إيمان فجر
(من دمعتي ولد الشتاء)
من دمعتي وُلدَ الشِّتاءْ
والبردُ يكبرُ في الشتاءْ
لأنه بردٌ نذيرْ
بردٌ.... يسيرُ كمالدّّليل!!
من السعيرِ إلى السعيرِ
بردٌ قتولْ...
والقتلُ لا يعني الفناءْ!!
وكأنَّما انهارتْ صُروحْ
وكأنّ أشجاراً تنوحْ
وكأنَّ يمحونا عَدمْ
وكأنَّ طعناً بالنَّدمْ
ذَبَحَ القَطاةَ فأُهلِكَتْ
وجميعُ ما فيها جُروحْ!
***
............................................
حين يتجلّى الخيال الشعريُّ في براعة الاستهلال، ويُلقي بظلاله على متن القصيدة إسقاطاتٌ مضفَّرةٌ بلغة شاعرة، تتضاعف قيمة العمل فنيّاً؛ ويضع قدمه يرتقى أسمى درجات الإبداع.
وهذا ماأجادت فيه الشاعرة في قصيدةٍ تواجه بها الذات صرخةً ناعمةً ضدَّ تحدّيات واقعنا.
أتت بكلمات أربع نسجَت منهُنّ وشاحًا من خيوطٍ حريريّةٍ، وألقتْه إلينا فإذ بنا نبصر فيهنَّ جوامع الكلم تصف ما تكابده من شجونٍ، يفجّرُهُا في روعنا خيالها المتوقّد (من دمعتي ولِدَ الشتاء)
من هطول دمعتها ولد الشتاء دون غيره؛ كونه أحد الفصول الأربعة الأكثر عنفوانًا وصخَبًا وحِدّةً، فأسماه علماء الأرصاد فصل "الانقلاب الشتوي"
لقد صار فصل الهطول مخاض شجونٍ تغلغل في الوجدان، وتَوَلُّدًا لانطباعاتٍ أحاطت بها من كلّ جانبٍ، أرَّقتْ مضجعها ففاض وجدانها ينابيع حزنٍ جارفٍ أخذ يسَّاقط على إثره دمعًا سخينًا فقالت:
(من دمعتي)
حقًا إنَّ الدموع غاليةٌ لاتنهمر إلا لكبيرٍ جلل، إنَّها متنفَّس الحُزْنِ ومن مظاهر الحَزَنِ، وكلاهما (الحُزْنُ والحَزَنُ) أصلهما واحدٌ ومادتهما واحدةٌ، لهما نفس المعنى وهو ضدَّ الفرح ومبعث الضيق والألم، الحزن ظاهرةٌ يتّسم بها المرء فترةً قد تطول وتقصر، تختلف حدُّتها من شخصٍ لآخر، لكن الحزن هنا ليس كأيّ حزنٍ، إنه حزن الإنسان المبدع ذو الحساسية الخاصة، تناولته كمادةٍ للإبداع كما تناوله شعراء الحداثة "كصلاح عبد الصبور" الشاعر الحزين، "ومحمود درويش" حيث يختلط الحزن بالغضب، "وأمل دنقل" "وبدرشاكر السياب" وغيرهم الكثير.
ولقد أرى أنَّ البكاء سفاهةٌ
ولسوف يُولَعُ
بالبُكا من يُفجَعُ
لقد انطلق الحزن من صدرها زفرةً عميقةً، ثورةً ترفض واقعًا مذريًا ألمَّ بساحتها، علَّها تتنفَّس في ذَرْفِ دمعها شهيق الأمل!
جاءت بالجار والمجرور بداية (من دمعتي) ، ثم أتت بالجملة الفعلية
(ولِدَ الشتاءُ)
(ولِدَ) فعل ماض مبني للمجهول، والفاعل مستتر تقديره شبه جملة (من دمعتي) والشتاءُ نائب فاعل.
اختارت الشتاء وليدًا لحزنها وألمها، لأنَّ مافيه من جبروتٍ للطبيعة يوافق تأرقِّها وفزعها ومايضِّطرب في أعماقها.
نهار خجول تكسوه سحبٌ داكنةٌ وكأنَّ الشمس كُوِّرَتْ وذهب نورها، وظلمة ليلٍ غاب فيه ضوء القمر وانكدرت نجومه، فيه الفضاء الرَّحب لايخلو من أصداء عويل ريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ لاتُبقي و لاتذر، ظلمةٌ يشقها وميض شهابٍ خاطفٍ أو برقٍ عاصفٍ يكاد يُذهب بالأبصار، وفي أصداء الكون رعدٌ مفزٌع يصمُّ الآذان، ثمّ يسود الخواء والصمت وتحلُّ الرهبة ويفتك الأرق بالمقل، وينقضُّ البرْد القارس بمخالبه، ينهش الآمال ويعصف بالأحلام.
ومن المتعارف عليه بداهةً أنَّ المطر وليد الشتاء، لكن المعنى جاء من قِبَلِ الشاعرة بعجيبٍ مغايرٍ للمألوف رغم تشاركهما صفه الهطول، فالشتاء بتقلُّبه صار عندها مخاض دمعةٍ هطلت على وجنة الألم، تفيض حزنًا يُدمي القريحة فنُظمت نظمًا متماهيًا وعوامل الطبيعة القاسية.
والبردُ يكبرُ في الشتاء
لأنَّه بردٌ نذيرْ
بردٌ يسير كما الدليلْ
بردٌ قتولْ
والقتلُ لايعني الفناء!
ثم أسهبت المبدعة في وصف البرد الذي يلازم الشتاء، لأنه سلاحٌ ذو حدَّين، حدُّ الذكريات التي جمَّدها الوجع، ونصل ارتعاشات نُذرٍ الوحشة تُطبق على صدورنا، ترتعد فرائصنا تتباكى أيام دفءٍ قد خلت في حضن الوطن( بردٌ قتول) صيغة المبالغة من ( قاتل) لأنه سلاحٌ ماضٍ يُمْعن في القتل، يقتلنا في اللَّحظة ألف مرةٍ، دون رحمةٍ وهوادةٍ حتى دون راحة الموت؛ فلا فناء!
لقد توالت الصور أنموذجًا في علم البديع، تصف تحالف قسوة الطبيعة مع آلامها دون إفصاحٍ أو تصريحٍ عن أسباب أحزانها بصورةٍ مباشرةٍ، بل وضعتها بذكاءٍ يفتح للمتلقِّي كلّما توغَّل تأويلاتٍ عديدةٍ، كي لا تُغلق الباب على مسببٍ دون آخر، ولاتكبح انطلاقنا في البحث والسعي والتأويل.
وكأنَّما انهارتْ صروحْ
وكأنَّ أشجارًا تنوحْ
وكأنَّ يمحونا العدمْ
وكأنَّ طعنًا بالندمْ
بكاءٌ على أطلال الماضي، حيث هوت(صروح) جمع( صرح) أتى لفظ نكرة دون تعريف ليصبح عامّاً يشمل كلا من الماديّ والمعنويّ، بناياتٌ وحضاراتٌ وقيمٌ وأعرافَ ومُثلٌ .... الخ
لم يكُ الشتاء فحسب من بكى معها، بل ناحت الطبيعة أيضًا على قسوة الواقع المؤلم الذي آل إليه حالنا، يقودنا للعدم فنبكي علّه ينفع الندم!
ذبحَ القطاة فأُهلِكتْ
وجميع مافيها جروحْ
وتصل الخاتمة إلى قمَّة المأساة، جميع مافينا جروح، واقعٌ ينزف مرارة الشَّتات، حروبٌ وبالٌ على شعوبنا أضحت مدعاة حزنٍ وألم وبكاء.
وحسبك شاعرتنا ابنة الشهباء، لانضب مدادك، قول أحد أعلام التابعين مالك بن دينار :
إنَّ القلبَ الذي ليس فيه حُزْنٌ قلبٌ خَرِبٌ....
بدَّلَ الله حزننا فرحًا، ومن الألم ينبت الأمل.
محمد خويلد
الاسكندرية 8 نوفمبر 2019
(من دمعتي ولد الشتاء)
من دمعتي وُلدَ الشِّتاءْ
والبردُ يكبرُ في الشتاءْ
لأنه بردٌ نذيرْ
بردٌ.... يسيرُ كمالدّّليل!!
من السعيرِ إلى السعيرِ
بردٌ قتولْ...
والقتلُ لا يعني الفناءْ!!
وكأنَّما انهارتْ صُروحْ
وكأنّ أشجاراً تنوحْ
وكأنَّ يمحونا عَدمْ
وكأنَّ طعناً بالنَّدمْ
ذَبَحَ القَطاةَ فأُهلِكَتْ
وجميعُ ما فيها جُروحْ!
***
............................................
حين يتجلّى الخيال الشعريُّ في براعة الاستهلال، ويُلقي بظلاله على متن القصيدة إسقاطاتٌ مضفَّرةٌ بلغة شاعرة، تتضاعف قيمة العمل فنيّاً؛ ويضع قدمه يرتقى أسمى درجات الإبداع.
وهذا ماأجادت فيه الشاعرة في قصيدةٍ تواجه بها الذات صرخةً ناعمةً ضدَّ تحدّيات واقعنا.
أتت بكلمات أربع نسجَت منهُنّ وشاحًا من خيوطٍ حريريّةٍ، وألقتْه إلينا فإذ بنا نبصر فيهنَّ جوامع الكلم تصف ما تكابده من شجونٍ، يفجّرُهُا في روعنا خيالها المتوقّد (من دمعتي ولِدَ الشتاء)
من هطول دمعتها ولد الشتاء دون غيره؛ كونه أحد الفصول الأربعة الأكثر عنفوانًا وصخَبًا وحِدّةً، فأسماه علماء الأرصاد فصل "الانقلاب الشتوي"
لقد صار فصل الهطول مخاض شجونٍ تغلغل في الوجدان، وتَوَلُّدًا لانطباعاتٍ أحاطت بها من كلّ جانبٍ، أرَّقتْ مضجعها ففاض وجدانها ينابيع حزنٍ جارفٍ أخذ يسَّاقط على إثره دمعًا سخينًا فقالت:
(من دمعتي)
حقًا إنَّ الدموع غاليةٌ لاتنهمر إلا لكبيرٍ جلل، إنَّها متنفَّس الحُزْنِ ومن مظاهر الحَزَنِ، وكلاهما (الحُزْنُ والحَزَنُ) أصلهما واحدٌ ومادتهما واحدةٌ، لهما نفس المعنى وهو ضدَّ الفرح ومبعث الضيق والألم، الحزن ظاهرةٌ يتّسم بها المرء فترةً قد تطول وتقصر، تختلف حدُّتها من شخصٍ لآخر، لكن الحزن هنا ليس كأيّ حزنٍ، إنه حزن الإنسان المبدع ذو الحساسية الخاصة، تناولته كمادةٍ للإبداع كما تناوله شعراء الحداثة "كصلاح عبد الصبور" الشاعر الحزين، "ومحمود درويش" حيث يختلط الحزن بالغضب، "وأمل دنقل" "وبدرشاكر السياب" وغيرهم الكثير.
ولقد أرى أنَّ البكاء سفاهةٌ
ولسوف يُولَعُ
بالبُكا من يُفجَعُ
لقد انطلق الحزن من صدرها زفرةً عميقةً، ثورةً ترفض واقعًا مذريًا ألمَّ بساحتها، علَّها تتنفَّس في ذَرْفِ دمعها شهيق الأمل!
جاءت بالجار والمجرور بداية (من دمعتي) ، ثم أتت بالجملة الفعلية
(ولِدَ الشتاءُ)
(ولِدَ) فعل ماض مبني للمجهول، والفاعل مستتر تقديره شبه جملة (من دمعتي) والشتاءُ نائب فاعل.
اختارت الشتاء وليدًا لحزنها وألمها، لأنَّ مافيه من جبروتٍ للطبيعة يوافق تأرقِّها وفزعها ومايضِّطرب في أعماقها.
نهار خجول تكسوه سحبٌ داكنةٌ وكأنَّ الشمس كُوِّرَتْ وذهب نورها، وظلمة ليلٍ غاب فيه ضوء القمر وانكدرت نجومه، فيه الفضاء الرَّحب لايخلو من أصداء عويل ريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ لاتُبقي و لاتذر، ظلمةٌ يشقها وميض شهابٍ خاطفٍ أو برقٍ عاصفٍ يكاد يُذهب بالأبصار، وفي أصداء الكون رعدٌ مفزٌع يصمُّ الآذان، ثمّ يسود الخواء والصمت وتحلُّ الرهبة ويفتك الأرق بالمقل، وينقضُّ البرْد القارس بمخالبه، ينهش الآمال ويعصف بالأحلام.
ومن المتعارف عليه بداهةً أنَّ المطر وليد الشتاء، لكن المعنى جاء من قِبَلِ الشاعرة بعجيبٍ مغايرٍ للمألوف رغم تشاركهما صفه الهطول، فالشتاء بتقلُّبه صار عندها مخاض دمعةٍ هطلت على وجنة الألم، تفيض حزنًا يُدمي القريحة فنُظمت نظمًا متماهيًا وعوامل الطبيعة القاسية.
والبردُ يكبرُ في الشتاء
لأنَّه بردٌ نذيرْ
بردٌ يسير كما الدليلْ
بردٌ قتولْ
والقتلُ لايعني الفناء!
ثم أسهبت المبدعة في وصف البرد الذي يلازم الشتاء، لأنه سلاحٌ ذو حدَّين، حدُّ الذكريات التي جمَّدها الوجع، ونصل ارتعاشات نُذرٍ الوحشة تُطبق على صدورنا، ترتعد فرائصنا تتباكى أيام دفءٍ قد خلت في حضن الوطن( بردٌ قتول) صيغة المبالغة من ( قاتل) لأنه سلاحٌ ماضٍ يُمْعن في القتل، يقتلنا في اللَّحظة ألف مرةٍ، دون رحمةٍ وهوادةٍ حتى دون راحة الموت؛ فلا فناء!
لقد توالت الصور أنموذجًا في علم البديع، تصف تحالف قسوة الطبيعة مع آلامها دون إفصاحٍ أو تصريحٍ عن أسباب أحزانها بصورةٍ مباشرةٍ، بل وضعتها بذكاءٍ يفتح للمتلقِّي كلّما توغَّل تأويلاتٍ عديدةٍ، كي لا تُغلق الباب على مسببٍ دون آخر، ولاتكبح انطلاقنا في البحث والسعي والتأويل.
وكأنَّما انهارتْ صروحْ
وكأنَّ أشجارًا تنوحْ
وكأنَّ يمحونا العدمْ
وكأنَّ طعنًا بالندمْ
بكاءٌ على أطلال الماضي، حيث هوت(صروح) جمع( صرح) أتى لفظ نكرة دون تعريف ليصبح عامّاً يشمل كلا من الماديّ والمعنويّ، بناياتٌ وحضاراتٌ وقيمٌ وأعرافَ ومُثلٌ .... الخ
لم يكُ الشتاء فحسب من بكى معها، بل ناحت الطبيعة أيضًا على قسوة الواقع المؤلم الذي آل إليه حالنا، يقودنا للعدم فنبكي علّه ينفع الندم!
ذبحَ القطاة فأُهلِكتْ
وجميع مافيها جروحْ
وتصل الخاتمة إلى قمَّة المأساة، جميع مافينا جروح، واقعٌ ينزف مرارة الشَّتات، حروبٌ وبالٌ على شعوبنا أضحت مدعاة حزنٍ وألم وبكاء.
وحسبك شاعرتنا ابنة الشهباء، لانضب مدادك، قول أحد أعلام التابعين مالك بن دينار :
إنَّ القلبَ الذي ليس فيه حُزْنٌ قلبٌ خَرِبٌ....
بدَّلَ الله حزننا فرحًا، ومن الألم ينبت الأمل.
محمد خويلد
الاسكندرية 8 نوفمبر 2019