أ. د. لطفي منصور - مَعَ امْرِئِ الْقَيْسِ في قَصِيدَةٍ لَهُ:

قَصيدةٌ جَميلَةٌ لِامْرِئِ لا يَعْرِفُها الْكَثيرُونَ، كانَ لَها أَثَرٌ كَبيرٌ عَلَى شُعَراءَ بَعْدَهْ، خاصَّةً في الْعَصْر ِ الْعَبّاسِيِّ الأَوَّلِ.
تَصِفُ الْقَصيدَةُ صَيّادًا رامِيًا مِنْ بَنِ ثُعَلٍ، وهُمْ قَوْمٌ مِنْ قَبيلَةِ طَيِّئَ الْيَمَنِيِّينَ، سَكَنُوا جَبَلَيْ أَجَإٍ وَسَلْمَى في هَضَبَةِ نَجْدٍ. وَلِطَيِّءَ يَنْتَسِبُ حاتَمٌ الطّائِيُّ، وَالشّاعًِرانِ الطّائِيّانِ أبو تَمّامٍ والْبُحْتُرِيُّ وَكَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ والْفُقَهاءِ والشُّعَراءِ، وَقَدْ نَزَحَ مِنْهُمْ قَبائِلُ كَثِيرَةٌ إلَى الأَنْدَلُسِ بَعْدَ الْفُتُوحِ الْعَرَبِيََةِ.
تَضُمُّ الْقَصيدَةُ أَحَدَ عَشَرَ بَيْتًا، نَظَمَها امْرُؤُ الْقيسِ عَلَى بَحْرِ الْمَدِيدِ، قَبْلَ أنْ يُعْرَفَ عِلْمُ الْعَروضِ عَلَى يَدِ الْخليلِ بنِ أَحْمَدَ الْفَراهِيدِيِّ (ت١٧٥هج). يَقولُ الْمَلِكُ الضِّلِّيلُ:
- رُبَّ رامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ
مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ
(الْقُتَرُ: بُيوتُ الصّائِدِ يَكْمُنُ بِها لِلصَّيْدِ، وَمُتْلِجٌ كَفَّيْهِ: يُدْخِلُهُما في داخِلِ الْبُيوتِ لِكَيْ لا يُنَفِّرَ الصَّيْدَ)
- عارِضٍ زَوْراءَ مِنْ نَشَمٍ
غَيْرَ باناةٍ عَلَى وَتَرِهْ
( العارِضُ الذي يُمْسِكَ الْقَوْسَ بِالْعَرْض، وليسَ بِالطُّولِ، الزَّوْراء: الْقَوْسُ لِأَنَّها مُنْحَنِيَةٌ، النَّشَمُ: نَوْعٌ مِنَ الشَّجَرِ تُتَّخَذُ مِنْهُ الْقِسِيُّ، باناةٌ: بايِنَةٌ بِلُغَةِ طَيِّءَ، عَلَى: عَنْ. يُريدُ أَنَّ سَهْمَ الصّائدِ مُلْصَقٌ بِكَبِدِ الْقَوْس ليَكونَ أَشَدَّ)
- فَأَتَتْهُ الْوُحُوشُ وارِدَةً
فَتَمَتَّى النَّزْعَ في يَسَرِهْ
(الضَّميرُ في أَتَتْهُ يَعودُ إلَى الصَّيّادِ، الْوُحُوشُ: حَيواناتُ الصَّيْد الْعاشِبَةُ، وَغَيْرُها السِّباعُ اللّاحِمَةُ، الواردة: القادِمَةُ لِلشُّرْبِ، تَمَتَّى: مِنْ مَتَّ أَيْ شَدَّ وَتَرَ الْقَوْسِ، وَمِثْلُهُ مَطَّ وَمَدَّ، الْيَسَرُ : قَتْلُ القََيدِ الْمُواجِهِ المُقابل لِلْوَجْهْ)
- فَرَماها في فَرائِصِها
مَنْ إزاءِ الْحَوْضِ أَوْ عُقُرِهْ
( الْفَريصَةُ: الْعُضْوُ في مَرُجِعِ الْكَتِفِ يَرْتَعِدُ عِنْدَ الْفَزَعِ، الإزاءُ: مَصَبُّ الماءِ في الْحَوْضِ ، عُقْرُهُ: مكانُ الشّارِبَةِ مِنَ الْحَوْضِ)
- بِرَهيشٍ مِنْ كِنانَتِهِ
كَتَلَظِّي الْجَمْرِ في شَرَرِهْ
( الرَّهِيشُ: السَّهْمُ الضّامِرُ الْخَفيفُ، يَتَوَهَّجُ كَشَّرَرِ الْجَمْرِ)
- راشَهُ مِنْ ريشِ ناهِضَةٍ
ثُمَّ أَمْهاهُ عَلَى حَجَرِهْ
( راشَ السَّهْمَ: رَكَّبَ في عَقِبِهِ رِيشًا لِغَرَضَينِ الأوَّلُ يُساعِدُ في دِقَّةِ الإصابَةِ، والثّاني لِيُعْرَفَ مَوْقِعُهُ فَيُؤْخَذَ، النّاهِضُ: الْفَرْخُ أوَّلُ طَيَرانِهِ لِريشِهِ النّاعِم، أَمْهاهُ: سَنَّهُ بِالْحَجَرَ لِيُصْبِحَ حادَّا)
- فَهُوَ لا تَنمِي رَمِيَّتُهُ
ما لَهُ، لا عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ
(تَنْمِي رَمِيَّتُهُ: تَذْهَبُ بِالسَّهْمِ، وَالرَّمِيَّةُ: ما يُرْمَى مِنَ الصَّيْدِ. يُريدُ أنَّ سَهْمَهُ قاتِلٌ، لا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ: دُعاءُ التَّعَجُّبِ والتَّحَبُّبِ، كما تَقولُ: قاتَلَهُ اللَّهُ مِنْ فارِسٍ!!)
إلَى هُنا يَنْتَهِي وصْفُ الصَّائِدِ والصَّيْدِ، ثُمَّ يَنتَقِلُ الشّاعِرُ إلَى ذِكْرِ الصَّديقِ وابْنِ عَمٍّ لَه:
- وَخَليلٍ قَدْ أُصاحِبُه.
ثُمَّ أَبْكِي عَلَى أَثَرِهْ
( الواوُ وَاوُ رُبَّ. يَجوزُ هُنا مَعنَيانِ - وَبِهذا أخْرُجُ عن شَرْحِ الْقُدَماءِ - الأَوَّلُ،وهو رَأْيي، أنَّ الشّاعِرَ لَمْ يَهْنَأْ بِصُحْبَةِ خليلِهِ، فَسَرْعانَ ما حانَ أجَلُهُ فَبَكاهُ.
المعنَى الثّاني، وَهُوَ البَعيدُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ أبو سَعيدٍ السُّكَّرِيُّ (ت٢٧٥هج) إنَّ هذا الخليلَ لَيْسَ بِأَهْلٍ أنْ يَذْكُرَهُ)
- وَابْنُ عَمٍّ قَدْ تَرَكْتُ لَهْ
صَفْوَ ماءِ الْحَوْضِ عَنْ كَدَرِهْ
(أيْ تَفَضَّلَ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ، وآثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، عِفَّةً مِنَ الشّاعِرِ)
- وَحَدِيثِ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنًا
وَحَدِيثٍ ما عَلَى قِصَرِهْ
( اخْتَلَفَ الشُّرّاحُ وهُمُ الأصْمَعِيُّ والسُّكَّرِيُّ وَأَبو عُبَيْدَةَ في شَرٍحِ هذا البيْتِ، وَكَلامُهُمْ غَيْرُ مُقْنِعٍ. أمّا رَأْيِي وهذا من حَقِّي إنّ مكانَ البيتِ بعدَ البيتِ الذي يَبْدَأُ بِ "وَخليلٍ"، وَحَديثٍ مَعْطوفَةٌ عَلَى واو رُبَّ. يتَحَدَّثُ الشّاعِرُ عَنْ أَدَبِهِ وعِفَّتِهِ فيقولُ: لم أشارِكُ الرَّكْبَ في حديثِهِمْ يَوْمَ هُنًا وهو اسمُ مكان، طالَ الْحَديثُ أمْ قَصُرَ)
- وابْنُ عَمٍَ قَدْ فُجِعْتُ بِهِ
مِثْلُ ضَوْءِ الْبَدْرِ في غُرَرِهْ
(غُرَرُ الْبَدْرِ: بياضُهً. يَصِفُ وَجْهَ ابنِ عَمِّهِ الذي فَقَدَهُ. وَلِلْكَلامِ تَتِمَّةٌ لا بُدَّ أنَّها سَقَطَتْ، وَعِنْدَنا قَرائِنُ مِثْلُها كما يَقول الزَّبيدِيُّ:
كَمْ مِنْ أَخٍ لي صالِحٍ
بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
ما إنْ جَزِعْتُ وَلا هَلِعْتُ
وَلا يَرُدُّ بُكايَ زَنْدا
وَقَدْ عارَضَ قَصيدَةَ امْرِئِ الْقَيْسِ هَذِهِ شُعَراءُ كَثيرونَ لِعُذوبَةِ ألفاظِها وَخِفَّةِ وَزْنِها. منهم الشّاعِرُ عَلِيُّ بنُ جَبَلَةَ المعروفُ بِالْعَكَوَّك، قالَ يَمْدَحُ الْوَزيرَ أبا دُلَفِ:
يا دَواءَ الأرضِ إنْ فَسَدَتْ
وَبَديلَ الْيُسْرِ مِنْ عُسُرِهْ
كُلُّ مَنْ في الأرْضِ مِنْ عَرَبٍ
بَيْنَ باديهِ إلَى حَضَرِهْ
مُسْتَعيرٌ مِنْكَ مَنْقَبَةً
يَكْتَسيها يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ
وَيَقولُ أبو نُواسٍ:
أَيُّها الْمُنْتابُ عَنْ عَفَرِهْ
لَسْتَ مِنْ لَيْلِي وَلا سَمَرِهْ
لا أَذودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ
قَدْ بَلَوْتُ الْمُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ
إلَى هُنا.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى