إبراهيم عبد القادر المازني - حلاق القرية

وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة, قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قراه, وكنت أنا الجاني على نفسي فيها, فقد عرض علي مضيفي أن استعمل موساه فأبيت, وقلت ما دام للقرية حلاق فعليَّ به, فحذرني مضيفي وأنذرني ووعظني, ولكني ركبت رأسي وأصررت أن يجيء الحلاق. فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر (مخلاة شعير) وسلم وقعد وشرع يحييني ويحادثني حتى شككت في أمره واعتقدت أن الحلاق شخص آخر, وأن هذا الجالس أمامي ليس سوى (طلائعه) ولما عيل صبري سألته عن حلاق القرية, فابتسم ومشط لحيته بكفه وأنبأني أن الحلاق (محسوبي) يعني نفسه, فلعنته في سري وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولا ويحسب الطالع قبل أن يباشر العمل؟ فلم يفهم وأولاني صدغا كث الشعر وقال "هيا" فظننته أصم وصحت به (أ.. ر.. يد أن… أ.. ح. ل ق) فسره صياحي جداً, وضحك كثيراً, وأقبل على (مخلاته) فأخرج منها مقصاً كبيراً جداً, فدنوت من أذنه وسألته هل في القرية فيل؟
فقال لي: فيل؟ لماذا؟
فأشرت إلى المقص فضحك وقال: "هذا مقص حمير ولا مؤاخذة."
فقلت "ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحماراً تراني؟"

ويظهر أن معاشرة الحمير بلدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبئ بسؤالي شيئاً, ثم أخرج موسى من طراز المقص و(مكنة) من هذا القبيل أيضاً, فعجبت له لماذا يجيء إلي بكل أدوات الحمير؟ وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين. وبعد أن أفرغ مخلاته كلها انتقى أصغر الأدوات, وأصغرها أكبر ما رأيت في حياتي. ثم أقبل علي وقال: "تفضل."
قلت "ماذا تعني؟"
قال " اجلس على الأرض"
قلت " ولماذا بالله؟"
قال " ألا تريد أن تحلق؟"
قلت " ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟"
قال " وأنا؟"
قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير.
وهبطت إلى الأرض كما أمر, ففتح موسى كالمبرد, فقلت: إن وجهي ليس حديداً يا هذا, قال لا تخف إن شاء الله ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول "بسم الله, الله أكبر" كأنما كنت خروفاً, ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته, ثم جذب رأسي, فذعرت ونفرت ووليت هاربا إلى أقصى الغرفة, فقال: ماذا؟
قلت "ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمبرد, ومن غير صابون؟"
قال "ماذا يخيفك؟"
قلت "يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتبرد لي شعرها.
قال " يافندي لا تخف."
ثم قرأ من الكتاب الكريم "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى." إلى آخر الآية الشريفة, وأظنه أراد أن يرقيني بها فيا لها من حلاقة لا تكون إلا برقية!

وأسلمت أمري لله وعدت فقعدت أمامه, فنهض على ركبتيه وتناول رأسي بين كفيه وأمال صدغي إليه ثم وضع ركبته على فخذي ولف ذراعه حول عنقي, فصار فمي مدفوناً في صدره فصحت أو على الأصح جاهدت أريد الصياح لعل أحداً يسمعني فينجدني, غير أن طيات ثوبه كانت في فمي, أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتني الوعي.

ولا أطيل على القارئ. فقد أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة, وأتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة, ووثبت أريد الباب ولكنه كان على كبر سنه أسرع مني, وما يدريني لعله كان يتوقع ذلك, وعسى أن يكون المران قد علمه أن يكون يقظا لأمثال هذه المحاورات, فردني بقوة ساعده. فتشهدت وتذكرت قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا

كلا سأسدل الستار على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة. ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش, ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري, ليغسل الدم الذكي الذي أراقه, وأخرج من مخلاته (منشفة) هي بممسحة الأرض أشبه, فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته بد إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجلدي منها ندوب وآثار.




إبراهيم عبد القادر المازني
أعلى