الجزء الأول
كان المفكر العلامة عباس محمود العقاد - رحمة الله عليه - يرى أن الشاعر الذي لا يعرف بشعره لا يستحق أن يعرف (1)، ولكي يعرف الشاعر بشعره ينبغي عليه أن يكتب ما في نفسه ولا يكون قديما متأثرا للأقدمين يحذو حذوهم وينظر إلى ما حوله بالعين التي كانوا بها ينظرون، فالشاعر هو من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي لك أشكالها وألوانها (2)، وليست مزيّة الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه؟ وإنما مزيّته أن يقول لك ما هو؟ ويكشف لك عن لبابه وصلته بالحياة (3)، وليس همّ الناس من القصيدة أن يتسابقوا في أشواط السمع والبصر وإنما همّهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه (4)، والمحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فهو شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى العطر فذلك شعر الطبع القوي والحياة الجوهرية. (5)
والقصيدة الشعرية لدى العقاد ليست مجرد خواطر مبعثرة تتجمع في إطار موسيقي وإنما هي عمل محكم تام الخلق والتكوين تتناسق جزئيات معانيه وتترابط الخواطر الوجدانية والفكرية فيه ترابطا دقيقا، إن القصيدة " ينبغي أن تكون عملا فنيا تاما يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. (6)
وتأسيسا على ذلك كان للعقاد رأي سلبي شديد السلبية في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي وخلاصة هذا الرأي أن شعر أحمد شوقي هو شعر القشور والطلاء وأنه شعر صنعة، شعر لا يدل على شخصية قائله ولا طبعه، شعر أشبه بالوجوه المستعارة فيها كل ما في وجوه الناس من ملامح وبالرغم من ذلك ليس فيها ملامح إنسان معين، وقد كتب العقاد في حق شوقي وشعره كلاما يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى ما يمكن تسميته إن صح التعبير بـ "الردح النقدي" علما بأن هذا الردح كانت له أسبابه التي لا يتسع المقام للخوض فيها فقد كان باختصار شديد ردحا بردح فليرجع من رغب في ذلك إلى الدوريات المأجورة من أحمد شوقي إبان ذلك الزمان كعكاظ والصاعقة اللتين كان جل همهما سب العقاد والمازني والتشنيع عليهما ووصمهما بكل ما هو فاحش وبذيء من الألقاب والصفات (7)، ومن هذا الردح النقدي الذي تضمنته مقدمة كتاب "الديوان" الذي أصدره العقاد بالاشتراك مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني عام 1921 نجتزئ هذه السطور: كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتا لا استضخاما لشهرته ولا لمنعة في أدبه من النقد فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا من أهون الهينات ولكن تعففا عن شهرة سعى إليها سعي الكسيح ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها طي الضريح ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا أرادوا شيئا لسبب يقنعهم لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل يوم زفة وعلى كل باب وقفة" (
وهذه السطور أيضا: وكأنه يعتقد اعتقاد اليقين أن الرفعة كل الرفعة والسمعة حق السمعة أن يشتري ألسنة السفهاء ويكم أفواههم، فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور في مناسبة وغير مناسبة وبحق أو بغير حق فقد تبوأ مقعد المجد وتسنّم ذروة الخلود، وعفاء بعد ذلك على الأفهام والضمائر وسحقا للمقدرة والإنصاف وبعدا للحقائق والظنون وتبا للخجل والحياء فإن المجد سلعة تقتنى ولديه الثمن في الخزانة " (9) ومنها أيضا قوله: " ومن نظر إلى عشرة ممسوخين في بقعة واحدة فاشمأزت نفسه من رؤية عاهاتهم ومقاذرهم خليق أن يدرك اشمئزازنا حين ننظر فنرى حولنا العشرات والمئات من ذوي العاهات النفسية البارزة يستحسنون مثل هذا الشعر على غثاثته وعواره، ومن كان في ريب من ذلك فليتحققق في تتابع المدح لشوقي ممن لا يمدح الناس إلا مأجورا؛ فقد علم الخاصة والعامة شأن تلك الخرق المنتنة ونعني بها بعض الصحف الأسبوعية، وعرف من لم يعرف أنها ما خلقت إلا لثلب الأعراض والتسول بالمدح والذم وأن ليس للحشرات الآدمية التي تصدرها مرتزق غيرفضلات الجبناء وذوي المآرب والحزازات" (10)
وقد ظل العقاد متمسكا برأيه هذا سنوات طويلة شن خلالها حملات نقدية شعواء على أحمد شوقي وشعره وهي حملات في ميزان الإنصاف لم تخل قط من قسوة وعنف مسرفين وتحيّف وتحامل إلى حد كبير بقطع النظر عن الآثار الإيجابية لتلك الحملات التي استفادها الشعر والشعراء واستفادتها الحركة النقدية أيضا فقد أفضت دون أدنى شك إلى حراك شعري ونقدي ليس على مستوى الساحة الشعرية المصرية فحسب بل على مستوى الساحة الشعرية والنقدية العربية بأكملها، وللتمثيل على أن موقف العقاد النقدي من شوقي لم يتغير كثيرا بعد وفاته (على عكس صديقه المازني) يكفينا ما قاله في هذه السطور بعد عدة سنوات وبالتحديد عام 1937: "في أحمد شوقي ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا وهبط شعر الشخصية إلى حيث لا تتبين لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس ... وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس الخاصة إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز وليس هو من أجل ذلك بالشعر الذي هو رسالة حياة ونموذج من نماذج الطبيعة وإنما ذاك ضرب من المصنوعات غلا أو رخص على هذا التسويم". (11) ، ويستطرد فيقول "لم يكن لشوقي شعر يدل على مزية نفسية أو صفات شخصية لا يجاري فيها الآخرين أو لا تتكرر في النسخ الآدمية الأخرى تكرار المنقولات والمحكيات والمصنوعات وهذا نقص ظهر في أبواب شعره كلها فلا فرق بين حديثه وقديمه ولا بين الموضوعات العامة منه والخاصة". (12)
ومن حملات العقاد الشعواء الأخيرة على أحمد شوقي وشعره قبل أن يتوفى الله شوقي إلى رحمته في أكتوبر 1932 ويتوقف العقاد عن مهاجمته - وإن لم يخفف كثيرا من غلواء رأيه في الشاعر وشعره كما ألمعنا من قبل - حملته التي تضمنها كتيب صغير الحجم أصدره عام 1931 وتناول فيه بالنقد القاسي العنيف مسرحية شوقي الشعرية "قمبيز" (13) وهي آخر مسرحياته الشعرية، والكتيب يحمل عنوان "رواية قمبيز في الميزان" (14) وقد مزق العقاد المسرحية شر ممزق فلم يترك جانبا منها إلا وقال فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر، و"مسرحية قمبيز" أو "رواية قمبيز" كما يسميها العقاد التي نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي تدور على قصة قديمة ملخصها أن قمبيز ملك فارس (القرن السادس ق.ب) خطب ابنة أمازيس (أحمس الثاني) فدس هذا عليه نتيتاس ابنة سلفه الملك أبرياس (وهاب رع) ليتزوجها بدلا من ابنته وعندما انكشف الأمر لقمبيز غضب غضبا شديدا، وقرر أن يغزو مصر ليعاقب أمازيس على غشه وتدليسه واستهانته به في أمر خاص كهذا، ولما كان قمبيز يجهل كيف له أن يفعل ذلك فقد استطلع أخبار مصر واستقصى أسهل الطرق لغزوها من ضابط يوناني يدعى فانيس خان مصر وهرب إلى بلاط فارس، ولم يكن في الواقع حنق قمبيز على أمازيس ملك مصر ورغبته في عقابه على العروس المزيفة التي دسها عليه السبب الحقيقي لغزوه مصر بل كان السبب الحقيقي في الواقع هو ولعه بالغزو والتوسع وحنقه على أمازيس لأنه درج منذ سنوات على ممالئة أعداء الفرس.
زعم العقاد أن ما دفعه إلى تأليف كتيّبه سببان رئيسيان (15):
أولهما تصحيح الشبهات التاريخية التي تمس سمعة مصر القديمة وقد تمس كرامة المصريين المحدثين.
وثانيهما إقامة معيار للشاعرية المبتكرة يثوب إليه بعض القراء الذين يستخفّون بالشعر ويجعلونه من الخسة والهوان بحيث تغني فيه صناعة اللفظ والطلاء.
ويرى العقاد أن فضل الشاعر الذي ينظم الروايات التمثيلية (المسرحيات الشعرية) يبدو في ثلاثة جوانب (16): (أولا) حسن النظم والصياغة (ثانيا) تمحيص حوادث التاريخ (ثالثا) ابتكار الخيال فيما قصر فيه المؤرخون، وقد جانب شوقي التوفيق في الجوانب الثلاثة.
ولا أود الدخول في تفاصيل عملية التمزيق العنيفة القاسية التي أجراها العقاد في مفاصل المسرحية سواء من حيث النظم والصياغة أو تمحيص الحوادث التاريخية أو الخيال الذي يملأ به دائما المؤلف ما يصادفه في موضوعه التاريخي من فجوات - ولا تخلو مؤاخذات العقاد وملاحظاته على شوقي في تلك الجوانب من وجاهة أحيانا بل هي وجيهة في كثير من الأحيان - وإنما الذي يهمني أن أسلط الضوء عليه هنا في هذه المقالة هو النص الشعري الهجائي الذي ألحقه العقاد بآخر كتيبه تحت عنوان "شوقي بين يدي قمبيز" (17) ووصفه بـأنه "رواية شعرية غير تمثيلية" والنص هجائي كما ذكرنا ولكنه نص هجائي من طراز فريد فقد جاء في شكل لم نعهده من قبل في تراثنا من شعر الهجاء، جاء في شكل مسرحي وليس في شكل قصيدة أو مقطوعة شعرية، ومن الغريب والمدهش أن أغلب من تناولوا هذه المسرحية ونقد العقاد لها - إن لم يكونوا كلهم - لم يلتفتوا إلى هذا النص بالرغم من تفرده كنص شعري هجائي بشكل عام وتفرده بشكل خاص كنص يندرج ضمن كتابات العقاد النقدية السلبية عن شوقي وما يتسم به من أهمية في سياق تحليل رأي العقاد في شعر شوقي، ومن التفتوا إلى النص من النقاد مروا به مع الأسف مرور الكرام.
النص يقع في مائة بيت وثمانية من مجزوء بحر الرجز(مستفعلن مستفعلن) ومن قافية واحدة لم تتغير حتى آخر النص وفي الواقع أن العقاد كان متعمدا ذلك، كان متعمدا أن يجعل النص كله من قافية واحدة كنوع من التحدي فقد أخذ على شوقي في بداية نقده للمسرحية أنه قد هبط بالنظم فيها إلى حد السخف والغثاثة؛ فالنظم في رواية قمبيز من وجهة نظر العقاد يعاني من قصر النفس واضطراب القوافي والأوزان لأن جمال النظم في الروايات التمثيلية التي تتلى على الأسماع - بحسب رأيه - يتمثل في انسجام القافية (18) وألا تفاجا الآذان بالنقلة البعيدة في الموقف الواحد وهو كلام في جانب منه سليم من وجهة النظر المسرحيه بل يعد من بدهيات الكتابة السرحية
وأيا كان اعتذار شوقي في تغيير الأوزان موقفا بعد موقف فلا يمكن لأحد - من وجهة نظر العقاد - أن يعذره حين يغير الوزن في البيتين الاثنين يلقي بهما الممثل والممثلان في الحوار الواحد أو في النفس الواحد فإذا أحد البيتين من بحر وقافية وإذا البيت الثاني من بحر وقافية أخرى، ويخلص العقاد من ذلك إلى أن شوقي قد هبط في نظمه إلى درك السخف والغثاثة كما سبق القول وقد هبط إلى هذا الدرك مع الأسف لغير ضرورة فنية ولغير حكمة إذ إن جميع مواقف الرواية التي هي على هذا النمط مما يسهل نظمه من بحر واحد وقافية واحدة أيضا ولا سيما تلك البحور السهلة الذلول التي اختارها شوقي وخفيت فيها نغمة الوزن حتى لا تحس إلا بتلمس وطول إصغاء، فالعقاد جعل نصه الحواري غير التمثيلي من وزن واحد وقافية واحدة حتى يبرهن عمليا على ما وصم نظم شوقي من هبوط.
يتضمن النص ثلاث شخصيات رئيسية هي: الغازي الفارسي قمبيز وكاهنه الأكبر سابور والشاعر أحمد شوقي وثمة شخصيات أخرى ثانوية بل أقل من أن توصف بذلك، ومحور النص يدور حول محاكمة قمبيز لشوقي بسبب تهجمه على شخصه وشعبه وجنود جيشه، والنص من أوله إلى آخره نص هجائي كما سبق أن ذكرنا ولكنه يأخذ شكلا مختلفا عن قصائد الهجاء كما عهدناها في تراثنا الشعري فهو نص مسرحي - وإن كان مسرحيا غير تمثيلي - بحسب وصف العقاد له ولكنه في جوهره لا يختلف عن أي قصيدة من قصائد الهجاء لدى الحطيئة أو دعبل الخزاعي (19) أو حتى عبد الحميد الديب (20) فالعقاد في نصه يحاول أن يجرد شوقي من كل فضيلة ويلصق بشخصه وشعره كل رذيلة بوضعه في هذا النص موضع السخرية الشديدة والاستهزاء البالغ.
تتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتت
في كتابه الذي سيصدر بعنوان "التحديق في الظلال.. حفريات في زوايا أدبية مهملة" دراسة بعنوان "العقاد يهجو شوقي" وهي عن نص أدبي لم يلفت انتباه أغلب الدارسين والنقاد الذين تناولوا بالدراسة والنقد تلك المرحلة من تاريخنا الأدبي ومن انتبهوا إليه منهم انتبهوا إليه انتباه الكرام، وهو نص شعري هجائي من طراز فريد فقد جاء في شكل لم نعهده من قبل في تراثنا من شعر الهجاء .. جاء في شكل مسرحي وليس في شكل قصيدة أو مقطوعة شعرية، ولم يكن هذا فقط ما جعله مهما وإنما لأنه يتضمن في تضاعيف الهجاء جوانب من رؤية العقاد وموقفه الفكري والشخصي من أحمد شوقي أمير الشعراء ومن شعره،
كان المفكر العلامة عباس محمود العقاد - رحمة الله عليه - يرى أن الشاعر الذي لا يعرف بشعره لا يستحق أن يعرف (1)، ولكي يعرف الشاعر بشعره ينبغي عليه أن يكتب ما في نفسه ولا يكون قديما متأثرا للأقدمين يحذو حذوهم وينظر إلى ما حوله بالعين التي كانوا بها ينظرون، فالشاعر هو من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي لك أشكالها وألوانها (2)، وليست مزيّة الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه؟ وإنما مزيّته أن يقول لك ما هو؟ ويكشف لك عن لبابه وصلته بالحياة (3)، وليس همّ الناس من القصيدة أن يتسابقوا في أشواط السمع والبصر وإنما همّهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه (4)، والمحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فهو شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى العطر فذلك شعر الطبع القوي والحياة الجوهرية. (5)
والقصيدة الشعرية لدى العقاد ليست مجرد خواطر مبعثرة تتجمع في إطار موسيقي وإنما هي عمل محكم تام الخلق والتكوين تتناسق جزئيات معانيه وتترابط الخواطر الوجدانية والفكرية فيه ترابطا دقيقا، إن القصيدة " ينبغي أن تكون عملا فنيا تاما يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. (6)
وتأسيسا على ذلك كان للعقاد رأي سلبي شديد السلبية في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي وخلاصة هذا الرأي أن شعر أحمد شوقي هو شعر القشور والطلاء وأنه شعر صنعة، شعر لا يدل على شخصية قائله ولا طبعه، شعر أشبه بالوجوه المستعارة فيها كل ما في وجوه الناس من ملامح وبالرغم من ذلك ليس فيها ملامح إنسان معين، وقد كتب العقاد في حق شوقي وشعره كلاما يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى ما يمكن تسميته إن صح التعبير بـ "الردح النقدي" علما بأن هذا الردح كانت له أسبابه التي لا يتسع المقام للخوض فيها فقد كان باختصار شديد ردحا بردح فليرجع من رغب في ذلك إلى الدوريات المأجورة من أحمد شوقي إبان ذلك الزمان كعكاظ والصاعقة اللتين كان جل همهما سب العقاد والمازني والتشنيع عليهما ووصمهما بكل ما هو فاحش وبذيء من الألقاب والصفات (7)، ومن هذا الردح النقدي الذي تضمنته مقدمة كتاب "الديوان" الذي أصدره العقاد بالاشتراك مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني عام 1921 نجتزئ هذه السطور: كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتا لا استضخاما لشهرته ولا لمنعة في أدبه من النقد فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا من أهون الهينات ولكن تعففا عن شهرة سعى إليها سعي الكسيح ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها طي الضريح ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا أرادوا شيئا لسبب يقنعهم لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل يوم زفة وعلى كل باب وقفة" (
وقد ظل العقاد متمسكا برأيه هذا سنوات طويلة شن خلالها حملات نقدية شعواء على أحمد شوقي وشعره وهي حملات في ميزان الإنصاف لم تخل قط من قسوة وعنف مسرفين وتحيّف وتحامل إلى حد كبير بقطع النظر عن الآثار الإيجابية لتلك الحملات التي استفادها الشعر والشعراء واستفادتها الحركة النقدية أيضا فقد أفضت دون أدنى شك إلى حراك شعري ونقدي ليس على مستوى الساحة الشعرية المصرية فحسب بل على مستوى الساحة الشعرية والنقدية العربية بأكملها، وللتمثيل على أن موقف العقاد النقدي من شوقي لم يتغير كثيرا بعد وفاته (على عكس صديقه المازني) يكفينا ما قاله في هذه السطور بعد عدة سنوات وبالتحديد عام 1937: "في أحمد شوقي ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا وهبط شعر الشخصية إلى حيث لا تتبين لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس ... وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس الخاصة إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز وليس هو من أجل ذلك بالشعر الذي هو رسالة حياة ونموذج من نماذج الطبيعة وإنما ذاك ضرب من المصنوعات غلا أو رخص على هذا التسويم". (11) ، ويستطرد فيقول "لم يكن لشوقي شعر يدل على مزية نفسية أو صفات شخصية لا يجاري فيها الآخرين أو لا تتكرر في النسخ الآدمية الأخرى تكرار المنقولات والمحكيات والمصنوعات وهذا نقص ظهر في أبواب شعره كلها فلا فرق بين حديثه وقديمه ولا بين الموضوعات العامة منه والخاصة". (12)
ومن حملات العقاد الشعواء الأخيرة على أحمد شوقي وشعره قبل أن يتوفى الله شوقي إلى رحمته في أكتوبر 1932 ويتوقف العقاد عن مهاجمته - وإن لم يخفف كثيرا من غلواء رأيه في الشاعر وشعره كما ألمعنا من قبل - حملته التي تضمنها كتيب صغير الحجم أصدره عام 1931 وتناول فيه بالنقد القاسي العنيف مسرحية شوقي الشعرية "قمبيز" (13) وهي آخر مسرحياته الشعرية، والكتيب يحمل عنوان "رواية قمبيز في الميزان" (14) وقد مزق العقاد المسرحية شر ممزق فلم يترك جانبا منها إلا وقال فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر، و"مسرحية قمبيز" أو "رواية قمبيز" كما يسميها العقاد التي نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي تدور على قصة قديمة ملخصها أن قمبيز ملك فارس (القرن السادس ق.ب) خطب ابنة أمازيس (أحمس الثاني) فدس هذا عليه نتيتاس ابنة سلفه الملك أبرياس (وهاب رع) ليتزوجها بدلا من ابنته وعندما انكشف الأمر لقمبيز غضب غضبا شديدا، وقرر أن يغزو مصر ليعاقب أمازيس على غشه وتدليسه واستهانته به في أمر خاص كهذا، ولما كان قمبيز يجهل كيف له أن يفعل ذلك فقد استطلع أخبار مصر واستقصى أسهل الطرق لغزوها من ضابط يوناني يدعى فانيس خان مصر وهرب إلى بلاط فارس، ولم يكن في الواقع حنق قمبيز على أمازيس ملك مصر ورغبته في عقابه على العروس المزيفة التي دسها عليه السبب الحقيقي لغزوه مصر بل كان السبب الحقيقي في الواقع هو ولعه بالغزو والتوسع وحنقه على أمازيس لأنه درج منذ سنوات على ممالئة أعداء الفرس.
زعم العقاد أن ما دفعه إلى تأليف كتيّبه سببان رئيسيان (15):
أولهما تصحيح الشبهات التاريخية التي تمس سمعة مصر القديمة وقد تمس كرامة المصريين المحدثين.
وثانيهما إقامة معيار للشاعرية المبتكرة يثوب إليه بعض القراء الذين يستخفّون بالشعر ويجعلونه من الخسة والهوان بحيث تغني فيه صناعة اللفظ والطلاء.
ويرى العقاد أن فضل الشاعر الذي ينظم الروايات التمثيلية (المسرحيات الشعرية) يبدو في ثلاثة جوانب (16): (أولا) حسن النظم والصياغة (ثانيا) تمحيص حوادث التاريخ (ثالثا) ابتكار الخيال فيما قصر فيه المؤرخون، وقد جانب شوقي التوفيق في الجوانب الثلاثة.
ولا أود الدخول في تفاصيل عملية التمزيق العنيفة القاسية التي أجراها العقاد في مفاصل المسرحية سواء من حيث النظم والصياغة أو تمحيص الحوادث التاريخية أو الخيال الذي يملأ به دائما المؤلف ما يصادفه في موضوعه التاريخي من فجوات - ولا تخلو مؤاخذات العقاد وملاحظاته على شوقي في تلك الجوانب من وجاهة أحيانا بل هي وجيهة في كثير من الأحيان - وإنما الذي يهمني أن أسلط الضوء عليه هنا في هذه المقالة هو النص الشعري الهجائي الذي ألحقه العقاد بآخر كتيبه تحت عنوان "شوقي بين يدي قمبيز" (17) ووصفه بـأنه "رواية شعرية غير تمثيلية" والنص هجائي كما ذكرنا ولكنه نص هجائي من طراز فريد فقد جاء في شكل لم نعهده من قبل في تراثنا من شعر الهجاء، جاء في شكل مسرحي وليس في شكل قصيدة أو مقطوعة شعرية، ومن الغريب والمدهش أن أغلب من تناولوا هذه المسرحية ونقد العقاد لها - إن لم يكونوا كلهم - لم يلتفتوا إلى هذا النص بالرغم من تفرده كنص شعري هجائي بشكل عام وتفرده بشكل خاص كنص يندرج ضمن كتابات العقاد النقدية السلبية عن شوقي وما يتسم به من أهمية في سياق تحليل رأي العقاد في شعر شوقي، ومن التفتوا إلى النص من النقاد مروا به مع الأسف مرور الكرام.
النص يقع في مائة بيت وثمانية من مجزوء بحر الرجز(مستفعلن مستفعلن) ومن قافية واحدة لم تتغير حتى آخر النص وفي الواقع أن العقاد كان متعمدا ذلك، كان متعمدا أن يجعل النص كله من قافية واحدة كنوع من التحدي فقد أخذ على شوقي في بداية نقده للمسرحية أنه قد هبط بالنظم فيها إلى حد السخف والغثاثة؛ فالنظم في رواية قمبيز من وجهة نظر العقاد يعاني من قصر النفس واضطراب القوافي والأوزان لأن جمال النظم في الروايات التمثيلية التي تتلى على الأسماع - بحسب رأيه - يتمثل في انسجام القافية (18) وألا تفاجا الآذان بالنقلة البعيدة في الموقف الواحد وهو كلام في جانب منه سليم من وجهة النظر المسرحيه بل يعد من بدهيات الكتابة السرحية
وأيا كان اعتذار شوقي في تغيير الأوزان موقفا بعد موقف فلا يمكن لأحد - من وجهة نظر العقاد - أن يعذره حين يغير الوزن في البيتين الاثنين يلقي بهما الممثل والممثلان في الحوار الواحد أو في النفس الواحد فإذا أحد البيتين من بحر وقافية وإذا البيت الثاني من بحر وقافية أخرى، ويخلص العقاد من ذلك إلى أن شوقي قد هبط في نظمه إلى درك السخف والغثاثة كما سبق القول وقد هبط إلى هذا الدرك مع الأسف لغير ضرورة فنية ولغير حكمة إذ إن جميع مواقف الرواية التي هي على هذا النمط مما يسهل نظمه من بحر واحد وقافية واحدة أيضا ولا سيما تلك البحور السهلة الذلول التي اختارها شوقي وخفيت فيها نغمة الوزن حتى لا تحس إلا بتلمس وطول إصغاء، فالعقاد جعل نصه الحواري غير التمثيلي من وزن واحد وقافية واحدة حتى يبرهن عمليا على ما وصم نظم شوقي من هبوط.
يتضمن النص ثلاث شخصيات رئيسية هي: الغازي الفارسي قمبيز وكاهنه الأكبر سابور والشاعر أحمد شوقي وثمة شخصيات أخرى ثانوية بل أقل من أن توصف بذلك، ومحور النص يدور حول محاكمة قمبيز لشوقي بسبب تهجمه على شخصه وشعبه وجنود جيشه، والنص من أوله إلى آخره نص هجائي كما سبق أن ذكرنا ولكنه يأخذ شكلا مختلفا عن قصائد الهجاء كما عهدناها في تراثنا الشعري فهو نص مسرحي - وإن كان مسرحيا غير تمثيلي - بحسب وصف العقاد له ولكنه في جوهره لا يختلف عن أي قصيدة من قصائد الهجاء لدى الحطيئة أو دعبل الخزاعي (19) أو حتى عبد الحميد الديب (20) فالعقاد في نصه يحاول أن يجرد شوقي من كل فضيلة ويلصق بشخصه وشعره كل رذيلة بوضعه في هذا النص موضع السخرية الشديدة والاستهزاء البالغ.
تتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتت
في كتابه الذي سيصدر بعنوان "التحديق في الظلال.. حفريات في زوايا أدبية مهملة" دراسة بعنوان "العقاد يهجو شوقي" وهي عن نص أدبي لم يلفت انتباه أغلب الدارسين والنقاد الذين تناولوا بالدراسة والنقد تلك المرحلة من تاريخنا الأدبي ومن انتبهوا إليه منهم انتبهوا إليه انتباه الكرام، وهو نص شعري هجائي من طراز فريد فقد جاء في شكل لم نعهده من قبل في تراثنا من شعر الهجاء .. جاء في شكل مسرحي وليس في شكل قصيدة أو مقطوعة شعرية، ولم يكن هذا فقط ما جعله مهما وإنما لأنه يتضمن في تضاعيف الهجاء جوانب من رؤية العقاد وموقفه الفكري والشخصي من أحمد شوقي أمير الشعراء ومن شعره،