د. بوزيد الغلى - اشتغال التراث في الرواية المغربية: نماذج وتجليات

لم يقتصر الخطاب حول التراث و الموقف منه على دائرة المفكرين المغاربة المعاصرين كالجابري و العروي وطه عبد الرحمان ، بل شكلّ التراث بمختلف تجلياته موضوع انهمام كثير من الروائيين المغاربة منذ وقت مبكر ، فباكورة " الرواية النسوية " التي دشنتها الراحلة أمينة اللوه ، لم تكن سوى نبش في ذاكرة تراث " الملكة خناثة" زوجة الملك المولى إسماعيل البيضانية التي بلغت بعلمها و قوة شكيمتها ما بلغته قبلها ملكة مراكش ، زينب النفزاوية ، التي خصصت لها الروائية زكية داود إحدى رواياتها المترجمة منذ سنوات قليلة من الفرنسية إلى لغة الضاد من قبل الأستاذ " هيبتن الحيرش" الذي أكد أن الرواية تستمد أهميتها من " من كونها تسلط الضوء على شخصيات مغربية معروفة من بينها يوسف بن تاشفين، المعتمد بن عبّاد، عبد الله بن ياسين،.. كما أنّها ستشكّل فرصة للقارئ العربي حتى يقترب من مغرب القرن الخامس الهجري في بساطته وتعقيده" .
و يقودنا الكلام عن هاتين الروايتين اللتين صهرتا " التاريخي و التخييلي" في سبيكة سردية واحدة ، إلى استحضار تصنيف الباحث أحمد اليبوري طرائق توظيف الرواية المغربية للتراث كما يلي :
ـ توظيف معجمي ومقطعي
ـ توظيف سيري بطولي
ـ توظيف أسطوري
ـ توظيف تاريخي .
و غير خاف ، أن هذا التصنيف يجمل كثيرا من صيغ توظيف التراث داخل نسيج الرواية المغربية ، فمن تحت معطف " التوظيف التاريخي " ، خرجت أعمال مبنية على أنماط مستجدة من التخييل ، كالتخييل العرفاني الذي اجترحه الروائي المغربي عبد الله بن عرفة ، وهو مختلف عن نظيره الصوفي ، كما أن توظيف التراث الشعبي في الرواية اتخذ مناحٍ مختلفة تتراوح بين امتصاص نصوص شعبية (التناص) ، أو استدعائها (حكاية الحكاية داخل الروايات ).
اشتغال " التاريخي " في الرواية المغربية (نماذج و تجليات)
لاحظ الناقد المغربي سعيد علوش في كتابه عنف المتخيل في أعمال إميل حبيبي أن " الحاجة الموضوعية للتعبير هي ما جعل كتاب أمريكا اللاتينية – كارلوس فونتيس و غابرييل غارسيا ماركيز و بورخيس- يشعرون كما يشعر إميل حبيبي بأن الكتابة الروائية تمثل تعويضا للتاريخ ، لأنها تقول ما يمتنع التاريخ عن قوله ، كما يعبر عن ذلك فونتيس" ، فالرواية بما تتيحه للسارد من حرية تعبير و سعة تخييل ، تمكن الكاتب من ملء الفراغات و الثقوب التي تتركها طروس التاريخ ، ومن هذا المنطلق ، بادر بنسالم حميش إلى استعادة سيرة ابن خلدون و أحداث عصره في روايته الشهيرة " العلاّمة " ، كما عمل موليم لعروسي على استعادة أحداث مفصلية من تاريخ المغرب (ق17 و ق18) معتمدا نصوصا من " الإستقصا في أخبار المغرب الأقصى " اندغمت في نسيج النص الروائي عبر التضمين الذي لا يفسد الإيقاع الداخلي و انسياب الأحداث التي تجلو جانبا من التفكير الذي كان سائدا آنئذ بالبلد (الاعتقاد بكرامات الأولياء : سيدي رحال البودالي و سيد أحمد لعروسي) .
و غير خاف أن اشتغال " التاريخي " في الروايتين السابقتين ، يتراوح بين تناول سيرة العلامة ابن خلدون و تقلبات حياته بين الفكر و السياسة ، و تناول حقبة مفصلية من تاريخ المغرب وصفها الكاتب في أحد حواراته بالمرحلة التي أدار المغرب خلالها ظهره للحداثة الأوروبية ،أما مؤلف رواية " صبي من إفران" التي نقلها عن العبرية الدكتور عبد الرحيم حيمد ، فقد ابتعث من رفات الماضي حكايةَ جلاء كثير من اليهود عن قرية " إفران الأطلس الصغير " التي يعتبرونها " أورشليم الصغرى ، متوكئاً في بناء نصه على روايات شفوية تعضدها رواية المؤرخ محمد المختار السوسي الذي أثبت في " المعسول" واقعة إحراق اليهود على يد المتمرد " بوحلاس " بعد رفضهم تغيير ديانتهم ، و لقد " كبر صبي إفران بن مخلوف ، و حقق آمال أمه ، و أصبح من حملة علم اليهودية وعلوم العصر في لندن، و شيد بيوت علم في الصويرة و في غيرها ،و ما كان هذا الطفل إلا الجد الخامس للمؤلف أشر كنافو الذي أثث قصته بكثير من (..) من الإشارات إلى الموروث اليهودي التلمودي و الأشعار الدينية التي اشتهر بها يهود المغرب" .
التخييل العرفاني و استثمار التراث :
إن الوعي بالتراث و غزارة مكنوناته و أسرار نصوصه ، قد أوزع الروائي عبد الإلاه ابن عرفة أن يقلّب النظر في كثير من سير العارفين كابن عربي و الغزالي بطريقة مختلفة عما درج النقاد على تسميته بالتخييل التاريخي السالف الذكر ، إذ أن التخييل العرفاني الذي يؤثله ابن عرفة يوسع دائرة التأويل ، فقد اختار الحروف عناوينَ و عتبات لأعماله مثل : قاف ، بلاد صاد ...، ذلك أن " الحروف في الخيال العرفاني سر الوجود في العالم ، كما تشكل في المتخيل السردي سر كل مكونات العالم الروائي ؛ فعن طاقتها الروحية تتناسل كل عناصر الحكاية و الخطاب " ، ففي روايته " الحواميم" التي اشتق عنوانها من فواتح السورالمبدوءة ة بالحروف المقطعة (حم)، نكتشف جدلية الحياة و الموت في قصة الموريكسيين المرحّلين قسرا إلى المغرب ، إذ تنتصر إرادة الحياة على حِمام الموت ، و ليس سراً أن " شخوص الرواية و أسماءها و حواراتها تترجم هذا الصراع المستمر بين الموت و الحياة لبناء الحضور و المعنى " على حد تعبير الكاتب .
توظيف التراث الشعبي في الرواية المغربية :
تتعدد مستويات و مظاهر توظيف الروائيين المغاربة للتراث الشعبي ، و يمكن أن نميز بين مستويين هما : توظيف مقطعي و معجمي ، و توظيف بؤري.
توظيف مقطعي و معجمي
بث مؤلف رواية " تغريبة العبدي " بين تضاعيفها عدة مقاطع و وحدات معجمية من التراث الشعبي المغربي من قبيل :
-كنت كثيراً ما أسمع هاتفا يصلني على نحو مشابه لصوت " الكَصبة" (يقصد بها تلك الآلة الموسيقية عند فرق حمادشة و عيساوة ، والتي يشبه عزفها العويل و النحيب ، وغالبا ما تصاحب الجذبة و الزار لإخراج الجن و الأرواح الشريرة ) .
-كنا نربض بجنبات الضاية نتملى في البنات و النساء ، وهن يطفن بالنخلة ، ويشبتن بجذعها طلبا لحسن الطالع و طرداً لسوء الطالع ، وهو العْكوس" (شاعت أسطورة عن تحول بحرية " زيما" ، حيث يجثم قبرها أسفل نخلة ناطحت بسعفها السماء) .
- جاء الرقاص ليخبر بذلك (الرقاص ناقل البريد في الاصطلا المغربي الاندلسي ... و الكلمة مستمدة من الأمازيغية (أرقاص) .
توظيف بؤري :
وظف روائيون مغاربة السير الشعبية و الحكايات العجيبة و الأساطير في أعمالهم الروائية بشكل بؤري ، لا يهدف إلى إعادة إنتاج نص بديل للنص الشفهي الأصلي ، بقدر ما يهدف إلى توظيف ما يتيحه النص من إمكانات لنسج نص روائي يستوحي من النص الشفهي و يتجاوز حدوده إلى نقد واقع " مجتمع يصارع الانفصام " ، كما فعل مصطفى لغتيري في روايته عائشة القديسة المستوحاة من الأسطورة الشعبية ( عيشة قنديشة ) ، أما الروائي أحمد التوفيق ، فقد جعل من خرافة شعبية جميلة تتعلق بالقمر و شجيرة الحناء سدى نسيج روايته التي تزخر بالتراث الشعبي المغربي أزجالا و طقوسا و أسماء شخصيات ( همّو ، علاّ، السالمة ، اليهودي المغربي باروخ ...) وأدوارها التي تنقل إلى ساحة السرد الصراع من أجل النفوذ و المال داخل المجتمع المغربي " التقليدي" و دور السحر و البخور و المجاذيب في تكثيف و ترسيخ المعتقدات الشعبية التي تنثال من بؤرة "أسطورة القمر و شجيرة الحناء" ؛ ففي سبيل تأمين شفاء (كيما) من مرضها ، تقترح عليها " جامّو " أن تضع في صحن الدار إناء من الماء في ليلة اكتمال البدر ، كي تعمل على إنزاله !، فتقف جامّو على مرفع ، وعلى يمينها ثلاث خادمات ، و على يسارها ثلاث أخريات ، و تشرع في ترديد أزجال تتوسل فيها إلى القمر لكي ينزل ، و يشرب من ذلك الماء :
آ الكَمرا نزْلي نزْلي = هذا وجهك فلْعنَا
آ نَجْمَا حنّي حنّي = هذي للالة فْمَحْنَا .
و رغم أن الرواية تظهر وجه الصراع بين " القايد" و خصومه ، وما جرى من مكايدات شارك فيها اليهودي باروخ ، فإن الجميل في الرواية أنها حملت إلى القارئ العربي كثيرا من مفردات الحياة في الأحياء الشعبية و القرى المغربية ، حيث يُرى المجاديب ، وتجري على ألسنتهم الحقائق المكتومة ، و تتعايش عدة مهن مثل حرفة " نقاشات الحناء" (نقش الرسوم بالحناء على الأيدي) و الحظارات (المغنيات الشعبيات) اللاتي التقطت إحداهن قولةً من فم القايد ، فغنتها ، فلما غنتها لزمها أن تزيد عليها بمقتضى الأعراف ، فقالت ، وهي تنظر إلى السالمة :
السهول تسقيها لجبال /// و الزين يغلب
و الرموش تجردها الغزال /// كِيسِيفْ الحرب


* منشورة منذ سنوات في مجلة تراث الرائدة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى