النص
ملْحُ الذَاكِرَة
يجرِّبُ الفراغَ وقد أصبحت ذاكرتُه صفحةً بيضاء. يلاحظُ أنّهُ يعني الكثيرَ لعائلتِهِ، لكنّهم غُرباءُ عنْ ذاكرةٍ يتسابقونَ لإنعاشِهِا فتصدّ أبوابَها بوجهِ محاولاتِهم، هُمْ يستبسلونَ في إثباتِ وجودِهم فِيها، وهي تئِنُّ من وطأةِ خواءٍ لا يتَّسعُ لَهمْ.
دَعَوْهُ إلى وليمةِ حُبٍّ وصورٍ، على طاولةٍ مستديرةٍ فرشَوا لَهُ ماضِيهِ، صورَ طفولَتِه، حفلَ تخرّجِه، عُرسَه. ببرودٍ يرفضُ وليمةً مذاقُها معدومٌ كهواءٍ باردٍ. سألَهم مرهقاً بسببِ إلحاحِهم:
- هَلْ الحُبُّ ممكنٌ دونَ ذاكرةٍ حتّى ولو مُلُّحَ بالصّورِ؟
مِلايينُ الخلايَا في دماغِه تَوَقَّفَتْ على اسمٍ وحيدٍ يبحثُ عنه في الغرفِ البيضاءِ والسّوداءِ بشرود يلهجُ بِذِكرِهِ:
ـ أينَ ناصرٌ؟
سألَتْ زوجتُه: من ناصرٌ؟
لا جوابَ سوى نظراتٍ صقيعيةٍ، وصمتٍ، ودهشةِ الجاهلِ بما يسألُ.
كانَ الطبيبُ قد أخبرهَا:
-زوجُك قد يتوهَّمُ أحداثاً لم ْتحدثْ وأشخاصاً لا وجودَ لهَمْ.
حتماً ناصرٌ من ضمنِ هذهِ الأوهامِ. قالت في خلدِها وهي تكفكفُ دموعَها.
نظراتُ الشَّفقةِ الّتي انهالَتْ عَلِيْهِ من زوّارِه، تِزيدُ مِنْ تَوتُّرِهّ وهمساتُهم سهامٌ تنغرزُ في قلبِ أُمِّهِ.
يقينُها بالمزارِ المقدَّسِ الّذي أعادَ لهَا ابْنَها من ساحاتِ الموت، جَعَلَهَا تُصِرُّ على تكْرَارِ الزّيارةِ والوفاءِ بنُذْرِها، وتقدّمةِ نذرٍ جديدةً علَّها تستردّهُ من قرارةِ بئرٍ عميقة.
الطريقُ ثقيلٌ والحواجزُ الّتي فِرضَتْها الحربُ تَزيدُه ثِقْلاً، وعَينَاهُ تبحثانِ في كلِّ الوجوهِ عن وجهٍ واحدٍ فَقَط. زوجتُه تُبسملُ وأمُّه لا تخبّئ دموعَها، وهي تشرحُ له كدليلٍ سياحيٍّ، مع عبارةِ:
- ألَا تَذكرُ القريةَ وذاكَ الشارعَ ومدرستَك هذه؟
هو لا يجيبُ، بل يغرقُ بعالمٍ لا ملامحَ له
توقّفتْ السّيارةُ عندَ الحاجزِ الأخيرِ... صرخَ بأعلَى صَوتِه:
مَرحَباً... شباب، أينَ ناصرٌ؟
خبّأَت زوجتُه وجهَهَا بكفيّهَا خجلًا، وحاولت والدَتُه ثَنْيَهُ عَنِ النّزولِ من السّيّارةِ... وأخذتْ تتوسَّلُ إليهِ:
- أُقبّلُ يديكَ لا تفْضَحْنا.
لكنّهُ تجاهلَ رجاءَها، وغابَ عن نظرها بين الجنودِ الّذين ذُهلوا لمرْآه، وتحلَّقُوا حولَه.
منهم من قبَّلَ رأسَه، ومنهم من عانَقَه، وبعضُهم من اِكْتَفى بلمسِ كَتِفِه ...
يرْأَبُ عنقَه؛ ليحلّقَ بنظره فوق الرؤوسِ، ويصرخُ بأعلى صوتِه: أين أنتَ يا رفيقي؟ تعطّلَ مرورُ السّياراتِ فقد كانَ المشهدُ شهيّاً للمتابعةِ، ونسيَ الرّكابُ ضجرَهم وتردّد صوتٌ قويٌ من خلفِ المحرسِ الخشبيّ تحتَ الجسرِ:
ظَنَنتُكَ مُتَّ يا فتى.
يطلُّ الرَّجلُ من وراءِ الصّدى، يعرُجُ برِجْلٍ حديديّةٍ وأُخْرَى حقيقيّةٍ، وشوقٍ لا يـُقدّرُ بعناقٍ أبكى الحضورَ، وكطفلٍ فازَ بهديّةِ العيد ِ يهزُّ منكبيْ الرجلِ، دافعاً إيَّاهُ تِجاهَ ذهولِهم المبلّلِ بدموعِ الفرح ِ.
ـ هذه أُمّي وهذه زوجَتي وهذا ولدي الحبيبُ... أُعرّفُكم... هذا ناصرٌ.
يحدِّقُ بعينيْ أُمِّه كأنّه يراهُما للمرّة الأُولى ويُتابعُ:
-عندما نَسفَ اللُّغمُ ساقَ ناصر، انهالَ الرّصاصُ عليْنا من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، حينها قالَ لي أنا ذاهبٌ حتماً فلْتَبقَ أنتَ، وغطّاني بِجَسَدِه.
تمت
صديقة صديق علي
فقدان الهوية والاكتمال بالآخر
لا يمكننا ان نتناول نصًا للأستاذة صديقة علي ،إلا بالكثير من الإنبهار و القلق و التوغل. لأنها استطاعت عبر مسيرتها القصصية المذهلة أن تخلق بصمة مهيمنة تسطو فيها لغة الخطاب السردي على عالم القارئ.
فمن عمق الواقع المعاش بمرارته و قسوته ،إلى فضاء السرد التخيلي الشيق الذي يتمحور حول فكرة وجودية واحدة، الانتماء إلى الآخر هو الطريق إلى معرفة الذات.
فمن هو ناصر؟ هذا اللغز العائم في ذاكرة مشبوهة، في محيط وجداني تتجاذب أطرافه عائلة محبة، أعجزها
فقدان ذاكرة العائد من حرب قاهرة، متشظيَا بلا قرار، عاجزًا عن العودة،مصلوبًا في انفصال عن الواقع مرددًا اسم شخص مجهول لا يعرفه أحد.
يبدأ السرد الكلاسيكي بتلك اللغة الرصينة الشاعريةالمتمكنة،التي تصف حال البطل، بصوت الراوي العليم الواثق،، وتنتقل إلينا الحالة الفوضوية الضبابية التي تغلف المشهد بأحاسيس البطل المدان بفقدان ذاكرته، بخوائه ولا انتمائه و قد تنازعته فراغات شاسعة، دامية، انسلاخ غير مرئي عن العاطفة الإنسانية،عن الوعي الجمعي،، محكوم بتوقعات تتقن صياغتها الكاتبة بذكاء لتجبر قارئها على مشاركة وعيه مع البطل الفاقد لوجوده في وعيه الحاضر والغارق في مسافة زمنية مجهولة غيبتها حرب دموية ساخرة وقاصمة اغتالت الإنسان أولًا قبل شجاعته ومبادئه وفكره.
وكما ورد في النص:
الطريقُ ثقيلٌ والحواجزُ الّتي فِرضَتْها الحربُ تَزيدُه ثِقْلاً، وعَينَاهُ تبحثانِ في كلِّ الوجوهِ عن وجهٍ واحدٍ فَقَط.
استطاعت الكاتبة إظهار ملامح الشخصية الرئيسية المنتهكة ببراعة من خلال إضاءات عابرة للشخصيات المحيطة بها، على شكل ومضات حوارية منتقاة، تمثلت بآراء الطبيب وتوقعاته ،بأدعية الوالدة وتشبثها بالموروث الديني والمجتمعي وإحساسها بالخجل من كينونة ابنها المختل، بحيرة الزوجة واضطرابها،، هنا تنتصب الشخصية بعجزها التراجيدي النبيل أمام عجز الآخر (الزوجة - الأم) وجهلهما المطلق ،مقابلة ذكية توجه الحدث الذي يبقى خفي المعالم حتى ينشطر المشهد إلى رؤية جلية ،تكشف الحقيقة لكل من تورط في فضاء السرد، من الشخصيات العائمة على هامش السرد إلى البطل ذاته الذي سيسترد ذاكرته الموقوتة إلى القارئ
الذي يواكب حبكة وجدانية شيقة تصل لمفصل استثنائي.
تتكشف الحقيقة في اقتطاع زمني رحب حسيًا،وصفته الكاتبة ببلاغة وتمكن ،،الحاجز، الجنود، توقف السيارات، ارتباك العائلة ثم عودة الذاكرة المفاجئة. لكن النهاية الغير متوقعة، تجبرنا على الذهول، فالبطل الذي شوهته الحرب، وعبثت بكيانه، و و اغتالت روحه، وخلقت له أوهامَا بديلة عن واقعه، جعلته سجين مشهد واحد ينقذه فيه (ناصر البطل) من الموت، فالذاكرة الإنسانية هي رصد لحالة استبسال شجاعة،، تتقد في اللاوعي وفي اللاشعور وتظهر للعيان في عيني البطل الكسير على شكل وهم شبحي لا وجود له، يعانق الجندي المهزوم داخليَا ويرتق جرحه الأبدي. وكما ورد في النص
هذه أُمّي وهذه زوجَتي وهذا ولدي الحبيبُ... أُعرّفُكم... هذا ناصرٌ.
يحدِّقُ بعينيْ أُمِّه كأنّه يراهُما للمرّة الأُولى
تقول الكاتبة
هَلْ الحُبُّ ممكنٌ دونَ ذاكرةٍ حتّى ولو مُلُّحَ بالصّورِ؟
الاستبسال في الحرب حب، الاستشهاد في سبيل الوطن حب، وفاء الجندي لأخيه المقاتل على ارض المعركة حب. لا ينفصل الجندي الإنسان عن رفيقه بل يكتمل به، وتتضح معالم (الأنا) المليئة بالتوجس والخوف والترقب من خلال ذاكرة الإدراك الغريزية الأولى
نحن نكتمل بالآخر ونحقق إنسانيتنا ونردم هوة ذاتيتنا المحضة بتكاملنا مع من نحب حتى في أقسى التجارب الإنسانية فظاعة وقهرًا.
نص مذهل أستاذة صديقة
Kinana Eissa
18-11-2021
ملْحُ الذَاكِرَة
يجرِّبُ الفراغَ وقد أصبحت ذاكرتُه صفحةً بيضاء. يلاحظُ أنّهُ يعني الكثيرَ لعائلتِهِ، لكنّهم غُرباءُ عنْ ذاكرةٍ يتسابقونَ لإنعاشِهِا فتصدّ أبوابَها بوجهِ محاولاتِهم، هُمْ يستبسلونَ في إثباتِ وجودِهم فِيها، وهي تئِنُّ من وطأةِ خواءٍ لا يتَّسعُ لَهمْ.
دَعَوْهُ إلى وليمةِ حُبٍّ وصورٍ، على طاولةٍ مستديرةٍ فرشَوا لَهُ ماضِيهِ، صورَ طفولَتِه، حفلَ تخرّجِه، عُرسَه. ببرودٍ يرفضُ وليمةً مذاقُها معدومٌ كهواءٍ باردٍ. سألَهم مرهقاً بسببِ إلحاحِهم:
- هَلْ الحُبُّ ممكنٌ دونَ ذاكرةٍ حتّى ولو مُلُّحَ بالصّورِ؟
مِلايينُ الخلايَا في دماغِه تَوَقَّفَتْ على اسمٍ وحيدٍ يبحثُ عنه في الغرفِ البيضاءِ والسّوداءِ بشرود يلهجُ بِذِكرِهِ:
ـ أينَ ناصرٌ؟
سألَتْ زوجتُه: من ناصرٌ؟
لا جوابَ سوى نظراتٍ صقيعيةٍ، وصمتٍ، ودهشةِ الجاهلِ بما يسألُ.
كانَ الطبيبُ قد أخبرهَا:
-زوجُك قد يتوهَّمُ أحداثاً لم ْتحدثْ وأشخاصاً لا وجودَ لهَمْ.
حتماً ناصرٌ من ضمنِ هذهِ الأوهامِ. قالت في خلدِها وهي تكفكفُ دموعَها.
نظراتُ الشَّفقةِ الّتي انهالَتْ عَلِيْهِ من زوّارِه، تِزيدُ مِنْ تَوتُّرِهّ وهمساتُهم سهامٌ تنغرزُ في قلبِ أُمِّهِ.
يقينُها بالمزارِ المقدَّسِ الّذي أعادَ لهَا ابْنَها من ساحاتِ الموت، جَعَلَهَا تُصِرُّ على تكْرَارِ الزّيارةِ والوفاءِ بنُذْرِها، وتقدّمةِ نذرٍ جديدةً علَّها تستردّهُ من قرارةِ بئرٍ عميقة.
الطريقُ ثقيلٌ والحواجزُ الّتي فِرضَتْها الحربُ تَزيدُه ثِقْلاً، وعَينَاهُ تبحثانِ في كلِّ الوجوهِ عن وجهٍ واحدٍ فَقَط. زوجتُه تُبسملُ وأمُّه لا تخبّئ دموعَها، وهي تشرحُ له كدليلٍ سياحيٍّ، مع عبارةِ:
- ألَا تَذكرُ القريةَ وذاكَ الشارعَ ومدرستَك هذه؟
هو لا يجيبُ، بل يغرقُ بعالمٍ لا ملامحَ له
توقّفتْ السّيارةُ عندَ الحاجزِ الأخيرِ... صرخَ بأعلَى صَوتِه:
مَرحَباً... شباب، أينَ ناصرٌ؟
خبّأَت زوجتُه وجهَهَا بكفيّهَا خجلًا، وحاولت والدَتُه ثَنْيَهُ عَنِ النّزولِ من السّيّارةِ... وأخذتْ تتوسَّلُ إليهِ:
- أُقبّلُ يديكَ لا تفْضَحْنا.
لكنّهُ تجاهلَ رجاءَها، وغابَ عن نظرها بين الجنودِ الّذين ذُهلوا لمرْآه، وتحلَّقُوا حولَه.
منهم من قبَّلَ رأسَه، ومنهم من عانَقَه، وبعضُهم من اِكْتَفى بلمسِ كَتِفِه ...
يرْأَبُ عنقَه؛ ليحلّقَ بنظره فوق الرؤوسِ، ويصرخُ بأعلى صوتِه: أين أنتَ يا رفيقي؟ تعطّلَ مرورُ السّياراتِ فقد كانَ المشهدُ شهيّاً للمتابعةِ، ونسيَ الرّكابُ ضجرَهم وتردّد صوتٌ قويٌ من خلفِ المحرسِ الخشبيّ تحتَ الجسرِ:
ظَنَنتُكَ مُتَّ يا فتى.
يطلُّ الرَّجلُ من وراءِ الصّدى، يعرُجُ برِجْلٍ حديديّةٍ وأُخْرَى حقيقيّةٍ، وشوقٍ لا يـُقدّرُ بعناقٍ أبكى الحضورَ، وكطفلٍ فازَ بهديّةِ العيد ِ يهزُّ منكبيْ الرجلِ، دافعاً إيَّاهُ تِجاهَ ذهولِهم المبلّلِ بدموعِ الفرح ِ.
ـ هذه أُمّي وهذه زوجَتي وهذا ولدي الحبيبُ... أُعرّفُكم... هذا ناصرٌ.
يحدِّقُ بعينيْ أُمِّه كأنّه يراهُما للمرّة الأُولى ويُتابعُ:
-عندما نَسفَ اللُّغمُ ساقَ ناصر، انهالَ الرّصاصُ عليْنا من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، حينها قالَ لي أنا ذاهبٌ حتماً فلْتَبقَ أنتَ، وغطّاني بِجَسَدِه.
تمت
صديقة صديق علي
فقدان الهوية والاكتمال بالآخر
لا يمكننا ان نتناول نصًا للأستاذة صديقة علي ،إلا بالكثير من الإنبهار و القلق و التوغل. لأنها استطاعت عبر مسيرتها القصصية المذهلة أن تخلق بصمة مهيمنة تسطو فيها لغة الخطاب السردي على عالم القارئ.
فمن عمق الواقع المعاش بمرارته و قسوته ،إلى فضاء السرد التخيلي الشيق الذي يتمحور حول فكرة وجودية واحدة، الانتماء إلى الآخر هو الطريق إلى معرفة الذات.
فمن هو ناصر؟ هذا اللغز العائم في ذاكرة مشبوهة، في محيط وجداني تتجاذب أطرافه عائلة محبة، أعجزها
فقدان ذاكرة العائد من حرب قاهرة، متشظيَا بلا قرار، عاجزًا عن العودة،مصلوبًا في انفصال عن الواقع مرددًا اسم شخص مجهول لا يعرفه أحد.
يبدأ السرد الكلاسيكي بتلك اللغة الرصينة الشاعريةالمتمكنة،التي تصف حال البطل، بصوت الراوي العليم الواثق،، وتنتقل إلينا الحالة الفوضوية الضبابية التي تغلف المشهد بأحاسيس البطل المدان بفقدان ذاكرته، بخوائه ولا انتمائه و قد تنازعته فراغات شاسعة، دامية، انسلاخ غير مرئي عن العاطفة الإنسانية،عن الوعي الجمعي،، محكوم بتوقعات تتقن صياغتها الكاتبة بذكاء لتجبر قارئها على مشاركة وعيه مع البطل الفاقد لوجوده في وعيه الحاضر والغارق في مسافة زمنية مجهولة غيبتها حرب دموية ساخرة وقاصمة اغتالت الإنسان أولًا قبل شجاعته ومبادئه وفكره.
وكما ورد في النص:
الطريقُ ثقيلٌ والحواجزُ الّتي فِرضَتْها الحربُ تَزيدُه ثِقْلاً، وعَينَاهُ تبحثانِ في كلِّ الوجوهِ عن وجهٍ واحدٍ فَقَط.
استطاعت الكاتبة إظهار ملامح الشخصية الرئيسية المنتهكة ببراعة من خلال إضاءات عابرة للشخصيات المحيطة بها، على شكل ومضات حوارية منتقاة، تمثلت بآراء الطبيب وتوقعاته ،بأدعية الوالدة وتشبثها بالموروث الديني والمجتمعي وإحساسها بالخجل من كينونة ابنها المختل، بحيرة الزوجة واضطرابها،، هنا تنتصب الشخصية بعجزها التراجيدي النبيل أمام عجز الآخر (الزوجة - الأم) وجهلهما المطلق ،مقابلة ذكية توجه الحدث الذي يبقى خفي المعالم حتى ينشطر المشهد إلى رؤية جلية ،تكشف الحقيقة لكل من تورط في فضاء السرد، من الشخصيات العائمة على هامش السرد إلى البطل ذاته الذي سيسترد ذاكرته الموقوتة إلى القارئ
الذي يواكب حبكة وجدانية شيقة تصل لمفصل استثنائي.
تتكشف الحقيقة في اقتطاع زمني رحب حسيًا،وصفته الكاتبة ببلاغة وتمكن ،،الحاجز، الجنود، توقف السيارات، ارتباك العائلة ثم عودة الذاكرة المفاجئة. لكن النهاية الغير متوقعة، تجبرنا على الذهول، فالبطل الذي شوهته الحرب، وعبثت بكيانه، و و اغتالت روحه، وخلقت له أوهامَا بديلة عن واقعه، جعلته سجين مشهد واحد ينقذه فيه (ناصر البطل) من الموت، فالذاكرة الإنسانية هي رصد لحالة استبسال شجاعة،، تتقد في اللاوعي وفي اللاشعور وتظهر للعيان في عيني البطل الكسير على شكل وهم شبحي لا وجود له، يعانق الجندي المهزوم داخليَا ويرتق جرحه الأبدي. وكما ورد في النص
هذه أُمّي وهذه زوجَتي وهذا ولدي الحبيبُ... أُعرّفُكم... هذا ناصرٌ.
يحدِّقُ بعينيْ أُمِّه كأنّه يراهُما للمرّة الأُولى
تقول الكاتبة
هَلْ الحُبُّ ممكنٌ دونَ ذاكرةٍ حتّى ولو مُلُّحَ بالصّورِ؟
الاستبسال في الحرب حب، الاستشهاد في سبيل الوطن حب، وفاء الجندي لأخيه المقاتل على ارض المعركة حب. لا ينفصل الجندي الإنسان عن رفيقه بل يكتمل به، وتتضح معالم (الأنا) المليئة بالتوجس والخوف والترقب من خلال ذاكرة الإدراك الغريزية الأولى
نحن نكتمل بالآخر ونحقق إنسانيتنا ونردم هوة ذاتيتنا المحضة بتكاملنا مع من نحب حتى في أقسى التجارب الإنسانية فظاعة وقهرًا.
نص مذهل أستاذة صديقة
Kinana Eissa
18-11-2021