د. يوسف حطّيني - دراسات في القصيدة القصيرة جداً #قصيدة الهايكو.. نظرات في قصيدة الهايكو

(1)
إنّ وجود منظّر حصيف لقصيدة الهايكو مثل الأستاذ محمود الرجبي، وشاعرٍ يقتنص الصورة المدهشة في أثناء محاكاته لها مثل الأستاذ محمد حلمي الريشة لا يعني أبداً أنّها بخير في وطننا العربي، فالغث أكثر بكثير من السمين، والإبرة الذهبية موجودة داخل أكوام كبيرة جداً من القش، غير أنني سأحاول في هذه الدراسة اختيار أفضل نماذج الهايكو، حتى لا يصيب القارئ ما أصابني من الاكتئاب المزمن.
لقد كدتُ أصرخ، قبل أن أبدأ بصياغة هذه الدراسة: ارحمونا يا أصحاب الكتابات الشذرية الـ (Made in Japan) من هذا التداخل المرهق بين الرينجا والتانكا والهايكو والسّنْرْيو والهايبون، واتركوا لقيصر ما لقيصر، وتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:
ـ اعترفوا أنّ ما تنجزونه هو نص نثري قصير جداً يمتاز، أو يفترض أن يمتازَ، بالجدة والطرافة وحسن الالتقاط وجمال التصوير وقوة الأثر، دون أن تدّعوا انتماءه إلى هوية الشعر؛ لأنّ الشعر إيقاع، ولأنكم حين نقلتم شكله الياباني لم تفهموا إيقاعه؛ ولكنكم سميتموه "هكيدة" على وزن قصيدة، وأجبرتم ولعي بالاشتقاق على اختراع "رجيدة وتكيدة وسنيدة وهبيدة"، اشتقاقاً من الرينجا والتانكا والسّنْرْيو والهايبون؟ لماذا لا تسمّونه "نثيرة" تيمّناً بالتسمية التي أطلقها بعض النقاد على "قصيدة النثر"، وكانوا من خلال هذه التسمية مخلصين للشعر من خلال وزن الكلمة، وللنثر من خلال جذرها اللغوي؟
غير أنني بحكم تكويني الأكاديمي الذي يقيّد ميولي الإبداعية ونزواتي الشخصية، وطّنت نفسي على قبول شعرية "قصيدة الهايكو"، ومشتقاتها، بنسختها العربية غير الإيقاعية، كما وطنتها تماماً على وجود "قصيدة النثر"؛ لأنني لستُ نعامة حتى أنكر وجودها، ولأنّ إنتاجها بلغ من الكثرة الحدّ الذي يجبر النقد على التعامل معها؛ ولأنّ لهذه الهكيدة أنصاراً، أقلّاء جدّاً، بلغوا حدّاً فائقاً من جودة التعبير عنها تنظيراً وإبداعاً.
ولا بدّ لنا قبل الغوص في رمال الهايكو العربية المتحركة من العودة إلى بلد المنشأ الذي صدّر الهايكو، ليس إلى الدول العربية فقط، بل إلى جميع بلاد العالم، وهذا بالطبع لا يعيب أياً من الثقافات التي من المفترض أن ينفتح بعضها على بعض، كونها إنتاجاً إنسانياً.
(2)
إنّ "قصيدة الهايكو" اليابانية شعرٌ، له اشتراطاته الفنية، على صعيد الفن والموضوع؛ وقد حافظت بشكل عام على تلك الاشتراطات مدة طويلة منذ نشوئها قبل نحو ثلاثة قرون، لتعبّر من خلال سبعة عشر مقطعاً صوتياً، في ثلاثة أسطر (5+7+5)، عن أعمق المشاعر الإنسانية نحو الطبيعة وعناصرها في بساطة مذهلة، غير أن بساطتها تبدو كمن ينظر إلى العالم بعيني طفل وفكر فيلسوف؛ إذ تمتاز بحس التقاط عالٍ جداً، من طبيعة تعطي أفكاراً لا تنتهي، ولعلّ أجمل تعريف غير أكاديمي لقصيدة الهايكو قدّمه المغربي سامح درويش الذي قال:
"أن تكتب كطفل
بخبرة شيخ
هو الهايكو "
غير أنّ هذا التعريف المثير للإعجاب لا ينقع غلة الصادي المحرور الذي يبحث عن شروط وأركان وتقنيات ومزايا، بما يشبه التعريف التراثي الصارم للشعر العربي التقليدي على أساس أنه "كلام موزون مقفّى ذو معنى ". وهنا يمكن تعريف الهايكو بأنه "شكل شعري ياباني يتألف من سبعة عشر مقطعاً، موزعة على ثلاثة أبيات، بواقع خمسة مقاطع، فسبعة، فخمسة على التوالي ". وبالطبع فإنّ ثمة تفصيلات شكلية أخرى، كاستثمار الوسائل الإيقاعية المتعددة، والقافية الموحدة في البيتين الأول والثالث، مما يصعب نقله بالترجمة. وهنا ينبغي الانتباه إلى أنّ كلمة "هايكو" مشتقة أساساً من كلمة "هوكو" التي دخلت إلى اللغة اليابانية من علم العروض الصيني ، وهذا ما يعني أنّ تعامل الكتّاب العرب مع محاكاة نص الهايكو، على أنه نص غير إيقاعي فيه حيف يصيب الشعر الياباني والشعر العربي على حد سواء.
ويشير د. أحمد حميد الدوري إلى مرور شعر الهايكو بمرحلتين تسبقانه هما مرحلة التانكا التي سادت ابتداء من القرن الثامن، وامتدت حتى القرن الرابع عشر، وتبعتها قصيدة الرينجا التي امتدّت سيادتها حتى القرن السادس عشر؛ لتفسح الطريق أمام الهايكو .
غير أنّ قصائد التانكا استمرّت، وانتقلت كما الهايكو إلى الآداب الأخرى، في حين كانت الرينجا أقلّ حظّاً، وإن كان استمرار التانكا جاء على حساب بعض خصائصها التي اضطرت إلى التجاوز عنها، فقد "كانت لغة التانكا في القرن التاسع عشر، باستثناء القليل منها، هي اللغة القديمة المستخدمة منذ ألف عام مضى، واعتبرت الكلمات التي ليست من اشتقاق ياباني صميم منبوذة تماماً (...) أما موضوعات الشعر فقد كانت أيضاً محددة بدقة متناهية؛ مثلاً هناك خمسة وعشرون نوعاً من الأزهار كان يسمح بأن يرد ذكرها في قصيدة تانكا "، غير أنّها حافظت على شكلها الإيقاعي إذ كانت تتألف من واحد وثلاثين مقطعاً في خمسة أسطر (7/ 5/ 7/ 5/ 7)، وربّما يتغير ترتيبها أحياناً دون الإخلال بعدد الأسطر والمقاطع، ومن الممكن أن نشير هنا إلى بعض أمثلة قصائد التانكا اليابانية، من مثل نص لإيشيكاوا تاكوبو كو، يستثمر فيه الطبيعة البحرية، ويؤكّد قدرة الحزن على مجاورة الفرح في ثنائية مدهشة:
"على الرمال البيضاء
على شاطئ جزيرة صغيرة
في البحر الشرقي،
ووجهي مغرقٌ بالدموع،
ألعبُ بالكابوريا ".
ويمكن أيضاً التمثيل بهذه التانكا لتيكّان يوسانو، حيث الحب سؤال لا يحتاج إلى تسويغ، وحيث القدر يقود العاشق إلى اتجاه محتوم:
كأنك
تسألين القرمزيّ
لماذا أنت قرمزيّ؟
يا للغباء، كيف
تنتقدين علاقتي العاطفية ؟
أما التانكا اليابانية الأخيرة التي نوردها ها هنا، فهي تانكا حزينة، لميوكو غوتو؛ فالمشهد الطبيعي جنائزي مؤلم، والحزن قادر على أن يخترق الحياة إلى نهايتها، ما دامت ذكريات الموت الثلجي مرشّحة لمرافقة الأحياء:
بين
الأزهار، وجهُ طِفلي
الميت
شديد البرودة، يمكنني
الاحتفاظ بهذه البرودة مدى الحياة
وكما في جميع أنحاء العالم، وفي جميع أنواع الكتابة الشذرية؛ فقد نشأت (متتالية التانكا) التي تجمع عدداً من القصائد ينظمها موضوع عام واحد، فقد كتب تاتشيبانا أكيمي سلسلة من خمسين تانكا تدور كلها حول مباهج الوحدة ومنها:
• "إنه لمن السرور،
ونادراً ما يحدث،
أن نتغدى سمكاً،
ويصبح أولادي فرحين،
يم يم، ويبتلعوه في لهفة.
• أنه لمن السرور
أن أصادف
في كتاب ما،
شخصية
تشبهني تماماً ".
(3)
هكذا استقرت التانكا وتطورت، حتى بعد أن أفسحت الطريق للهايكو في القرن السابع عشر بعد أن اختصر مقاطعها إلى سبعة عشر وأسطرها إلى ثلاثة؛ ليستقرّ ويأخذ شكله النهائي على يد مجموعة من الرّواد في القرن السابع عشر، ومنهم باشو وبيسون ووإيسا وسايكوكو .
وربما كان ماتسوو باشو أشهر من تردد اسمه في الثقافة العربية، بوصفه المعلّم الأكبر للهايكو بلا منازع، ومن قصائده التي يحفظها اليابانيون عن ظهر قلب قوله:
في البركة القديمة
تقفز ضفدعة
صوت الماء
وقد أشار هارولد ستيوارت إلى صعوبة انتقال الإحساس الذي تحمله قصيدة الهايكو إلى القارئ غير الياباني؛ ذلك أنها تقوم في أهم خصائصها الإيقاعية على المحاكاة، "حيث إن تكرار صوت /o/ والذي يتكرر أكثر من خمس مرات يخلق في أذن السامع صوت الماء عند قفز الضفدع إليه "، وهذا الإيقاع التوليدي يشبه ما اجتهد فيه شعراء العرب ونقّادهم في الربط بين القافية وموضوع النص العام، من أمثل قدامة بن جعفر وابن طباطبا العلوي ، وغيرهما.
وأمّا خصائص الهايكو الياباني فقد حصرها د. الدوري في عشرٍ يمكن أن نلخصها في: بساطة اللغة التي تكتب عن المألوف بطريقة غير مألوفة، والتركيز، والسرعة، والمباشرة، وحسيّة الصور، وتصوير الطبيعة، وتجنّب تصوير العنف والحرب، والاحتفاء بالتجربة الجمالية، والذّكورية؛ فالهايكو الياباني يكتبه الرجال للرجال.
ويمكن هنا أن نشير إلى ملاحظتين حول هذه الخصائص أولاها تتعلق بكون هذا الفن يكتبه الرجال للرجال، فالدكتور هنا يوصّف واقعاً لا يريد منه قصر كتابة الهايكو على الرجال؛ فقد كتبه الرجال والنساء في الوطن العربي وأمريكا وأوروبا، وفي جميع أنحاء العالم.
والملاحظة الثانية أنّ ثمة خصائص أخرى لم يدرجها ضمن ما ذكره من خصائص من مثل الإيقاع الذي تفترضه قصيدة الهايكو، وغلبة الذات على الموضوع، وقوة التأثير؛ مما سنفصّل فيه القول لاحقاً. ولعلنا نشير إلى نص لأشهر شعراء الهايكو اليابانيين الذين ارتبط اسمهم بهذا الفن، وهو باشو الذي يقول:
كم هو عجيب
أن نرى البرق ولا نفكّر
الحياة زائلة .
ولعلّ قوة التأثير في هذا النص تتأتى من النظرة التأملية لمشهد البرق الذي يراه الناس جميعاً، ولا يرون في سرعة انطفاءه موازياً لانطفاء حياتهم الزائلة، ولعلنا نشير كذلك إلى قوة التأثير في الصورة التي يقترحها بيسون للضفدع العجوز، من خلال موازاتها للخريف، حيث تساقط الأوراق يقابل اقتراب الحياة من نهايتها:
ضفدع البركة القديمة
يتقدّم به العمر
أوراقٌ متساقطة .
وثمة نص جميل لرائد آخر اسمه "إيسا" يعطي نصه بعداً طبقياً، ويخرج به ربما من نوع الهايكو إلى السنريو الذي لا يشترط الحديث عن الطبيعة ؛ إذ يلمّح إلى صراع الأغنياء والفقراء، وصراع الجمال والقبح، من خلال طائرة ورقية قادرة على صنع الجمال، بالرغم من فقر صانعها:
كم هي جميلة
الطيارة الورقية وهي تحلق في السماء
من كوخ شحاذ .
ويمكن عرض نص آخر لإيسا يتخذ فيه المنحى ذاته، متحدّثاً عن الظلم الذي يفرزه التراتب الطبقي، من خلال مثال الدوريّ والسيّد:
"تنحَّ جانباً
خيلُ السّيد آتٍ
أيّها الدّوريُّ الصغير ".
ولا بدّ لنا أن نشير إلى أن نقلة الهايكو إلى السنريو لاقت هوى واستحساناً لدى المبدعين الأجانب والعرب في كل مكان؛ ذلك أنّ العالم أكثر قبحاً مما يسمح بالتأمل الجمالي فقط، وتمكن الإشارة هنا إلى نماذج جمعها آزاد إسكندر وسمّاها (هايكو الحرب)، وهي مجموعة نصوص تتحدث عن بشاعة الحرب وقسوتها، وفيها من إثارة لكوامن النفس وقوة التأثير ما يجعلها جديرة بالقراءة. غير أننا هنا نكتفي بإيراد بعض نماذجها فقط؛ للتدليل على خروج قصيدة الهايكو العالمية عن الالتزام التأملي الجمالي الذي التزمت به، بنسختها اليابانية، قروناً متعددة:
• زيلجو فوندا/ كرواتيا
في القرية التي قُصفتْ
امرأة عجوز
تلعن بقاءها حيّة .
• ندى سابادي/ كرواتيا
طفل لاجئ
يعلّم الطيران لطير صغير
سقط من عشه .
• ماركوس سوليزبرغ/ سويسرا
في أكياس سوداء
هواتف نقّالة ترنّ
بلا انقطاع .
• روبرت ويلسون/ الولايات المتحدة
أواخر إبريل
التوابيت التي
لم يريدوا أن نراها .
• أودو وينزيل/ ألمانيا
هذا مطر صيفي
في لبنان
قنابل عنقودية .
(4)
لقد اتّسع مفهوم الهايكو إذاً اتساعاً كبيراً، ولم يعد بالمستطاع الزّعم بأنّ لشعراء الهايكو إماماً يتبعونه، ويمكن بشيء من التعميم أن نقول أن هناك نموذجين كبيرين للهايكو، النموذج الأصلي، والنموذج المعدّل الذي تميّز بسمات أشار د. أحمد الدوري إلى بعضها في كتابه "شعر الهايكو الياباني، وإمكانياته في اللغات الأخرى"، وهي تتلخص من حيث الشكل بعدم التزام الهايكو الجديد بعدد معين من المقاطع؛ ليزيد عن عشرين مقطعاً حين تدعو حاجة المعنى، بما يتطلّب زيادة عدد الصور، وأنه لم يلتزم كثيراً بالصبغة الزمنية، كما اتسعت مجالات الهايكو لتشمل الاجتماعي والسياسي والنفسي، كما أنه لم يقتصر على الرجال الذين احتكروا الهايكو الياباني؛ إذ وجدت فيه النساء مجالاً رحباً للتعبير عن أحاسيسهن العميقة .
ويبدو هذا التطوير مهما جداً، خاصة لجهة الموضوع، لا سيّما أن العرب أكثر عرضة للتأثر بالغرب من تأثرهم باليابان، بحكم تعاملهم مع الثقافة المكتوبة بالإنكليزية، والمترجمة عنها بشكل خاص، كون اللغة الإنجليزية مهيمنة لأسباب لا مجال لشرحها الآن؛ لذلك ربّما من الأدق أن يقال إن العرب حين كتبوا الهايكو الذي يقلدون به الهايكو التقليدي كانوا متأثرين بثورة الوسيط على بنائه، فخرجوا عنه، ولكنهم بقوا في إسار التطوير الذي اقترحه الهايكو الغربي، وإن حاول بعضهم أن يكيّفه مع الإيقاع العربي في تجارب محدودة ظلت أسيرة أصحابها.
وثمة شيء آخر لا بد من الإشارة إليه هو أن الهايكو العربي خليط ناتج عن أشكال مختلفة في تطورات التجربة اليابانية ذاتها، فالفرق بين الهايكو والسّنْرْيو أن الثاني لا يشترط الحديث عن الطبيعة، ويهتم بالمواضيع الإنسانية كافة، والفرق بين الهايكو والهايبون هو أن الثاني يمزج الشعر بالنثر ، أما الهايكو العربي فقد تناول الموضوعات الإنسانية كافة، واعتمد النثرية في كثرته الكاثرة، كما أنّ هناك أشكالاً أخرى للشعر الياباني، من مثل التانكا والرينجا اللتين قادتا إلى الهايكو، وهذا ما يجعل الهايكو العربي ضائع الهوية بين المصطلحات السابقة، ولم يتقن الإخلاص لخصائص كلّ منها على حدة إلا من رحم ربي. وقد برزت هذه المشكلة في عدد من المجالات أبرزها صدور كتب تعاني في محتواها، وحتى في عناوينها من التداخل، فثمة كتاب قيّم سبقت الإشارة إليه قبل قليل يحمل عنوان "هايكو الحرب: آثار الرصاص من أنحاء العالم" يحمل تناقضاً في عنوانه؛ لأنَّ خروج الهايكو عن موضوعاته الكبرى يحوّله إلى سنريو، وثمة كتاب أقلّ قيمة بكثير من سابقه لهيفاء شاكر نصري يحمل عنواناً مرتبكاً: (الهايكو والحب: نصوص في الأدب الوجيز) ، وهو كتاب لا علاقة له بالهايكو من قريب أو من بعيد، ولا ينتمي للأدب الوجيز إلا من حيث حجم النص، فهو مجموعة خواطر لا إبداع فيها ولا تميّز.
وقد برز مثل هذا التنوع الشكلي في نسق إبداعي واع لدى بعض الكتاب العرب الذين ترجموا الهايكو والتانكا والهايبون، وميّزوا بينها، دون أن يعني ذلك قدرة القارئ غير الحصيف على إدراك هذا التمييز نظرياً وتطبيقياً. ومن الذين أنتجوا في مختلف تلك المجالات محمود الرجبي ومحمد حلمي الريشة وقمر عبد الرحمن، ويمكن لنا هنا أن نعرض النصوص التالية:
• تانكا بعنوان (السرعة) لمحمود الرجبي:
عكسي تماما
السلحفاة تعرف كل شيء
في حديقتي
البطء يفضح ما تخفيه السرعة
من يجرِ يفقدْ لذّة الطريقْ
• تانكا لمحمد حلمي الريشة:
: مَتَى يُشِيرُ إِصْبَعُ الزَّمَانِ إِلَى الْتِقَائِنَا وَالْمَكَانِ؟
تَصْرُخُ وَرْدَةُ الرُّوحِ
وَهِيَ تَنْتِفُ خَجَلَ وَجَنَاتِهَا!
كَادَ أَثِيرُ الْحُلُمِ يَفْضَحُ حَوْلَ أَمَلِنَا،
وَكِدْتُ أَذْبُلُ بَيْنَ طِيَّاتِ عِطْرِي
• هايبون بعنوان (شوق) لقمر عبد الرحمن:
لا أريدُ خُبزاً هذا الصّباح
أريدُ خَبراً عن حبيبي
يا أيّتها الرّياح استجيبي لي
أعيشُ في آسيا والبردُ يحتّلُ قلبي
عيوني على الطرقاتِ -الانتظارُ يأكلني-
وروحي يَغتالُها الغياب
جروحي ترفضُ الالتئام-
مَرهمُ القلبِ؛
أَنتْ
وربما كان ينبغي على الكتاب العرب عندما أقبلوا على إعادة إنتاج تجربة قصيدة (الهايكو) وأخواتها أن يسعوا بشكل أكثر فعالية نحو تكييفها مع الثقافة العربية؛ لتناسب إطارنا الشعري العام، أو أن يقفوا عند حدود ترجمتها، والاستمتاع باتساق نظامها، وجمال صورها، وعمق دلالتها، مع العلم أن هذا النظام، لم يصل إلينا بتمام هيئته، بسبب الترجمة، (أو الترجمة عن الترجمة) التي خضعت لها نصوصه.
وللأمانة العلمية والتاريخية فقد عمل الدكتور عزّ الدين المناصرة على تكييف فنّ الهايكو بما يتناسب مع نظام القصيدة العربي ، فأنتج نصوصاً، سمّاها "توقيعات"، تيمناً بتسمية شاعت في العصر العباسي، لتدل على نصوص شديدة التكثيف والدلالة. وقد أخذت توقيعاته من الهايكو نظامه وتكثيفه وهرميّة بنائه، دون أن تخرج عن إيقاع الشعر العربي، وبالطبع فإننا لا نقصد بالإيقاع بحور الشعر الخليلي، بل جميع ما ينشأ عنها، وما يتفرع منها، من اجتهادات إيقاعية. ويمكن هنا أن نشير إلى "توقعيتين" من توقيعات المناصرة، تقول الأولى:
رَحَلَ الْأَحْبَابُ
بَقِيتُ هُنَا وَحْدِي
صِرْتُ يَتِيمًا
كَالنَّخْلَةِ فِي الصَّحْرَاءْ
وإذا كانت هذه التوقيعة، تندرج في إطار إنساني، يشفّ عن جانب وطني يدركه المهجّرون والمنفيّون، فإنّ التوقيعة التالية، ستكون أكثر وضوحاً في الإشارة إلى محتوى وطني أيديولوجي، قلّ أن تهتمّ به قصيدة الهايكو، يقول المناصرة:
سلاماً، آهِ يا أبتاهُ
إنْ تعبوا ، فلن أُتعبْ
وإنْ ذهبوا إلى أعدائهم خوفاً
فلن أذهبْ.
كما تمكن الإشارة إلى بعض النصوص التي أنجزها الشاعر الجزائري عاشور فني؛ إذ اعتمد على إيقاع التفعيلة، على نحو ما نجد في النص التالي:
لماذا تمرّ السحابة
وتتركني أتجمّع
تحت رذاذ الكتابة .
في هذا النص يصنع الكاتب الدّهشة ليس من خلال الإيقاع العروضي (فعولن)، فتلك صنعة الشاعر الأساسية، بل من خلال مراعاة نظير السحابة عبر الرذاذ، ومن خلال قافية داخلية، تطابق تماماً شرط الهايكو الإيقاعي الياباني الذي يوحّد القافيتين. وهو يستثمر، في هايكو آخر، التفعيلة ذاتها، دون تقفية داخلية، فيفتح الليل على السهر والقلق واحتمالات الأسئلة:
تنامُ العيونُ
فأغمض عيني
وأفتح أفق السؤال .
(5)
لقد حاولنا أن نحدّد مزايا نصوص الهايكو العربية، مستفيدين مما أنجزه مبدعوها والمنظرون لها، واستناداً إلى تعريفات تحاول أن تتقصى هذه الميزات، ويأتي في مقدّمة المنظرين للهايكو الأستاذ محمود الرجبي، الذي عرف قصيدة الهايكو بأنها "قصيدة قصيرة تستخدم اللغة الحسية لالتقاط شعور أو مشهد، ودائماً ما تستلهم كلماتها من وحي عناصر الطبيعة ولحظات الجمال العابرة والتجارب المؤثرة " وأشار إلى أنّها الهايكو "تستمد طاقة استمرارها من المحافظة على أساسيات تكوين المشهدية والآنية والاستنارة "، وأخذ على الكتاب العرب أنهم يحاولون استخدام المصطلحات اليابانية ذات المعنى الملتصق والمنبثق من صميم الحضارة والثقافة والمعتقدات اليابانية (...) دون أدنى اهتمام او انتباه لخصائص ومتطلبات الحضارتين العربية والإسلامية، كما دعا إلى كتابة نصوص جميلة في هذا المضمار بدلاً من الاختلاف على السمات، وهذه نظرة متقدمة، تمنح الإبداع رتبة عليا، فهو إنشاء، بينما النقد لا يعدو كونه إنشاء عن إنشاء. ويستطيع المتابع أن يجد في ثنايا كتابات الرجبي النقدية سمات تميز الهايكو، ابتداء من البساطة، والدهشة التي يراها الحقيقة الوحيدة في الأدب، وخصوصية الصورة البصرية التي يدافع عن حسن التقاطها، ووضعها في سياقها الإنساني، فالصورة غير مجردة، لأنّ "قصيدة الهايكو الحقيقية تولد ناقصة، فكتابة قصيدة الهايكو ليست عملية تصوير لمشهد يحدث أمامك بصورة مجردة، أو وصف لحدث أو مشهدية بطريقة الألغاز والتفسير "، وهو يقترح استثمار التقنيات المتاحة لرفع شأن الهايكو، فيقول: إن الذي يطالب بهايكو نقي، غير ملوث بالبلاغة والحكمة والخيال والفلسفة والمجاز والذاتية والأنسنة، عليه أن يتذكر دائما، أن الماء النقي بلا طعم أو لون أو رائحة "، وتكمن صعوبة متابعة رؤية الرجبي لقصيدة الهايكو في أنها رؤية متطورة بفعل تطور ذائقته، ومبثوثة على شكل أفكار منثورة في حوارات أو انطباعات أو خواطر. وقد حاول آخرون أيضاً أن يعرفوا الهايكو وأن يتتبعوا خصائصها بطريقة منضبطة، فقد رأت د. بشرى البستاني أن الهايكو "لحظة جمالية، لا زمنية، في قصيدة مصغّرة موجَزَة ومكثفة تحفّز المخيّلة على البحث عن دلالاتها، وتعبّر عن المألوف بشكل غير مألوف، عبر التقاط مشهد حسّي، طبيعي أو إنساني، ينطلق من حدْس ورؤيا مفتوحة تتّسِعُ لمخاطَبَة الإنسان في كل مكان، من خلال وَمْضَة تأملية صوفية هاربة من عالم مادّي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم في اقتتال ومعاناة؛ بسبب هيمنة حضارة مادية استغلّتِ الإنسان، وداست على كرامة روحه، وحَرَمَتْه الأمن والسلام "، بينما أشار د. فريد معضشو إلى أنها "قطعة شعرية مكثفة ومركّزة جدّا، تتوسّل بلُغة بسيطة، بعيدة عن التمحُّل والحذلقات الأسلوبية والشكلية، لكنها بساطة من السهل المُمْتَنِع، وقادرة على التقاط اللحظة الإنسانية الهاربة، وعلى تناول معانٍ عميقة، وموضوعات مألوفة يَرِينُ عليها حضورُ عنصر الطبيعة وما يتمحّض لها، وتؤطّرها رؤيا جادّة ينطلق منها الهايكيست ". بينما رأى محمد المرزوقي أنّ هذا الشعر يقوم «على لغة شعرية تقوم على عدة خصائص جعلتها سمات فنيّة متعارف عليها عند شعراء الهايكو، التّي تأتي في مقدمتها، الإيجاز، وبساطة الألفاظ التّي غالبًا ما تنحو إلى السهل الممتنع، وصياغة المعاني في تراكيب تتخذ من الخيال والإيحاءات وتكثيف اللّغة [سمةً] أولى. بينما تحدثت د. فاطيمة زهرة سماعيل عن خصائص الهايكو مشيرة إلى شعرية العنونة وشعرية اللغة والصورة الشعرية والإيقاع، لافتة النظر إلى ثنائية الصورة والدهشة في قولها: "ففي الهايكو نركز على الصورة البصرية أي التّصوير المشهديّ الآني فكأننا نلتقط صورة فوتوغرافية، وربطها ببعد تأملي عن طريق دمج أكثر من صورة لإنتاج صورة أخرى ذات بعد فلسفي تأملي يخفي الكثير بين طياته (...) الهايكو صورة بصرية، تتلاعب بين المعلوم والمجهول، بين ما هو حقيقي والوهم، فلا ضير في استخدام الشاعر الهايكوي المجاز دون أن يطمس مشهدية الصورة الهايكوية ويساهم في تفجير الدهشة . وقد حاولنا الإفادة من كل ما سبق فوجدنا قصيدة الهايكو تمتاز بمجموعة من السمات، هي:
1ـ اللاجنسية:
لا يشترط الهايكو العربي، كما فنون الأدب والفن جميعاً، أن ينتجه رجل دون المرأة، وتبدو هذه الملاحظة غير ضرورية لولا اقتصار الهايكو الياباني التقليدي في إنتاجه على الرجال، وثمة في خارطة الهايكو العربي أسماء نسوية لا تحصى، من مثل هدى بنادي ود. بشرى البستاني التي تمتاز بعمق نظرتها النقدية والإبداعية. تقول بشرى البستاني في نص جميل، ترفع فيه صوتها منتصراً للحياة على الموت:
موت في الخيام
موت في البيوت
في الركام تطلع زنابق
2 ـ تنوّع الموضوعات:
تناول الهايكو العربي، خارجاً عن أصول الهايكو التقليدي، موضوعات الطبيعة والحب والحرب وغيرها، ويمكن للتمثيل أن نعرض نموذجاً يُدخل الطبيعة في متن الهايكو للتعبير عن أرق النفس وقلقها، للكاتبة هدى بنادي التي تعبّر من خلال مجاز اللغة عن قهرها وحزنها في نص تقول فيه:
"حتى أنت
أيتها السماء
جفّت دمعتك "
كما يمكن أن نعرض نصاً بديعاً تتناول فيه إيناس أصفري آفة فقد البصر التي لا تعني فقد البصيرة، فالعشق في قلب الكفيف يصنع المعجزات، ويتجاوز المباشرة بالصورة، ويبادل بين الحواس، لينتصر الحب انتصاراً حاسماً:
"أصابعُهُ
ترى وجهَ حبيبتِهِ
الكفيفُ "
3ـ توازن الذات والموضوع:
بخلاف الهايكو التقليدي الميّال للذاتية على حساب الموضوعية، وازن النص الهايكوي العربي بينهما، وبالطبع أتحدّث هنا عن نسق عام، وليس عن كاتب محدد امتاز بغلبة الذات على الموضوع، أو العكس. ومن النصوص التي تنتصر للذات على حساب الموضوع معظم الهايكو الذي أنتجه الكاتب المغربي عبد القادر الجموسي، ومنه نص يتقاسم فيه الصقيع مع الصباح، حيث يشي ذلك الصقيع بروح الشاعر الباحث عن الدفء:
مقعد الحديقة
سبقني إليه
صقيع الصباح .
وأما غلبة الموضوعية على الذاتية، فأمثلتها أكثر من أن تحصى، ذلك أن الإنسان العربي لا يستطيع الهرب من واقعه بالتقوقع على ذاته، ولا يستطيع إلا نادراً أن يستمتع بالجمالي، دون أن يجرحه الواقع. ويمكن أن نستشهد بمجموعة هايكو كاملة لمحمود الرّجبي حملت عنوان القدس حزينة (هايكو لفلسطين)، وضمّت مجموعة نصوص مشغولة بموضوع القدس، تعتمد إيقاع التفعيلة في بعضها، وتخرج عن نسقه في بعضها الآخر، وهي نصوص معنونة، ومنها نص جميل بعنوان "غربة"، يقول فيه الرّجبي:
لا شيء يؤلم كالوحدة
قال المسجد الأقصى بحزنٍ
بعد صلاة العشاء
وهناك نص أخر بعنوان (غضب) يستثمر فيه الرّجبي تفعيلة (متفاعلن)، غير أنّ غضبه ينصبّ على اللغة أيضاً، فيعلو صوته على هدوء الهايكو؛ ويقدّم لنا نصّاً يذكّر بلغة سميح القاسم وتوفيق زيّاد، إذ يتقدّم صوت الجرح الفلسطيني النازف على الذات الحالمة:
الشمسُ تبصق ما تيسَّر من لهبْ
دمنا جليد الذل في أرض العربْ
والقدس يأكلها الغضب .
4ـ التكثيف:
وهو سمة مستوردة من الهايكو التقليدي، وقد صبغت معظم نصوص الهايكو العربية الجيدة التي امتازت بالتركيز الشديد، وعمق الدلالة، وبراعة الالتقاط على نحو ما نجد في نصوص الكاتبة هدى حاجي التي تفيد من الأشياء المألوفة، وتدخلها في مختبرها الإبداعي، لتنتج نصوصاً مبهرة منها النص التالي:
في القوقعة
ترك لي البحر
رسالة صوتية
5ـ الوحدة الموضوعية:
وهي سمة بارزة من سمات النص الهايكوي، وتبدو لي أنّها ناتج من نواتج التكثيف؛ إذ قلّ أن تفلت هذه السمة من كاتب في ثلاثة أسطر، وربما كانت الكثرة تغني عن التمثيل، غير أننا نمثّل بنص لميسون عرفة، يعبّر عن مدى تعلّق الروح بالماضي ورموزه وشخصياته:
أدفع الإيجار
للغرفة التي يسكنها العنكبوت
بعد وفاة جدتي
5ـ غلبة النثرية على الشعرية الإيقاعية؛ إذ لم تتمكن نصوص الهايكو من إيجاد بديل مقنع لإيقاع المقطع الصوتي الياباني، باستثناءات قليلة اعتمدت على التفعيلة العربية، ومنها نصوص عز الدين المناصرة، وبعض نصوص الرّجبي التي احتفلت بالغنائية، كما في نص "معراج" الذي يقول فيه:
في الفجر يرتفع الدعاءْ
نورٌ على نورٍ وأجهش بالبكاء
القدسُ دربي للسماء .
6ـ غلبة الصورة الشعرية:
لقد استطاعت الهايكو في نماذجها الراقية أن تكوّن حدائق من الصور التي تتراكب لتنتج دلالة النص، وخيالاته. ولا أظنّ أن شاعراً في العربية احتفى بصور الهايكو (والتانكا) احتفاء محمد حلمي الريشة الذي جعل نصوصه سجّادة فارسية تتزاحم فيها الصور والأخيلة، وأتحدث هنا عن عموم التجربة، لا عن نص بعينه، ويمكن هنا أن أمثّل بنص يقول فيه:
أستيقظ داخل حُلُمي
أشكُّ سبّحةَ ندى
قبلَ شروق شمسي
7ـ المشهدية والصورة البصرية:
بالطبع فإننا لا نقصد بكلمة الصورة: المجاز، بل اعتماد النص على رؤية ما ألفه الناس، وتحويله إلى نص ممتع غير مألوف؛ فها هو ذا سامح درويش يفيد من ظاهرة تتبدى للجميع، ويصوغها بطريقة جديدة، تحوّل المشهد البصري المألوف إلى مشهد لغوي جمالي:
مٌتبرّجة،
لا تُبالِي بالخَريف
شجَرة النّارنْج
8ـ الزمنية:
وهي سمة تمتاز فيها نصوص الهايكو العربية عامة، وبشكل خاص حين تتقيّد بالذاتية؛ فالموضوعيّ ينشأ غالباً من ظرف لا زمنيّ، أما الذاتية فتفيد من تأمل اللحظة الراهنة، ومداها البصري، لتعيد إنتاجها لغوياً. ويمكن ها هنا أن نشير إلى مثالين الأول لعلي ديوب الذي يشاهد ويكتب اللحظة، فيقول:
هطل المطر
من قلبي
تفوح رائحةُ التراب
والثاني لباسم قاسم، يخرج فيه من حدود الزمنية؛ لأنه مشغول بموضوع الموت، وخارج عن ذاته، باتجاه الآخر، ليرسم جرحاً لغوياً نازفاً، يقول فيه:
ببرودٍ كثلج العاصفة
"لن تتفسخ الجثث"
يطمئنني عامل الإغاثة
9ـ الإدهاش:
اتسمت نصوص الهايكو، في نماذجها الراقية، بقدرتها على إحداث الدهشة، من خلال إثارة الوعي الجمالي، غير أن علّة الإدهاش فيها عدم القدرة على الثبات؛ إذ تتسرب الزمنية إلى الأثر أيضاً، إلا حين يتعلّق الأمر بخروج الهايكو عن تحفيز الوعي الجمالي إلى تحفيز جرح إنساني عميق الغور، فهذا الهايكو للأخضر بركة:
يغطس في البحيرة
ولا يبتل،
ذلك القمر
لن يستطيع، على الرغم من إدهاشه وجماله، الاحتفاظ بأثره الجمالي لمدة طويلة من الزمن؛ وبالمقابل فإنّ نصّاً آخر لا يمكن أن يمحى من الذاكرة؛ لأنه ينكأ جراحاً عميقة، ومن أمثلة ذلك نص لأحمد قسيم الرفاعي، يقول فيه:
في المُعتَقَل
أثار أقدام السجين
أكبر من حِذائه
10ـ الجنوح إلى المتتاليات الهايكوية:
وهو ما يعني كتابة مجموعة نصوص تنتمي إلى الموضوع ذاته، وتتضافر فيما بينها؛ لتشكل انطباعاً موحداً، أو انطباعات متقاربة، وقد جرّب كثيرون كتابة هذه المتتاليات، ليس في الهايكو فقط، بل في قصيدة النثر، والقصة القصيرة جداً، والقصيدة القصيرة جداً، وغيرها. ويمكن أن نمثّل بمحمود الرّجبي الذي أصدر ديواناً كاملاً حول القدس، سبقت الإشارة إليه، وقمر عبد الرحمن التي أنتجت عدداً من هذه المتتاليات، نختار منها:
على عَجل-
أنجبت أم الشّهيد؛
طفلًا يشبه الشّهيد
على عَجل
-تغرب الشّمس سريعًا؛
الحياة قصيرة..
على عَجل-
أغفر لك خطاياك؛
حبّك أكبر..
على عَجل-
يكبرُ الجيل الفلسطيني؛
ويستمر النضال
(6)
لو أردتُ أن أبسّط الأمر على القارئ العربي الذي يريد كتابة الهايكو لقلت له: اكتب فكرة جميلة مركزة، ووزعها على ثلاثة أسطر، فإن سألني: ولماذا لا تكون أربعة؟ سأجيبه ببساطة: هكذا أراد اليابانيون، دون أن أوجع رأسي باحتمال علاقة مفترضة بين هذا النظام الثلاثي، وبين "الجواهر الثلاث" التي تقوم عليها البوذية ، وهي البيئة التي حضنت الهايكو ورعته واهتمت به، على يد معلمها العظيم باشو وغيره.
غير أنني لا أودّ تبسيط المسألة إلى هذا الحدّ؛ لأن القارئ مشغول بأسئلة كبرى حول خصائص هذه القصيدة، وهل تبقى شعراً حين يحاكيها العرب دون أن يحاكوا إيقاعها، خاصة بعد أن شقّ مبدعو الهايكو العرب عصا الطاعة على عز الدين المناصرة، ووضعوا عيناً على التجربة اليابانية، وعيناً على "قصيدة النثر"، فلم يلتزموا بإيقاع القصيدة العربية، وأنتجوا نصوصاً هجينة، بين الشعر والنثر، دون أن تفقتقر إلى سموّ الفكرة، وجمال اللغة، ودهشة الصورة.
إن نظرة بسيطة إلى الوراء تستفزّ في رأسي مجموعة من الأسئلة، بينما تسيطر قصيدة الهايكو وأخواتها على مخيلتي، لكثرة ما قرأت فيها وعنها في أثناء إعداد هذه الدراسة، وعلى رأس تلك الأسئلة البحث عن إعادة تصنيف لنصوص كثيرة جداً، كان قد أنتجها الأدباء في أزمنة مختلفة تحت عناوين قصيدة البيت الواحد والخاطرة وقصيدة النثر؛ سأتأمل قول الشنفرى التالي:
"وكفُّ فتى
لم يعرفِ السّلخَ قبلها
تجورُ يداهُ
في الإهابِ
وتخرجُ "
وهو بيت مفرد، يتحدث عن شخص يشبه ملايين الناس الذين يعملون في أعمال لا يتقنونها: إنه يحقق شرط التانكا الشكلي (الذي اقترحته بنفسي)، ويحيل على دلالة ومغزى، وربما منعت صعوبة مفرداته غير المألوفة لقارئي الصحف المستعجلين وصول فكرته؛ لذلك سألجأ لنص آخر لكاتب سوري معروف في مجال قصيدة النثر، هو رياض الصالح الحسين؛ لأسأل السؤال ذاته. يقول الحسين في نصّ عنوانه "الراية":
"انظروا إليه
انظروا إليه فقط
لقد تفسّخ جسده
منذ زمن بعيد
وما زال يحمل راية الحرية ".
هل كتب الشنفرى ورياض الصالح الحسين (التانكا) قبل أن يعرفاها، وهل كتب شمس الدين التبريزي (الهايكو) الذي يبحث بعض النقاد عن ظلاله الصوفية في تجربة باشو؟
أورد هنا ثلاثة نصوص للتبريزي، وما زال السؤال هو السؤال:
• لكل ليل قمر
حتى ذلك الليل
الذي بأعماقك
• نعتقد أنه يرانا من فوق
بينما هو يرانا
من الداخل.
• الصمت أيضا له صوت
لكنه بحاجة
إلى روح تفهمه
لقد أوردت هذه الأمثلة لأقول: إنّ المرء يصادف، إذا بحث بجدّ، ما يصلح أن يكون جذراً لفنون أدبية مختلفة، وهذا لا ينطبق على الهايكو والتانكا فحسب، بل على قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والقصيدة القصيرة جداً، وما على المُحدَثين سوى أن ينظّموا تجاربهم ويؤطروها نقدياً، وأن يكتبوا أعمالاً إبداعية تخلص للأطر التي انضووا تحتها، بعد أن كان بعضها منثوراً هنا وهناك، وأن يحددوا الفروق بين التداخلات المختلفة التي تثيرها، حتى لا يجد الهايكيون أنفسهم محرجين أمام قصيدة نثر تتألف من ثلاثة أسطر، وحتى لا يختلط الأمر على التانكيين حين يقفوا أمام خاطرة جميلة موزعة على خمسة أسطر.
يمكن أن أقول في النهاية: الهايكو ببساطة، فنّ كتابي جميل، ينتمي إلى الشعر في بيئته الأصلية، وينتمي إلى الشعر حين يتكيّف مع خصائصه في البيئات الأخرى، وتكمن مشكلته الأساسية في قصره الشديد، شأنه في ذلك شأن القصة القصيرة جداً والقصيدة القصيرة جداً، وكل أنواع الكتابة الشذرية؛ لأنّ هذا القصر يشجع الموهوبين وغير الموهوبين في طرق أبواب التجريب، لا سيما أنّ أبواب الفضاء الأزرق مشرّعة أمام كلّ إنتاج، وأن الإعجابات والتعليقات، أياً كانت ثقافة المعجبين والمعلقين، كافية لإقناع هؤلاء بأنهم يسيرون في طريق الإبداع.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
• الدراسة موثقة، وستنشر صحفياً مع مراجعها في وقت قريب.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى