بروفيسور لطفي منصور - رِسالَةٌ في التَّشْريعِ وَالْقَضاءِ:

كَتَبَ أميرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى الصَّحابيِّ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قاضِي الْبَصْرَةِ، يُوَجِّهُهُ فيها إلَى العَدالَةِ في الْأَحْكامِ.
يَجِبُ أنْ أُنَوِّهَ بِفَصاحِةِ عُمَرَ وَغَزارَةِ عِلْمِهِ، فَقَدْ كانَ مِنْ كُتّابِ الْوَحْيِ، وَمِنْ قُرّاءِ الْقُرْآنِ.
كَتَبَ عِدَّةَ رَسائِلَ لِأبي موسَى، لَكِنَّ ما أُثْبِتُهُ هُنا هو الرِّسالَةُ الْجامِعَةُ.
مَصْدَرُ الرِّسالَةِ:
في مُطالَعاتي في أَدَبِ الْقُضاةِ، وَسِيرَةِ أبي موسَى الأشعري الذي يَرْجِعُ نَسَبُهُ إلَى أشاعِرَة اليَمَنِ، وهوَ مِنْ كِبارِ الصَّحابَةِ عِلْمًا وَتَقْوى وَقِراءَةً، وَذَلِكَ في مصْدَرَيْنِ هُنا:
- أخْبارُ الْقُضاةِ وَهو الأصْلُ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ ابنِ حَيّانَ الْمَعْروفِ بِوَكِيع (ت ٣٠٦ هج) نَقَلَها عَنْ أحْفادِ أَبي سَعيد بنْ أبي بُردَةَ بْنِ أبي موسَى الْأشْعَري. كانَ أبو بُرْدَةَ مِنَ التّابِعينَ الْعُلَماءِ (ت ١٠٣ هج) وَكذلِكَ ابْنُهُ سَعيد (ت ١٣٨ هج). يُنْظَرُ (أخبار القضاة ١: ٢٨٣-٢٨٤، عالم الكتُب).
- كِتابُ "إعْلامُ الْمُوَقِّعيِنْ عَنْ رَبِّ الْعالَمِينْ" لِابْنِ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ (ت ٧٥١ هج) وَهوَ مُتَأَخِّرٌ نِسْبِيًّا نَقَلَ الرِّسالَةَ عَنْ كُتُبِ أَبي عُبَيْدٍ الْقاسِمُ ابنِ سَلّام الْهَرَوِي (ت ٢٢٤ هج). يُنْظَرُ إعلام المُوَقِّعين ١: ٨٥-٨٦) ولا خِلافًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ النَّصَّيْنِ.
مَنْ هُمْ الْمُوَقِّعونَ عَنْ رَبِّ الْعالَمينَ؟ هُمُ القضاةُ الذينَ يَحْكُمونَ بِشَريعَةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ.
نَصُّ الرِّسالَةِ:
أَوْصَى أبو مُسَى إلَى ابْنِهِ أبِي بُرْدَةَ أنْ يَرْوِيَ كُتُبَهُ وَمِنها هَذِهِ الرِّسالَةُ:
" أَمّا بَعْدُ،
فَإنَّ الْقَضاءَ فَريضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذا أُدْلِيَ إلَيْكَ (أيْ أَخْبَرْتُكَ ما هُوَ القَضاءُ)، فَإِنَّهُ لا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لا نَفاذَ لَهُ (أيُ نَفِّذْ أَحْكامَكَ).
وَآسِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ في مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ (آسِ ساوِ بينَ الْخَصْمَيْنِ في الجُلوسِ لا تَرْفَعُ أَحَدَهِما عَلَى الْآخَرِ، مَجْلِسُكَ: مجلسُ القضاء "المحكمة" وَوَجْهِكَ: لا تَنْظُرْ لِأحَدِهما بِالْبِشْر ِ وَلِلْآخَرِ بالْعُبوس). حَتَّى لا يَطْمَعَ شَريفٌ في حَيْفِكَ (جَوْرِكَ وَظُلْمِكَ) ولا يائِسٌ وَضيعٌ في عَدْلِكَ (رَحْمَتِكَ)، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيما يَخْتَلِجُ في صَدْرِكَ وَنَفْسِكَ (مِثْلُ الوَساوِسِ وَالظُّنُونِ)؛ وَيُشْكِلُ عَلَيْكَ (الإشْكالُ: الصُّعوبَةُ) ما لَمْ يَنْزِلْ في الكتابِ (الْقُرْآنِ) وَلَمْ تَجْرِ بِهِ سُنَّةٌ، وَاعرِفِ الأَشْباهَ والأمْثالَ (القضايا الْمُتَشابِهَةِ والْمُتَماثِلَةِ) ثُمَّ قِسِ الْأُمورَ بَعْضَها بِبَعْضٍ (الْقياسُ مِنْ طَرُقِ الْفِقْهِ، وهو اشْتِراكُ حَدَثَيْنِ في الْعِلَّةِ، كتحريمِ الْمُخَدِّراتِ لِانَّها تَشْتَرِكُ مَعَ الْخَمْرِ في عِلَّةِ السُّكْرِ) فَانْظُرْ أَقْرَبَها إلَى اللَّهِ، وَأَشْبَهَها بِالْحَقِّ فَاتَّبِعْهُ وَاعْمَدْ إلَيْهِ؛ لا يَمْنَعَكَ قَضاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ ، وَراجَعْتَ فيهِ نَفْسَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، فَإنَّ مُراجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمادي في الْباطِلِ؛ الْمُسْلِمونَ عُدُولْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (عُدولٌ جَمْعُ عَدْلٍ مُتَساوونَ في الشَّهادَةِ وَالْحُقوقِ) إلّا مَجْلودًا أوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا في وِلايَةِ قَرابَةٍ (الْمَجْلُودُ الذي أُقيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ظَنين.. أيْ يُظَنُّ فيه مُوالاةُ قّرابَتِهِ دُونَ حَقٍّ، هؤلاءِ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُم).
اِجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غائِبًا أمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، (أيْ أَمَدٌ لِدَفْعِ الدَّيْنِ لا يَتَجاوَزَهْ) أوْ بَيِّنَةً عادِلَةً فَإنَّهُ أَثْبَتُ لِلْحُجَّةِ وَأَبْلَغَ في الْعُذْرِ، (مِثْلَ الشُّهودِ أوٍ الْكِتابِ) فَإنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ أَخَذَ حَقَّهْ، وَإلّا وَجَّهْتَ عَلَيْهِ:
الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، والْيَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، (أعْظَمُ قاعِدَةٍ في التَّشْريعِ الْبَشَرِيِّ. اسْتَغْرَقَ شَرْحُها الْمُجَلَّدَ الثّاني من كتاب "إعْلامُ الْمُوَقِّعينَ" السّابِقِ ذِكْرُهُ فانْظُروهُ)
إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرائِرَ (النَّوايا) وَدَرَأَ عَنْكُمْ ، (دَفَعَ عَنْكُمُ الْعَذابَ وَرَحِمَكُمْ عِنْدَما تَشابَهَتِ الأُمورُ عَليْكُم فَلَمْ تَعْرِفوا طَريقَ الصَّوابَ) وَإيّاكَ وَالْغَلْقَ، (الْغَلَقُ: يُقالُ غَلَقَ الرَّهْنُ اِسْتَحَقَّهُ الْمُرْتَهِنُ، وفي الْحَديثِ: "لا يُغْلَقُ الرَّهْنُ" تَحذيرٌ مِنِ استِحْقاقِ الرَّهْنِ) وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّي بِالنّاس، والتَّنَكُّرَ لِلْخَصْمِ، في مجالِسِ الْقَضاءِ التي يُوجِبُ اللَّهُ فِيها الْأَجْرَ، وَيُحْسَنُ فيها الذُّخْرُ. (كانَتِ الْمَحاكِمُ تُعْقَدُ في الْمَساجِدِ عَلَنًا)
مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ وَخَلُصَتْ فيما بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، كَفاهُ اللَّهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّاسِ؛ الصُّلْحُ جائٍزٌ بَيْنَ النّاسِ (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ- قُرْآن) إلّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرامًا.
وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنّاسِ بِما يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ شانَهُ اللَّهُ، (شانَهُ: عابَهُ وَفَضَحَهُ) فَما ظَنُّكَ بِثَوابٍ عِنْدَ اللَّهِ في عاجِلِ دُنْيا وَآجِلِ آخِرَةٍ؟ والسّلامُ".
(رَبَّنا اجعَلْ ثَوابَنا مِنَ لَدُنْكَ كَما قالَ أميرُ الْمُؤْمِنينَ عُمَرُ.
وبَعْدُ أَيُّها الأَصْدِقاءُ هذا هُوَ عُمَرُ الْخَليفَةُ قاضي الْقُضاةِ، الْمُعَلِّمُ، السِّياسِيُّ، الْمُرَبي، وَبِهذهِ الأخْلاقِ فَتَحَ الْمُسْلِمونَ الْعالَمَ.
عُمًَرُ خِرٍّيجُ الْمَدْرَسَةِ الْإلَهِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى