1 - قهوة نيو امبريال
كنت أجلس في قهوة " نيو امبريال " الملاصقة لفندق سيسل العريق مع حلمي مظهر و" على فلة "، لم أكن سعيدا فقد تضافرت المشاكل والهموم، فكما يقول المتنبي: " المصائب لا تأتي فرادى ".
زميلنا الرابع الدكتور " محمد بسيوني " لم يأت للآن. دار الحديث الثقيل في كل الأشياء. تحدث " على " عن حلقات محمد حسنين هيكل التي تذاع في قناة الجزيرة، وقال حلمي كلاما لا أذكره الآن.
لقد سافر حلمي إلى القاهرة منذ أيام وأحضر معه " شيكا " لي عن قصة منشورة بمجلة الثقافة الجديدة، وشيكات له ولـعلي. وتقابلنا في البنك المركزي. الشجن يلاحقني، خطواتي ثقيلة وبطيئة.
كان الاتفاق أن نجلس في القهوة ونقابل الدكتور محمد بسيوني.
قبل أن يأتي الساقي بالطلبات قلت لهما عن المقالة التي نقلتها عن " النت " والتي تحذر من شرب المياه الغازية، وإنها تضر بالجسم أكثر من تدخين السجائر، لكن " عليا "طلب سفن أب لأن اللقمة واقفة في زوره.
صديقنا الدكتور " محمد بسيوني " رجل طيب، حاصل على الماجستير والدكتوراة في شاعر ومسرحي كبير لكنه لم يجد في آخر أيامه ألا أن يكتب الأغاني التي لا يهتم بها أحد من الموسيقيين أو المغنيين. تحدثنا عن الدكتور بشيء من الشفقة عليه.
ذكر حلمي بأنه ألف أغنية عن حج بيت الله وتذاع في إذاعة الكويت، لكنه لم يسمعها ولا يعرف من الذي يغنيها، أو الذي لحنها، كل ما يعرفه أن إذاعة الكويت دفعت له ثمنها منذ أكثر من عشرين عاما. قلت له:
- قل هذا للدكتور محمد بسيوني عندما يأتي.
جاء الدكتور محمد مبتسما – كعادته – وقابلنا بالقبلات والتحيات.
هو يتابع الجرائد والمجلات والكتب التي تصدر كل يوم، ويُبلغ أصدقائه بما نشر لهم من مقالات أو قصص أو قصائد، رغم أنه يندر أن ينشر شيئا. تحدث " على " عن قانون الصحافة الجديد قائلا:
- إن رجلا وراء إصدار هذا القانون ليحمي به نفسه؛ فالصحافة تنشر كثيرا عن ثروته التي تتزايد وتتضخم.
لم أكن مرتاحا للجلسة لأن مشاكلي تطاردني في أي مكان أذهب إليه. حكيت لهم عما رأيته في " سوق الجمعة ". حيث فرش بائع شاب جريدة الأخبار التي صدرت في اليوم التالي لموت عبد الناصر، وجريدة الأهرام في اليوم التالي لموت السادات، قلت لمن معي وقتها:
- موت عبد الناصر والسادات معا.
كانت الجريدتان محاطتان بأدوات قديمة: مسامير وعدد صغيرة مصدية وقديمة. والبائع الشاب يضحك، يتحدث عن حاله وحال البلد، قال:
- الدولة صيعتنا، أخرجتنا من أعمالنا، ولم يتبق لنا سوى هذه الأشياء القديمة لنبيعها..
قال الدكتور محمد: أريدكم أن تكتبوا عن جمال عبد الناصر.
أعرف شعوره نحو عبد الناصر، فلم أعلق، لا أحب أن أخوض في هذا الحديث معه ومع حلمي فحديثهما عن عبد الناصر يشعرني بالضيق والاختناق.
قال الدكتور محمد: لو حاتشّكروا فيه ما تكتبوش.
قال " على فلة " للدكتور محمد: لماذا تكرهه هكذا؟
قال: سأحكي لكم واحكموا.
حكاية أعرفها جيدا حكاها لي كثيرا، فشعرتٌ بالضيق وبالرغبة في أن أنصرف واتركهم، فأنا أتذكر عبد الناصر كثيرا في أزمتي هذه، تذكرت زيارتي لنقابة التجاريين وشاب خريج كلية التجارة يسألني بعد أن سدد قيمة الاشتراك مضطرا، عن مزايا الاشتراك في النقابة، فقلت:
- يكفي أن تكون منتميا لنقابة.
فجاء شابان صغيران، قال أحدهما:
- أننا مؤهلات متوسطة ونتمنى أن نشترك في النقابة، لكنها تشترط شيئين:
أولا: خطاب من صاحب العمل يفيد بأننا نعمل عنده، وهو لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك.
ثانيا: أن نكون مشتركين في التأمينات الاجتماعية، والتأمينات تريد أيضا موافقة جهة العمل.
قال الآخر: نحن على استعداد أن نشترك في التأمينات وندفع حصتنا وحصة صاحب العمل، لكنه لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك.
قلت وقتها: الله يرحمك يا عبد الناصر "، في أيامه كان صبي الحلاق لابد أن يكون مشتركا في التأمينات، الآن مصانع كبيرة تدار وكل العاملين فيها غير مشتركين في التأمينات، والدولة تعرف هذا وتعرف مدى خطورة ذلك، ولا تهتم.
تذكرتٌ الحاج بيومي الذي كان ينقل منتجات شركتنا، وينقل الدشت الوارد إلينا من الشركات الأخرى، جاء إلى شركتنا بقفطان وفوقه جاكيت كالح قديم، وعمل وسيطا بين الشركة وأصحاب سيارات النقل. ثم اغتني وأصبح عنده أسطول من السيارات الكبيرة، عمل عنده شاب خريج تجارة، كان ينتظر السيارات، ويشرف على تحميلها، ويأخذ الشيكات من الحسابات. قابله الحاج بيومي يومها بسيارته خارج مزلقان السكة الحديد أمام بوابة الشركة، وأصدر إليه تعليماته، فأسرع الشاب لينجز ما أمره به، لكن القطار الذاهب إلى رشيد – والذي يمر أمام الشركة – دهسه. فهرب بيومي بسيارته.وادعى بأنه لم يكن يعمل عنده. وضاع الشاب دون شيء. فليس لدى أسرته ما يفيد بأنه كان يعمل عند الحاج بيومي الذي كان يحرص على أداء الصلوات في المكتب أمامنا.
وحكى الدكتور محمد حكايته مع عبد الناصر، كان مدرس ابتدائي - دبلوم معلمين – ثلاث سنوات بعد الإعدادية – تعين على الدرجة الثامنة، وظل أكثر من عامين ليحصل على أول علاوة، فلابد أن يمر عليه عامان كاملان وقت استحقاق العلاوة. ثم صدر قانون جديد يُعين المؤهل المتوسط على التاسعة بدلا من الثامنة.
قلت له: وما شأن عبد الناصر بما تقول؟!
فقال: لأ، مال أمي؟!.
لم أجبه فآلاف الخريجين الآن لا يعملون، وبعضهم يقبل أعمالا لا تتناسب مع مؤهلهم، فخريج الجامعة يقبل أن يتعين بالإعدادية ويرتدي البذلة الصفراء بدلة الخفراء ويمضي على ورقة يقر فيها بأنه لن يطالب بتسوية حالته بمؤهله العالي. أصحاب مؤهلات عليا ومتوسطة يعملون بالفاعل.
المصنع الذي تعينت فيه عام 1968 بيع وتحول إلى أرض سكنية، كان أول مصنع ورق في الشرق الأوسط، أسسه خواجه يوناني قريبا جدا من كوبري محرم بك. وشركة البيبسي كولا في حي "مصطفى كامل "؛ تحولت إلى أرض سكنية، ومصنع بدوي أيضا وغيرها من مصانع.
أيام عبد الناصر كنا آمنين في عملنا، الذي يُعين في مصنع يطمئن على مستقبله، فيخطب ويتزوج، فهو يعرف أنه سيظل في هذا المصنع إلى أن يموت أو يحال إلى المعاش. الآن كل الأعمال على كف عفريت. عادت أيام ما قبل ثورة يوليو 52، وعادت جملة : وفروا كذا عامل وموظف.
تذكرت النكتة المشهورة بأن رجال الأسرة كلهم عاطلون: الجد محال بعد الستين، والأب محال معاش مبكر، والحفيد بعد أن تخرج من الكلية أو المدرسة لم يجد عملا.
قال على فلة: لقد نجح عبد الناصر في أن يقنع تشرشل – رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت – أنه الشخص المناسب للتفاوض على الجلاء من مصر.
قال الدكتور محمد:
- مش معقول تقوم ثورة يوليو إلا إذا كانت أميركا وبريطانيا موافقة على ذلك.
قال " على: أرجوكم ما تفهمونيش غلط، لو جه عبد الناصر دلوقتي علشان يحكم؛ حاقتله، والسادات كمان، لأن هذا ليس وقتهما.
قال حلمي ساخرا: عبد الناصر جاء برغبة من إسرائيل علشان يعمل لهم النكسة.
أردت أن أصيح فيه، لكنني صمت، فأنا غير راغب في المشاركة في الحديث. استأذنت وسرت. ذهبتٌ إلى فرع هيئة الكتاب بشارع سعد زغلول لابحث عن كتب أريد شراءها، وضعتُ مجلتين فيهما مقالات عن كتبي، تركتهما بجانب الباب، واشتريتُ ما أريد من كتب. وبعد أن وصلت البيت متعبا اكتشفت أنني نسيت المجلتين. ولم أذهب ثانية للسؤال عنهما.
قهوة النيل
كنتُ أجلس في قهوة النيل مع صديق لي ميال إلى الأميركان،ومعجب بكل ما هو غربي، السيارات والكرة والسينما والملابس والأجهزة الكهربائية، كل شيء. كان سعيدا بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر، وخرجنا من الشركة التي كنت أعمل بها قبل موعد الانصراف ابتهاجا بهذه الزيارة، جلسنا في سيارات الشركة استعدادا للانطلاق إلى الإسكندرية، فالشركة بعيدة، قريبة جدا من رشيد.
قال زميل لنا:
- المجمعات الإستهلاكية توزع المنحة الأميركية مجانا، وأن صفوفا طويلة تصل إلى الشارع؛ انتظارا لحمل هذه الهدايا الفاخرة .
أسرع بعض الزملاء إلى المجمعات، لكنهم لم يجدوا شيئا. اتضح أن زميلنا هذا - وهو ماركسي- كان يسخر منا ومن هذه الزيارة التي يعلق الكثيرون الآمال عليها، وأخذ يردد كلمات أحمد فؤاد نجم التي تغنى بها الشيخ إمام:
شرفت يا نيكسون بيه
يا بتاع الوترجيت
اقترب ساقي قهوة النيل منا بالمشروبات،فقال صديقي الذي يحب الأمريكان وقد وضع ساقا فوق ساق وفرك يديه فرحا:
-خلاص ستتحقق المعجزة، وسنعيش في الرخاء.
وأجابه رجل ممتلئ يجلس بعيدا عنا:
- من جاور السعيد يسعد.
وقال رجل يرتدي طاقية على رأسه:
- الحمد لله سنرتاح من الروس وفقرهم.
اقترب الرجل بمقعده منا قائلا:
- لديّ كشك في شارع النصر، أبيع فيه الهدايا والخردوات، ويمر عليّ بحارة السفن الراسية في الميناء القريبة من كشكي. الأمريكان يشترون مني هدايا خان الخليلي، لكن الروس يستبدلون علب السجائر التي يصرفونها لهم في المركب بنظارات شمسية رخيصة وأشياء لا قيمة لها.
وقف رجل طويل يرتدي قميصا مزركشا، قال:
- البحارة في السفن الأميركية يرمون الأكل للسمك في البحر، لكن البحارة الروس يصطادون السمك بعد أن يشبع من أطعمة السفن الأميركية.
انتهت الزيارة ولم تأت زيارة نيسكون لمصر بخير كما كان يعتقد الكثيرون، بل ساءت أحوالنا على كل المستويات بسبب هذه الزيارة، ارتمينا في أحضان دولة لا تحبنا، وتحابي عدونا بشكل غير معقول، وكانت هذه الزيارة سببا في انفتاح قضي على أحلام البسطاء، وجعل رجال الأعمال يحكمون ويسنون القوانين لصالحهم، فزادت نسبة البطالة وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وصارت المساكن بالتمليك، أو بقانون الإيجارات الجديد الذي جعل الشباب غير قادر على الزواج، وكثرت الجرائم العجيبة والغريبة التي لم نكن نسمع عنها، أحكام بالإعدام كل يوم وبأعداد كبيرة. ظاهرة لم تكن موجودة بمصر قبل هذه الزيارة.
كنت أجلس في قهوة " نيو امبريال " الملاصقة لفندق سيسل العريق مع حلمي مظهر و" على فلة "، لم أكن سعيدا فقد تضافرت المشاكل والهموم، فكما يقول المتنبي: " المصائب لا تأتي فرادى ".
زميلنا الرابع الدكتور " محمد بسيوني " لم يأت للآن. دار الحديث الثقيل في كل الأشياء. تحدث " على " عن حلقات محمد حسنين هيكل التي تذاع في قناة الجزيرة، وقال حلمي كلاما لا أذكره الآن.
لقد سافر حلمي إلى القاهرة منذ أيام وأحضر معه " شيكا " لي عن قصة منشورة بمجلة الثقافة الجديدة، وشيكات له ولـعلي. وتقابلنا في البنك المركزي. الشجن يلاحقني، خطواتي ثقيلة وبطيئة.
كان الاتفاق أن نجلس في القهوة ونقابل الدكتور محمد بسيوني.
قبل أن يأتي الساقي بالطلبات قلت لهما عن المقالة التي نقلتها عن " النت " والتي تحذر من شرب المياه الغازية، وإنها تضر بالجسم أكثر من تدخين السجائر، لكن " عليا "طلب سفن أب لأن اللقمة واقفة في زوره.
صديقنا الدكتور " محمد بسيوني " رجل طيب، حاصل على الماجستير والدكتوراة في شاعر ومسرحي كبير لكنه لم يجد في آخر أيامه ألا أن يكتب الأغاني التي لا يهتم بها أحد من الموسيقيين أو المغنيين. تحدثنا عن الدكتور بشيء من الشفقة عليه.
ذكر حلمي بأنه ألف أغنية عن حج بيت الله وتذاع في إذاعة الكويت، لكنه لم يسمعها ولا يعرف من الذي يغنيها، أو الذي لحنها، كل ما يعرفه أن إذاعة الكويت دفعت له ثمنها منذ أكثر من عشرين عاما. قلت له:
- قل هذا للدكتور محمد بسيوني عندما يأتي.
جاء الدكتور محمد مبتسما – كعادته – وقابلنا بالقبلات والتحيات.
هو يتابع الجرائد والمجلات والكتب التي تصدر كل يوم، ويُبلغ أصدقائه بما نشر لهم من مقالات أو قصص أو قصائد، رغم أنه يندر أن ينشر شيئا. تحدث " على " عن قانون الصحافة الجديد قائلا:
- إن رجلا وراء إصدار هذا القانون ليحمي به نفسه؛ فالصحافة تنشر كثيرا عن ثروته التي تتزايد وتتضخم.
لم أكن مرتاحا للجلسة لأن مشاكلي تطاردني في أي مكان أذهب إليه. حكيت لهم عما رأيته في " سوق الجمعة ". حيث فرش بائع شاب جريدة الأخبار التي صدرت في اليوم التالي لموت عبد الناصر، وجريدة الأهرام في اليوم التالي لموت السادات، قلت لمن معي وقتها:
- موت عبد الناصر والسادات معا.
كانت الجريدتان محاطتان بأدوات قديمة: مسامير وعدد صغيرة مصدية وقديمة. والبائع الشاب يضحك، يتحدث عن حاله وحال البلد، قال:
- الدولة صيعتنا، أخرجتنا من أعمالنا، ولم يتبق لنا سوى هذه الأشياء القديمة لنبيعها..
قال الدكتور محمد: أريدكم أن تكتبوا عن جمال عبد الناصر.
أعرف شعوره نحو عبد الناصر، فلم أعلق، لا أحب أن أخوض في هذا الحديث معه ومع حلمي فحديثهما عن عبد الناصر يشعرني بالضيق والاختناق.
قال الدكتور محمد: لو حاتشّكروا فيه ما تكتبوش.
قال " على فلة " للدكتور محمد: لماذا تكرهه هكذا؟
قال: سأحكي لكم واحكموا.
حكاية أعرفها جيدا حكاها لي كثيرا، فشعرتٌ بالضيق وبالرغبة في أن أنصرف واتركهم، فأنا أتذكر عبد الناصر كثيرا في أزمتي هذه، تذكرت زيارتي لنقابة التجاريين وشاب خريج كلية التجارة يسألني بعد أن سدد قيمة الاشتراك مضطرا، عن مزايا الاشتراك في النقابة، فقلت:
- يكفي أن تكون منتميا لنقابة.
فجاء شابان صغيران، قال أحدهما:
- أننا مؤهلات متوسطة ونتمنى أن نشترك في النقابة، لكنها تشترط شيئين:
أولا: خطاب من صاحب العمل يفيد بأننا نعمل عنده، وهو لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك.
ثانيا: أن نكون مشتركين في التأمينات الاجتماعية، والتأمينات تريد أيضا موافقة جهة العمل.
قال الآخر: نحن على استعداد أن نشترك في التأمينات وندفع حصتنا وحصة صاحب العمل، لكنه لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك.
قلت وقتها: الله يرحمك يا عبد الناصر "، في أيامه كان صبي الحلاق لابد أن يكون مشتركا في التأمينات، الآن مصانع كبيرة تدار وكل العاملين فيها غير مشتركين في التأمينات، والدولة تعرف هذا وتعرف مدى خطورة ذلك، ولا تهتم.
تذكرتٌ الحاج بيومي الذي كان ينقل منتجات شركتنا، وينقل الدشت الوارد إلينا من الشركات الأخرى، جاء إلى شركتنا بقفطان وفوقه جاكيت كالح قديم، وعمل وسيطا بين الشركة وأصحاب سيارات النقل. ثم اغتني وأصبح عنده أسطول من السيارات الكبيرة، عمل عنده شاب خريج تجارة، كان ينتظر السيارات، ويشرف على تحميلها، ويأخذ الشيكات من الحسابات. قابله الحاج بيومي يومها بسيارته خارج مزلقان السكة الحديد أمام بوابة الشركة، وأصدر إليه تعليماته، فأسرع الشاب لينجز ما أمره به، لكن القطار الذاهب إلى رشيد – والذي يمر أمام الشركة – دهسه. فهرب بيومي بسيارته.وادعى بأنه لم يكن يعمل عنده. وضاع الشاب دون شيء. فليس لدى أسرته ما يفيد بأنه كان يعمل عند الحاج بيومي الذي كان يحرص على أداء الصلوات في المكتب أمامنا.
وحكى الدكتور محمد حكايته مع عبد الناصر، كان مدرس ابتدائي - دبلوم معلمين – ثلاث سنوات بعد الإعدادية – تعين على الدرجة الثامنة، وظل أكثر من عامين ليحصل على أول علاوة، فلابد أن يمر عليه عامان كاملان وقت استحقاق العلاوة. ثم صدر قانون جديد يُعين المؤهل المتوسط على التاسعة بدلا من الثامنة.
قلت له: وما شأن عبد الناصر بما تقول؟!
فقال: لأ، مال أمي؟!.
لم أجبه فآلاف الخريجين الآن لا يعملون، وبعضهم يقبل أعمالا لا تتناسب مع مؤهلهم، فخريج الجامعة يقبل أن يتعين بالإعدادية ويرتدي البذلة الصفراء بدلة الخفراء ويمضي على ورقة يقر فيها بأنه لن يطالب بتسوية حالته بمؤهله العالي. أصحاب مؤهلات عليا ومتوسطة يعملون بالفاعل.
المصنع الذي تعينت فيه عام 1968 بيع وتحول إلى أرض سكنية، كان أول مصنع ورق في الشرق الأوسط، أسسه خواجه يوناني قريبا جدا من كوبري محرم بك. وشركة البيبسي كولا في حي "مصطفى كامل "؛ تحولت إلى أرض سكنية، ومصنع بدوي أيضا وغيرها من مصانع.
أيام عبد الناصر كنا آمنين في عملنا، الذي يُعين في مصنع يطمئن على مستقبله، فيخطب ويتزوج، فهو يعرف أنه سيظل في هذا المصنع إلى أن يموت أو يحال إلى المعاش. الآن كل الأعمال على كف عفريت. عادت أيام ما قبل ثورة يوليو 52، وعادت جملة : وفروا كذا عامل وموظف.
تذكرت النكتة المشهورة بأن رجال الأسرة كلهم عاطلون: الجد محال بعد الستين، والأب محال معاش مبكر، والحفيد بعد أن تخرج من الكلية أو المدرسة لم يجد عملا.
قال على فلة: لقد نجح عبد الناصر في أن يقنع تشرشل – رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت – أنه الشخص المناسب للتفاوض على الجلاء من مصر.
قال الدكتور محمد:
- مش معقول تقوم ثورة يوليو إلا إذا كانت أميركا وبريطانيا موافقة على ذلك.
قال " على: أرجوكم ما تفهمونيش غلط، لو جه عبد الناصر دلوقتي علشان يحكم؛ حاقتله، والسادات كمان، لأن هذا ليس وقتهما.
قال حلمي ساخرا: عبد الناصر جاء برغبة من إسرائيل علشان يعمل لهم النكسة.
أردت أن أصيح فيه، لكنني صمت، فأنا غير راغب في المشاركة في الحديث. استأذنت وسرت. ذهبتٌ إلى فرع هيئة الكتاب بشارع سعد زغلول لابحث عن كتب أريد شراءها، وضعتُ مجلتين فيهما مقالات عن كتبي، تركتهما بجانب الباب، واشتريتُ ما أريد من كتب. وبعد أن وصلت البيت متعبا اكتشفت أنني نسيت المجلتين. ولم أذهب ثانية للسؤال عنهما.
قهوة النيل
كنتُ أجلس في قهوة النيل مع صديق لي ميال إلى الأميركان،ومعجب بكل ما هو غربي، السيارات والكرة والسينما والملابس والأجهزة الكهربائية، كل شيء. كان سعيدا بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر، وخرجنا من الشركة التي كنت أعمل بها قبل موعد الانصراف ابتهاجا بهذه الزيارة، جلسنا في سيارات الشركة استعدادا للانطلاق إلى الإسكندرية، فالشركة بعيدة، قريبة جدا من رشيد.
قال زميل لنا:
- المجمعات الإستهلاكية توزع المنحة الأميركية مجانا، وأن صفوفا طويلة تصل إلى الشارع؛ انتظارا لحمل هذه الهدايا الفاخرة .
أسرع بعض الزملاء إلى المجمعات، لكنهم لم يجدوا شيئا. اتضح أن زميلنا هذا - وهو ماركسي- كان يسخر منا ومن هذه الزيارة التي يعلق الكثيرون الآمال عليها، وأخذ يردد كلمات أحمد فؤاد نجم التي تغنى بها الشيخ إمام:
شرفت يا نيكسون بيه
يا بتاع الوترجيت
اقترب ساقي قهوة النيل منا بالمشروبات،فقال صديقي الذي يحب الأمريكان وقد وضع ساقا فوق ساق وفرك يديه فرحا:
-خلاص ستتحقق المعجزة، وسنعيش في الرخاء.
وأجابه رجل ممتلئ يجلس بعيدا عنا:
- من جاور السعيد يسعد.
وقال رجل يرتدي طاقية على رأسه:
- الحمد لله سنرتاح من الروس وفقرهم.
اقترب الرجل بمقعده منا قائلا:
- لديّ كشك في شارع النصر، أبيع فيه الهدايا والخردوات، ويمر عليّ بحارة السفن الراسية في الميناء القريبة من كشكي. الأمريكان يشترون مني هدايا خان الخليلي، لكن الروس يستبدلون علب السجائر التي يصرفونها لهم في المركب بنظارات شمسية رخيصة وأشياء لا قيمة لها.
وقف رجل طويل يرتدي قميصا مزركشا، قال:
- البحارة في السفن الأميركية يرمون الأكل للسمك في البحر، لكن البحارة الروس يصطادون السمك بعد أن يشبع من أطعمة السفن الأميركية.
انتهت الزيارة ولم تأت زيارة نيسكون لمصر بخير كما كان يعتقد الكثيرون، بل ساءت أحوالنا على كل المستويات بسبب هذه الزيارة، ارتمينا في أحضان دولة لا تحبنا، وتحابي عدونا بشكل غير معقول، وكانت هذه الزيارة سببا في انفتاح قضي على أحلام البسطاء، وجعل رجال الأعمال يحكمون ويسنون القوانين لصالحهم، فزادت نسبة البطالة وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وصارت المساكن بالتمليك، أو بقانون الإيجارات الجديد الذي جعل الشباب غير قادر على الزواج، وكثرت الجرائم العجيبة والغريبة التي لم نكن نسمع عنها، أحكام بالإعدام كل يوم وبأعداد كبيرة. ظاهرة لم تكن موجودة بمصر قبل هذه الزيارة.