د. علي خليفة - القصة عند العرب قديمًا

ذكر رولان بارت وغيره من النقاد أن القص فطرة عند كل الشعوب وفي كل العصور، وحينما كان الإنسان يعيش في الكهوف كان يقص على أسرته قصص صيده، وصراعه مع بعض الحيوانات المفترسة. وفي الشعر الجاهلي نرى قصصًا كثيرًا، وأكثره عن رحلات الشاعر في الصحراء بصحبة ناقته وكلابه، وخوضه مع كلابه معارك مع بعض الفرائس كالبقر الوحشي، وأيضًا نرى فيه قصصًا عن المعارك التي تخوضها قبيلة الشاعر، ودوره في هذه المعارك.
ويكثر الحس القصصي في قصائد بعض الشعراء الذين عاشوا في العصر الجاهلي، كلبيد بن ربيعة الشاعر المخضرم، وعنترة بن شداد الذي يقص علينا في شعره إلى جانب أخبار بطولاته بعض مواقف تعبر عن حبه لعبلة.
ولا ننتظر من هذا الشعر الجاهلي الذي به روح قصصي أن تتوافر فيه عناصر القصة، بالمفهوم الذي نعرفه في العصر الحديث عن القصة، فالقصة في هذا الشعر الجاهلي تعني ببساطة وجود الأحداث والشخصيات والبيئة المكانية والزمانية، ولكن الصراع قد يكون غير واضح في أكثرها، وكذلك وصف الشخصيات وتطورها لم يعتن بهما كثيرًا الشاعر الجاهلي في شعره ذي الروح القصصي.
ومع ما في بعض هذا الشعر الجاهلي من وجود روح قصصي فقد أطلق على الشعر الجاهلي كله أنه شعر غنائي، فهو ليس شعرًا تمثيليًّا كمسرحيات الإغريق الشعرية، وليس شعرًا ملحميًّا يطول في إطار قصصي يشمل القصيدة كلها، كما نرى في ملحمتي الإلياذة والأوديسة لهوميروس.
هذا عن القص في الشعر الجاهلي. أما عن مجالس القص في ذلك العصر فقد كانت موجودة، ويذكر بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" أن العربي في الجاهلية كما كان يأنس بسماع الشعراء فقد كان يأنس أيضًا بسماع قصص القصاص في سمر الليل أمام الخيام في ضوء القمر.
ويشكك بروكلمان وشوقي ضيف في صحة كل القصص الجاهلية التي وردت في كتب تناولت هذه القصص، "كشرح النقائض" لأبي عبيدة و"الحيوان" للجاحظ و"الأغاني" للأصفهاني، وهما يقولان: إن هذه القصص التي وردت في هذه الكتب وغيرها عن الجاهليين تعطينا صورة لما كان عليه القصص في ذلك العصر.
والنضر بن الحارث – وهو أحد الشعراء والقصاص – حاول أن يصرف الناس في مكة عن استماع القرآن بحكاياته عن ملوك الفرس كرستم واسفنديار، وقد أطلق القرآن الكريم على حكاياته أساطير الأولين؛ لما فيها من كذب، ومخالفة للوقائع؛ ولأنها ليس وراءها أهداف محمودة بخلاف قصص القرآن الكريم الذي وصفه الله تعالى بقوله تعالى( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) ، وكان فيه حكم ومواعظ للناس، وهذا ما لم يفهمه النضر بن الحارث.
ومن قصص العرب التي كان يقولها القصاص في الجاهلية أخبار حروبهم، ومغامراتهم في الصحراء مع وحوشها، وأيضًا هناك القصص العاطفية عن العشاق، كقصة المرقش مع محبوبته، وهناك قصص الجن والسحر، وقصص عن آلهتهم الوثنية، وقصص تترامى إليهم عن الأمم المجاورة من الفرس والروم.
ولا نظن أن مكانة القاص عندهم في الجاهلية كانت مقدرة كمكانة الشاعر، فقد كان القص فن ترف. أما الشعر عند العربي فكان بالنسبة إليه فنه الأسمى الذي يأنس بسماعه، وهو ديوانهم الذي يمجد أعمالهم العظيمة، وعن طريقه ينال الشاعر من القبيلة التي تعادي قبيلته.
ومما يدل على قلة اعتناء العرب بقصاصهم في الجاهلية أننا لا نعرف عنهم غير أخبار قليلة، ولم نر أحدًا في الجاهلية يشيد بهم، كما أشادوا بالشعراء، ولعل هذه النظرة للقاص في الجاهلية كانت من أسباب عدم تطور فن القص في الجاهلية؛ ليبقى في إطار الترف والإهمال من قبل النقاد في ذلك العصر، وبعده من عصور حتى عصرنا الحديث.
ولم تكن النظرة للقصاص مقدرة في عصر صدر الإسلام كما يبدو، فينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بني إسرائيل لما قصوا هلكوا" ونرى عمر بن الخطاب في خبر ورد بكتاب "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي يوصي عبد الله بن مسعود حين ولاه إحدى الولايات، ومن نصائحه له في هذه الوصية ألا يقص لما في أحاديث القصاص من التكلف. وفي خبر آخر ورد في كتاب "ربيع الأبرار" للزمخشري أن علي بن أبي طالب سأل قصاصًا عن اسمه فقال له : أبو يحيي، فقال علي : أنت أبو اعرفوني أيها الناس.
ونرى بعض التابعين كانوا يرفضون مهنة القصاص لما يجري في كلامهم من التكلف والتزيد. والحقيقة أنني لا أعرف مدى صحة الأخبار السابقة، ولو صحت فربما كان المقصود منها النهي عن القص الذي فيه أحاديث بني إسرائيل، لما يكتنفه من الكذب – وهو يطلق عليه الإسرائيليات –، وكذلك لعل النهي عن القص في عصر صدر الإسلام للتفرغ لحفظ القرآن الكريم، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وفتح البلاد، ونشر الإسلام فيها؛ وأيضًا لأن القاص قد يتورط في الكذب بالحديث عما لا يعرف.
ويبدو أن أول من اهتم بالقص والقصاص هو معاوية بن أبي سفيان، فحين علم بأن عليًّا يقنت في صلاة الفجر، ويدعو على من حاربوه في صفين أمر القاص أن يقص بعد صلاة الفجر، ويدعو له ولأنصاره.
وكثر القصاص عند العرب في العصر الأموي، وقلت في ذلك العصر نبرة المعارضين للقص، وزادت الرغبة في سماع القصص والحكايات من الناس لكثرة الفراغ لديهم. وظهر في أول هذا العصر القصاص الجادون الذين كانوا إلى جانب موهبتهم في القص على علم بعلوم الدين كالتفسير والفقه والسير.
ويستمر القصاص الجادون الموقرون في قصصهم مع مجئ العصر العباسي الأول، ويحدثنا الجاحظ في كتاب البيان والتبيين عن كثير منهم، وينقل بعض قصصهم، ومن هؤلاء أبو حازم الأعرج، والفضل الرقاشي، ويزيد بن أبان، وأبو علي الأسواري الذي فسر القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين سنة ولم يكمله، وكان خلال تفسيره يحكي كثيرًا من القصص الدينية، وأخبار السير، والمغازي، وأيضًا من القصاص الجادين الذين تحدث عنهم الجاحظ موسى بن سيار الأسواري الذي كان يجتمع في مجلسه العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، ويفسر لهم القرآن بالعربية، والفارسية، ويقص لهم قصصًا كثيرة دينية خلال تفسيره.
وكثير من قصص هؤلاء القصاص التي وصلتنا عن الدعوة للتأمل في خلق الله، وشكره على نعمه الكثيرة، والزهد في متاع الحياة الدنيا. ومن ذلك يحكى أن أبا جعفر الصوفي القاص، قال: تكلم عبد الصمد القاص
في خلق البعوضة وفي جميع شأنها ثلاثة مجالس تامة. وكانو يقصون
في المساجد.
وفي أسلوب بعض هؤلاء القصاص سجع كانوا يحرصون عليه ليسهل على الناس حفظ قصصهم، ومن قصص هؤلاء القصاص يقول عبد الأعلى القاص: "الفقير رداؤه علقة، ومرقته سلقة، وجرزقته فلقة، وسمكته شلقة".
ويفهم من هذا أن قصص هؤلاء القصاص لم يكن بعضه حكيًا للحكايات بل كان عبارات في الزهد والتأمل في خلق الله، وأطلق عليه قصصًا؛ لأن الذين يقولون هذا الكلام غلب عليهم الحكي والقص، فصار يطلق على كل ما يرد منهم في مجالسهم قصصًا.
ولما كثر القصاص ظهر مع نهاية العصر الأموي أناس يمتهنون القص، ويرتزقون منه، ولم يكن الورع غالبًا على أكثرهم، بل كان أكثرهم يغالي في قصصه، ويذكر غريب الأخبار؛ ليجتذب إليه السامعين، وكثر المدعون بين هؤلاء القصاص، وكثر التندر بهم، ورمي بعضهم بالغفلة، كسيفويه، وأبي كعب القاص الذي يروى عنه أنه أرسل خادمه للناس الذين ينتظرون مجيئه ليقص عليهم، فقال لهم خادمه: يقول لكم أبو كعب: إنه لن يأتي اليوم؛ لأنه أصبح مخمورًا.
وبعضهم لم يكن يعرف إلا أخبارًا وحكايات قليلة، ومع ذلك يبالغ في تقدير نفسه، كهذا القاص الذي حكى الجاحظ عنه أنه لم يكن يحفظ غير قصة جرجيس، ولما حكاها في أحد مجالسه بكى شخص من مستمعيه، فقال هذا القاص: أنتم من أي شيء تبكون؟ إنما البلاء علينا معشر العلماء!
وغالبًا ما نرى هؤلاء القصاص المدعين يأتون بالغرائب في قصصهم، كهذا الذي ادعى نسبا لآدم، وحين واجهه أحد المستمعين بأن آدم أبو البشر، ولا نسب له حاول هذا القاص أن يتخلص من ورطته، فقال: فهذا الذي ذكرته نسب أخ لآدم من أمه !
وبالطبع نستدل من كلامه على شدة جهله، فآدم عليه السلام لم يكن له سابق من البشر، فقد خلقه الله، وخلق حواء من أحد أضلاعه، وجاء البشر من ذريتهما.
ونرى قاصًّا آخر مدعيًا للعلم، ويذكر في قصصه أن اسم الذئب الذي أكل يوسف هو رجحون، ويقول له أحد مستمعيه بأن يوسف لم يأكله الذئب، فيقول: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. ويعلق الجاحظ على هذه النادرة بقوله: فهذا إذًا اسم كل الذئاب؛ لأنها كلها لم تأكل يوسف.
ونرى في قصص هؤلاء القصاص المدعين الذين تناولتهم النوادر بالسخرية أحاديث غريبة، كحديث أحد القصاص عن عالم آخر غير الأرض سماه الدائسة، وقال: إنه لم ير هذا العالم أحد، ومع ذلك وصف ذلك القاص الدائسة وصفًا مسهبًا، وحين سأله أحد مستمعيه: كيف تصف الدائسة بهذه الأوصاف المسهبة وقد قلت إنه لم يرها أحد؟ فرد عليه ذلك القاص: من هذا عجبت!
وقد عرف العرب فنونًا من القص منذ العصر الجاهلي، وتطورت بعد ذلك، وأخذت شكلها الفني الكامل في العصر العباسي، ومن فنون القص هذه فن النادرة، والنادرة أقصوصة مرحة، وهي أصغر وحدة سردية، وفن النادرة كان موجودًا منذ العصر الجاهلي، ولكن لم يهتم به كجنس نثري إلا في العصر العباسي، ولا أبالغ حين أقول: إن الجاحظ هو من له الدور الأكبر في العمل على نضج هذا الجنس القصصي، بما كتبه من نوادر في كتبه، وأيضًا بما ذكره في كتبه من نقد له.
وظهرت المقامة – أحد الفنون القصصية – في القرن الرابع الهجري على يد بديع الزمان الهمذاني، وأظن أن المقامة هي الجنس الأدبي الذي خرج من النادرة، فالمقامة تطوير للنادرة، وهناك نوادر كثيرة تتشابه في أحداثها مع أحداث بعض مقامات الهمذاني، وأظن أن كتاب "اللصوص" المفقود للجاحظ بنوادره كان الحلقة التي سبقت ظهور المقامة على يد بديع الزمان، فبطل مقامات الهمذاني محتال أديب ظريف، وكذلك بعض لصوص الجاحظ في كتابه اللصوص فيهم هذه الصفات، وقد وصلتنا بعض أخباره خاصة في كتاب "نشوار المحاضرة" للتنوخي.
وأيضًا من الفنون القصصية التي عرفها العرب قديمًا الحكايات التي تطول عن النادرة، ومنها الحكايات المرحة، وحكايات الجن والسحرة، وحكايات الحب العذري التي انتشر أكثرها في نجد في العصر الأموي، كقصة قيس وليلى، وقصة قيس ولبنى، وقصة كثير وعزة.
وتتشابه الخطوط العامة لقصص الحب العذري، فينشأ فيها الحبيبان في أرض واحدة، ويهيم أحدهما بالآخر، ويقول المحب الشعر في حبيبته، ويفرق بينهما في الكبر، وحين يتقدم لأهلها خاطبًا لها يرفض لكونه شبب بها على عادة العرب آنذاك، ثم يتألم الحبيبان، وتتزوج المعشوقة من غيره، ويموتان من شدة الحب والحرمان، وغالبًا ما يدفنان
في مكان واحد، وكأن من صاغوا هذه القصص قد أرادوا أن يقولوا: إذا كان لقاء هذين الحبيبين قد استحال في الدنيا فقد جمعهما الموت، وتلاقيا فيه.
وقصص الحب العذري عبارة عن أخبار تناقلها الرواة، وجمعت في بعض الكتب على هيئة أخبار متتالية مثل كتاب "الأغاني"، وأعيدت صياغتها بعد ذلك على أيدي بعض المتصوفة مع إكسابها رموزًا تتعلق بمفهومهم للعشق الإلهي، وبمفاهيم أخرى صوفية.
والنوادر وقصص الحب العذري مجهولة المؤلف، فهي من الآداب الشعبية التي لا تثبت لها صياغة ما دامت في إطار النقل الشفهي.
وأيضًا من القصص الشعبي السير الشعبية التي كان يحكيها، ويمثلها بعض القصاص الشعبيين، وبعضهم كان يغني مواقف منها منظومة على أنغام آلة الربابة. والسير الشعبية تحكي قصص الأبطال وصراعاتهم مع الأعداء من الإنس، كما في سيرة "عنترة"، أو الجن كما في سيرة "سيف ابن ذي يزن"، وغالبًا ما نرى في هذه السير النبوآت والمعارك الطاحنة، كما في سيرة "أبي زيد الهلالي"، وفي بعضها تصوير لأمجاد الأمة على يد بعض الأبطال كسيرة "الظاهر بيبرس".
وربما كانت سيرة "عنترة" هي أقدم السير الشعبية ظهورًا، وظلت تتناقل على ألسنة الرواة الشعبيين حتى كتبت في عصر متأخر عن الفترة التي ظهرت فيها.
وكل السير الشعبية العربية مجهولة المؤلف، وكل سيرة لا شك أنه اشترك في صياغتها عدة قصاص، ومع ذلك فنرى في أكثر هذه السير وحدة عضوية وتماسكًا قويًّا، وتتشابه السيرة الشعبية مع الملحمة فهما يهتمان بالأبطال الخارقين في قدراتهم، والمعارك تكثر فيهما، ويصوران آمال الأمم واعتزازها بأمجادها. ولم يحفل النقد العربي القديم بهذه السير؛ لأنه لم يعبأ إلا بالأدب الرسمي المكتوب كله بالفصحى حتى مطلع العصر الحديث الذي أعيد فيه النظر في هذه السير، ونالت مكانتها بين فنون الأدب.
وكتاب "ألف ليلة وليلة" له مكانة خاصة بين قصصنا القديمة، ولم يلتفت أحد لقيمة هذا الكتاب حتى ترجمه أنطوان جالان في القرن الثامن عشر للفرنسية، وألحق به بعض القصص العربية، وهي غير موجودة في مخطوطات "ألف ليلة وليلة"، أو طبعاتها العربية، ومنها قصة "علي بابا والأربعين حرامي"، وقصة "علاء الدين والمصباح السحري".
وكتاب "ألف ليلة وليلة" شأنه شأن كتاب "كليلة ودمنة" له قصة إطار فيها تقوم شهرزاد بحكي القصص ليستبقي شهريار على حياتها، وتواصل القص كل ليلة حتى مطلع الفجر، وبعد ألف ليلة وليلة يعفو عنها شهريار، خاصة أنها كانت أنجبت له ثلاثة أولاد.
وهناك إلى جانب القصة الإطار بكتاب "ألف ليلة وليلة" القصص الداخلية الكثيرة به، والتي بعضها له أصول هندية، وبعضها له أصول فارسية، وبعضها تم تأليفه في بغداد حاضرة الخلافة العباسية قديمًا، وبعض قصصه تم تأليفه في مصر لظهور الشخصيات والعادات المصرية فيه.
ولا ينتظم كتاب "ألف ليلة وليلة" رؤية واحدة للمجتمع والسياسة؛ وهذا بالطبع لأنه اشترك في تأليفه عدة مؤلفين شعبيين من أمم مختلفة.
ويكثر في القصص ذات الأصول الهندية منه قصص السحر والجن، ويكثر في القصص العربية منه التي ألفت في بغداد الحديث عن هارون الرشيد وعظمته، وعن العبيد والجواري، ومجالس اللهو والغناء.
أما القصص المصرية منه فتصور المجتمع المصري في العصور الوسطى
– خاصة خلال حكم المماليك – في الأسواق، والمنازل، وتصور عادات المصريين واحتفالاتهم، وغير ذلك.
وما أكثر القصص والمسرحيات والأفلام المستوحاة من هذا الكتاب على مستوى العالم كله، وسيظل بريقه يلمع قرونًا كثيرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى