جاكلين سلام - فن المحادثة والعيش في ظل التكنولوجيا ونظرية المفكر ثيودور زلدين

"أنا متعلق بالنظر في كيفية تحسين الحياة التي نعيشها. الذي نفتقده في هذا العالم، هو الإحساس بالجهات، إلى أين نحن ذاهبون. لأننا جميعا مثقلون بالنزعات المحيطة بنا، وكأننا نسير في غابة لا نهاية لها. أود لو أرى أحداً ما قد بدأ تلك المحادثة التي توجّهُ العتمة، تحقق المساواة، تعطينا اندفاعا، تمكننا من الانفتاح على الغرباء، تجعلنا نفهم أهمية أشغالنا، فلا نعود بعدها منعزلين داخل اختصاصاتنا. نحن لا نستطيع أن نعيد انتاج "النهضة" ثانية فالتاريخ لا يعيد نفسه ولكن بإمكاننا أن نبدع شيئا مثيلاً، ويناسبنا. وهذا ما أسميه المحادثة الجديدة" ثيودور زلدين
1
أثر التكنولوجيا في الحوار المعاصر
من خلال استعراض هذا الكتاب الذي بعنوان (محادثة) تطالعنا مشاكل شديدة الأهمية فيما يتعلق بتحولات المجتمع المعاصر وبعد تفشي انتشار الأدوات والاجهزة الالكترونية في الشرق كما في الغرب.
يعتبر ثيودور زلدين واحدا من أهم مائة مفكر في العالم، وأهم أربعين شخصية في القرن العشرين. حاز على شهرة واسعة في أمريكا واسعة بصورة خاصة بعد صدور كتبه التي تهتم بدراسة جوهر التاريخ الإنساني، حيث يسلط الضوء على تاريخ البشرية من خلال عمق المشاعر والعلاقات الشخصية. ويشار إليه بأنه أهم شخصية انكليزية في فرنسا، لأنه أنجز بحوثا وكتباً عديدة تعنى بدراسة التقاليد والعادات الفرنسية عبر التاريخ. وله حوارات واسعة واستضافات في الإعلام الفرنسي، وكتبه مترجمة إلى عدة لغات.
في هذا الكتاب عن "المحادثة" ودورها في إحداث تغيير في حياتنا، الغني بمعلوماته أفكاراً وتجارب، يأخذنا المفكر الإنكليزي البروفيسور ثيودور زلدين في جولة معرفية ممتعة وعميقة لنستكشف تغيرات مسار المحادثة في يومنا الراهن ومع دخول التكنولوجيا والكمبيوتر في حياة الأفراد والمجتمعات.
يقسم الكتاب إلى ستة فصول على النحور التالي:
- كيف يتغير موضوع الحديث في كل حقبة.
- حديث العشق، لماذا بدأ يتجه في مسار جديد.
- ما الذي ينقذ الحديث العائلي من السقوط في الملل والرتابة.
- المحادثة في مكان العمل: لماذا يتوجب على الإخصائيين أن يجدوا طريقة جديدة في الكلام.
- ما الذي تستطيع التكنولوجيا أن تفعله بالمحادثة.
- كيف تشجع المحادثة على التقاء العقول.
ثم يختم الكتاب ب 36 سؤالاً محرّضا على التفكير في هذه المواضيع. الكتاب مرفق برسومه التعبيرية المستوحاة من الحوار.
"جيد أن نتكلم" مقولة كانت رائجة ولكن من الأفضل أن نتحدث ونتبادل وجهات النظر والخبرات. فالمحادثة الحقيقية ترتقي إلى مقام الفن. والعيش المشترك أيضاً فن ينتعش ويثمر بالحديث، حسن الاستماع والتكلم بأسلوب يصيب الهدف دون أن يجرح الطرف الآخر، أو يجرده من اعتباره الذاتي.
2
محيط الأسرة والعمل
يكون العيش والتواصل غير مقتصر مقتصر على العلاقة بين المرأة والرجل في العائلة، بل يتعداه إلى العلاقة ما بين الوالدين والأولاد، بين العائلة والجيران، ما بين الفرد ومحيط العمل وشبكة العلاقات الرسمية والحميمة، ويتعداه إلى صيغ مختلفة من التواصل تحصل بدءا من الخروج من البيت مشياً، في سيارة، باص، دراجة، مترو، طائرة... وحتى الوصول إلى الموقع الآخر.
هذه الشبكة من العلاقات تفرض نمطا من أشكال التواصل ولها ابعادها الصحية النفسية والإجتماعية المتغيرة من عصر إلى آخر، من عقد إلى آخر، ومن بلد إلى آخر. ليس غريباً أن نجد وفق ماورد في هذا الكتاب بأن نسبة الطلاق في الأسر الأمريكية والإنكليزية يعود 50% منها إلى حنق المرأة وغضبها من زوجها أو شريكها الذي لا يتلكم، ولا يشبع رغباتها في سماع الكلمة المناسبة في الوقت المناسب.
3
تغير أماكن اللقاء في إطار العلاقات الشخصية
وقد لا نستغرب هذه الاشكالات حين نعلم، بأنه ما أن يلتقي شاب وشابة بقصد التعارف والإقدام على علاقة شخصية، يكون الذهاب الى السينما لمشاهدة فيلم هو النشاط الرئيسي الذي يحدث أو يقترح. انهم يفعلون ذلك، كي يكون هناك من يتحدث بدلاً عنهم. وحين تتطور العلاقة إلى بناء عش مشترك، لا تعود دور السينما ومشاهدة التلفزيون كافية ومقنعة. ومع الوقت يفتقد الطرفان هذا الجانب الحميم الذي يجعل من العيش المشترك فناً ومتعة وتبادلاً للخبرات والآراء.
نعم، لابد من أوقات للصمت والتأمل ومراجعة الذات وإلا لغدت الحياة الأسرية فادحة والعيش المشترك مصيبة. الحب والصداقة اليوم بحاجة لتجديد في اللغة والدور الذي تلعبه المرأة والرجل خارج نطاق "الستايل" التقليد الإجتماعي السائد.
يشير زلدين بأن القرن الخامس عشر أدخل على اللغة الانكليزية مفردة تخص علاقة " الصداقة"، بمعنى أن تتكرر اللقاءات بين المرأة والرجل وأن يصرفوا ساعات طويلة معا، يتحدثان خلالها عن معنى الطاعة والامتثال والقسم على عدم خيانة طرف لآخر.
سابقا، كان للرجل "الذكي" أن يقتحم قلب المرأة باستعراض قوته المادية والصحية ومقدرته في السيطرة عليها. بينما كانت المرأة في أغلب الحالات تلجأ إلى "السحر وقراءة الغيب" للحيازة على قلب الرجل ومنعه من التعلق بمرأة أخرى.
4
كما يطلعنا على أثر المحادثة على موضوع العشق والعلاقات من خلال صيغة الحديث بين العشاق في العصور الوسطى، وبالعودة إلى استشهادات أدبية عن وأسلوب المخاطبة في القصص والروايات والقصائد العالمية المحفوظة في الأرشيف
يقدم الكتاب شواهد من صيغ مختلفة من الحوار ظهرت في الحقبة الرومانسية من خلال لغة الشعراء والروايات وحاول الناس تقليدها ولكن قلة من استطاعوا الحياة الواقعية العيش بموجبها كما في الروايات وأقول أبطالها.
هل نجحنا في الحوار؟
يذهب المفكر زلدين للاستشهاد ببعض المقتطفات من أقوال كتاب وكاتبات شهيرات فيما يخص العلاقة بين الجنسين. ويرى بأن القرن العشرين للأسف لم يطور صيغا جيدة للحديث الراقي الودود. ويتطرق إلى الفشل في التواصل وأثره على أفراد الأسرة في فصل أخر من الكتاب حيث يعرض للعلاقة بين الأولاد والوالدين. يستشهد بشكوى شاب من أسرته إذ يشعر بأنه مغبون حين يجري أي حديث بينه وبين والديه، إذ يشعر بأنه أقل معرفة ووعياً. ورغم أن الأم محامية ومستشارة اخصائية فهي تفتقد فن المحادثة الحميمة مع أفراد أسرتها. هذا الفشل في التواصل الأسري اليوم قد يكون مرده وجود وسائل الترفيه في البيت كالتلفزيون الذي يستهلك الوقت ويقلص من الحديث واللعب والمتعة التي صارت مستمدة أحيانا كثيرة من الكمبيوتر والألعاب التكنولوجية الأخرى التي تغزو البيوت والعقول وبخاصة جيل الشباب والمراهقين.
ولكن هذا لا يجعلنا ننسى بأن الآباء في الشرق قبل انتشار التكنولوجيا والشبكات الالكترونية كانوا يذهبون إلى المقهى للحديث مع رفاقهم والتسلية، ثم يعودون إلى البيت كي يصمتوا أو يصدروا الأوامر، يأكلوا، وينجبوا الأطفال في بيوت تخلو من الرومانسية والندية.
5
تحدثوا وأنتم حول المائدة
الكتاب يركّز أيضا على متعة وأهيمة الوقت المخصص للطعام. اذ هناك فارق ما بين الأكل لسد جوع المعدة، وما بين متعة الوقت حول المائدة الذي يترافق مع أحاديث خاصة تصبح بمثابة مشاركة للطبيعة في عملية العطاء والأخذ. وفي بعض المجتمعات كان هناك تقليد باستدعاء ضيوف عابرين وغرباء كلما سنحت الفرصة وذلك لجعل الحديث حول المائدة ممتعا وشهياً ويفتح الأفق على معرفة الآخرين.
ونجد أيضاً أن أفضل أشكال المحادثات قوة وإبداعا تكون باللقاء بين أشخاص يعملون في حقول واهتمامات غير متماثلة. فتكون كل محادثة بينهم إضافة معرفية تخلق أفكاراً جديدة.
وهذا ما كان يفعله أحد أساتذة الفلسفة. كان البروفيسور المختص بالفلسفة "صامتاً" لكنه كان يستمتع بدعوة عدد من الطلاب للحديث وبينهم مؤلف هذا الكتاب، يستقبلهم بمودة شديدة ويدعهم يتحدثون حسب حقولهم المعرفية، إلى أن أتوا ذات يوم إلى بيته ووجدوا ملاحظة على الباب تشير بأنه انتحر بواسطة قنينة الغاز.
ربما لأنه أخفق في الوصول إلى "النموذج" الذي وضعه لنفسه. وربما قتله الصمت!
6
ما الآلة التي تريد أن تخترعها كي تغير حياتك؟
عن أثر التكنولوجيا على المحادثة العصرية يدعونا المفكر ثيودور زلدين للتفكير في هذا السؤال: لو كان لك أن تخترع آلة جديدة تغير حياتك، ما هذه الآلة التي ستخترعها؟
يركز على أهمية أن تساعد هذه الآلة على تغيير حياتك الشخصية إلى الأفضل وتحقيق ذاتك من خلالها. يشرح رأيه متطرقا إلى أسلوب المحادثة التي تغيرت في حقبة اختراع المحركات البخارية والتي كانت ثورة في الموصلات والتصنيع.
وكان لاختراع القطارات أثر على خلق صيغة جديدة من الحوار. البعض كرهه، والبعض تحدث عنه بشيء من الغنائية واعتبره فرصة للاختلاط وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. تصميم المقاعد والمقصورات ايضاً كان له تأثيره على المحادثة. هناك الكراسي المتقابلة التي تجبر المسافرين على التعارف والحديث، وهناك المقطورات الخاصة التي تعزل النخبة والأعيان عن العامة. تقسيم طبقي واضح.
يقول السوسيولوجي زلدين" قبل أن يتم اختراع القطارات والباصات في القرن 19 ، لم يكن باستطاعة الإنسان أن يقف قبالة آخر غريب لدقائق دون أن يبدأ حديثاً معه. وكما نلاحظ اليوم، يمكن أن نسافر ساعات طويلة في مقعد ملاصق لمقعد شخص آخر، ويسافر معنا الصمت أميالا وبحارا ومحيطات. وهناك أحيانا من يباشر حديثاً مع جاره، لا يتعدى الابتسامة المجاملة وكلمات "عفوا، لو سمحت، شكرا".
بخصوص السؤال عن الآلة التي ستغير حياتنا نابع من الرغبة في ابتكار أسلوب حوار جديد منفتح على الاختلاف يخلص إلى القول "من خلال دراستي لتاريخ التكنولوجيا، وجدت أنها تعاملت مع الإخفاق والفشل بحساسية، أكثر من حساسية سياسيينا، وحساسيتنا في حياتنا الخاصة، ربما لإن الفشل محسوب من قبل المهندسين، وهم يعرفون أن من الاستحالة تصميم طائرة دون احتمال السقوط. التكنولوجيا توفر لنا نموذجا يمكننا أن نقتدي به، وأن نسعى لابتكار محادثة لها المقدرة على التعامل مع الفشل والسقوط" ص83.
في هذه الفصول الستة من المحادثات وملابساتها، نستطيع أن نقرأ التأثير السلبي للتخصص، والتأثير السلبي لوسائل الترفيه التكنولوجية التي تحتل أدمغة الصغار والكبار إن لم يتم التركيز على أهمية الوقت وكيفية استثماره روحياً ونفسياً واجتماعياً.
يقول زلدين: يقول زلدين: " أنا متعلق بالنظر في كيفية تحسين الحياة التي نعيشها. الذي نفتقده في هذا العالم، هو الإحساس بالجهات، إلى أين نحن ذاهبون. لأننا جميعا مثقلون بالنزعات المحيطة بنا، وكأننا نسير في غابة لا نهاية لها. أود لو أرى أحداً ما قد بدأ تلك المحادثة التي توجّهُ العتمة، تحقق المساواة، تعطينا اندفاعا، تمكننا من الانفتاح على الغرباء، تجعلنا نفهم أهمية أشغالنا، فلا نعود بعدها منعزلين داخل اختصاصاتنا. نحن لا نستطيع أن نعيد انتاج "النهضة" ثانية فالتاريخ لا يعيد نفسه ولكن بإمكاننا أن نبدع شيئا مثيلاً، ويناسبنا. وهذا ما أسميه المحادثة الجديدة" ص 97
7
المسافة بين المتحاورين في الشرق والغرب
بخصوص المسافة بين متحاورين عرب وأوربيين يشير زلدين بأنه لاحظ من خلال أسفاره الطويلة أن المسافة بين متحدثين عرب، تكون قريبة جداً، بينما يعتبر الأمريكي أن الاقتراب الشديد من الاخر أثناء الحديث، عدم لباقة. ويتطرق إلى "مستويات اللغة" واختلافها بين حلقة(طبقة) اجتماعية وأخرى. الخطاب والحوار يخضع لتقسيمات سوسولوجية عميقة، فهناك حديث سائقي السيارات، هناك التراتبية الهرمية البطريركية الجندرية والجنسية والطبقية والدينية وهذه قابلة للتغير عبر الزمان والمكان وطبيعة السلطة في كل موقع.
(محادثة) كتاب يدعو للتأمل في طريقة عيشنا كل ساعة من النهار، ويشدد على صيغة الحوار المتمدن النابذ للعنف والانتقام وكره الآخر.
8
ختاما أقول، كلنا نكاد نشعر بالخوف من تداعيات غياب المحادثة المعقولة القائمة على الندية والحرية في التعبير دون سحق الآخر والاعتداء على شخصه لمجرد الاختلاف مع فكره أو وجهة نظره فيما يخص أساسيات الحياة الشخصية والمعرفية، بما في ذلك العقيدة والمعتقد والتفكير الحر خارج كل الأطر الجاهزة.
وهذا ينسحب على العلاقات بين أفراد الأسرة، الزملاء في محيط العمل، بين الأصدقاء في الفضاء الالكتروني. أعتقد ومن ملاحظتي لما وصلنا إليه اليوم وفي العقد الثاني من القرن 21، ومن خلال إدمان الكبار والصغار على التحادث عن بعد، التعلم والدراسة والحوارعن بعد، الخصام والعراك عن قرب وبعد، بأنه لا بد أن "تتمخض وتلد" هذه التكنولوجيا أخلاقا ولغة موازية ومشتركة يمكننا أن نتفاهم من خلالها. وإذا عجزنا في حفظ مساحة الإنسانية بيننا، حينها سننعي أنفسنا ونعترف بموت الكلمة.
"في البدء كانت الكلمة" التي تحتاج الى أذن وقلب يسمع ويدرك عن قرب وبعد. ونأمل أن تبقى للكلمة الغلبة بدل تطور أدوات ولغات الحرب والعنف.
وهذا يذكرني بما قرأت مرة للكاتبة الكندية مارغريت وترجمته إذ تقول" تبدأ الحرب حين تفشل اللغة"
Book title: Conversation, published:1998
Author: Theodore Zeldin


جاكلين سلام- كندا



تجدون المزيد من الكتابات لجاكلين سلام على المدونة
www.jacquelinesalamwritings.blogspot.com

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى