية للفيلسوف والعالِم غاستون باشلار، بحيث كان تصوره للأدب والشعر موضوع أطروحتي للدكتوراه، الرسالة التي ناقشتها بكلية الآداب/جامعة القاضي عياض، بداية الألفية الثالثة. أرسلت المقالة دون توقع كبير إلى مجلة “فكر ونقد”، التي أشرف عليها غاية وفاته أستاذ الأجيال، المفكر محمد عابد الجابري. بعد شهرين حسبما أذكر، اكتشفتها ذات صباح منشورة ضمن مواد إحدى ملفات المجلة المخصصة لنظرية الأدب، تقارع مشاركات نقاد وكتاب مكرسة أسماؤهم بزخم آنذاك. ثم انطلق السعي جادا، فبدأت أترجم نصوصا ومقالات وحوارات ورسائل…، مما أسفر عمليا غاية الآن على عناوين.
(5)
الترجمة ورش متكامل، يمد صاحبه بأدوات معرفية عدة منتقلا به صوب منظورات وآفاق واعدة، غير مسبوقة. أما إنسانيا وقيميا، فهناك خصال نوعية نتعلمها مع درس الترجمة. تتمثل في : الانفتاح، المكابدة، والتواضع. تلزم الإشارة، إلى أن مسألة التمكن بل التفوق اللغوي، تبقى متباينة لدى المترجمين. لكن، الأكثر أهمية بهذا الخصوص، يكمن في ضرورة استيعاب سياق موضوع الترجمة بكيفية دقيقة، قصد الإحاطة بمختلف الملابسات والحيثيات.
بالتأكيد، تتطور اللغة القومية وتصبح أكثر إصغاء لما يجري حولها، كما تنتقل من مستوى التمركز النرجسي على ذاتها، كي تنخرط بعنفوان في سياقات التجربة الكونية من بابها الواسع، عبر مقتضيات الحوار والسجال والتناظر، مع لغات أخرى وثقافات إنسانية مختلفة. إذن، الترجمة أسّ بقاء اللغة على قيد الحياة، بحيث تغتني ذاتيا إبان لحظة إشعاعها الخارجي.
(6)
امتلاك ناصية أيّ لغة يقتضي توفر الرافدين معا، من جهة التحصيل الأكاديمي، ثم من جهة أخرى الانخراط اليومي في صحبة تلك اللغة ماديا وبكيفية حية عبر عنصري التكلم والتواصل الشفوي.سياق من هذا القبيل، يجعل اللغة حاضرة باستمرار؛ منفتحة على التطور. أما علاقة ذلك بالترجمة، فهناك نصوص – السردية أساسا- تجد أغلب فقراتها ومقاطعها زاخرة بعبارات مرتبطة تركيبيا ودلاليا باللغة العامية وفحوى مضامين التداول اليومي، ولن تنفع في هذا الإطار شروحات المعاجم الأكاديمية، فيجد المترجم نفسه عاجزا عن وضع دلالات مقابلة. إذن، إتقان لغة وفهم منظومتها، اقتضى دائما اشتغالا ثنائيا، النظري والعملي، التكلم والكتابة، القاعدة والتطور، المؤسسة والشارع.
(7)
سواء في المغرب وغيره من البلدان العربية، لا زالت الترجمة تفتقد إلى الأفق المؤسساتي الكبير، الذي بوسعه تطوير وتثوير الإنسان والحجر. ما نعاينه حاليا يظل فقط مجرد هواجس فردية معزولة ونزوعات شخصية أساسها شغف صاحبها أو أساسا لأنها مصدر رزق بالنسبة للعديد من المترجمين في إطار عقود أبرموها مع بعض دور النشر، أو هيآت فكرية، إلخ. بل حتى هذا الجانب على بؤسه، مثلما تكشف حكايات من هنا وهناك، لازالت تشوبه اختلالات كثيرة تقوض روح الطمأنينة المفترضة بين الناشر والمترجم، غير محكومة حقا بروح التعاقد القانوني والفكري وقبلهما الأخلاقي. لذلك، يقتضي ما يحدث ثورة ثقافية نوعية، تضع لامحالة الترجمة في قلب التفكير المؤسساتي للمشاريع المجتمعية. ننتقل معها من العمل البدائي إلى الاشتغال على ضوء حوافز مشروع حضاري حقيقي،قوامه ومبعثه التطلع صوب نهضة تمس مختلف جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والمعرفية. فلا تطور يذكر، بدون أوراش الترجمة واشتغالات المترجمين على جميع الواجهات وانفتاح يلاحق اجتهادات مختلف الثقافات الإنسانية. نحن في حاجة ماسة إلى ترجمات ذات اتجاهين متقاطعين، من العربية وإليها،أفق يتطلب فعلا مخططا كبيرا حسب روافده اللوجيستيكية والابستمولوجية والايديولوجية.
(8)
تحرك الترجمة المياه الراكدة، بوضعها موضوع مساءلة القائم محليا والمسيطر فكريا لعقود دون مساءلة تذكر، ليس بالضرورة أن تتم عملية التفكيك صراحة وجهرا، لكن فقط استيراد المفاهيم الدائم واللامتوقف عبر أوراش الترجمة، يؤدي ضمنيا إلى خلخلة المعتقد الديني والسياسي، والتحول بهما من مستوى العقيدة الجامدة أو الدوغما المتحجرة، كما الشأن معنا داخل أسوار هذه الواقع الشمولي والكلياني من الصباح غاية المساء، ثم من المساء حتى المساء ثانية، فتعود إلى حالتها الأولى باعتبارها مجرد وجهة نظر فردية قابلة للحياة والموت معا، حسب قدراتها البيولوجية على التفاعل مع محيطها الداخلي والخارجي.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى