أ. د. عادل الأسطة - عاطف أبو سيف في جنته المقفلة: بنيلوب الفلسطينية وغودو الفلسطيني

وأنت تقرأ رواية عاطف أبو سيف الأخيرة «الجنة المقفلة»(٢٠٢١) تربط بين فكرتها وفكرة الانتظار في الأدب العالمي والفلسطيني. وتمتحن مقولتين؛ نفسية يرددها (يونغ) هي أن الأعمال الأدبية ليست سوى صدى لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر، وبنيوية ترى أن الأفكار والثنائيات في الأدب محدودة وأن هناك صلة بين الأعمال الأدبية، ولا تغيب عن أذهاننا مقولة شاعر عربي «ما أرانا نقول إلا معاداً مكروراً».
طبعاً يجب ألا تغيب عن أذهاننا مقولة (غوتة) عن الأدباء والأفكار التي يكتبونها «ليس الأدباء الكبار كباراً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، وإنما هم أدباء كبار لأنهم أظهروا الأشياء كما لو أنها تكتب لأول مرة».
شتات العائلة منذ نكبة ١٩٤٨ والتقاؤها في حزيران ١٩٦٧. ثم تشتتها وعيشها على أمل اللقاء ولمة العائلة حول طاولة طعام. وأمل العودة إلى يافا وحيفا فكرة محورية في الأدب الفلسطيني خاض فيها فلسطينيون كثر، ولأنها فكرة قديمة يورثها الآباء للأبناء فإنها تتخذ أشكالاً جديدة. إنها ما زالت ذات حضور لافت، وكلما تعقد الوضع الفلسطيني واتسع المنفى وجدت طريقها إلى النصوص الأدبية. وهو ما نلحظه في رواية أبو سيف المكتوبة بأسلوب ممتع، فتبدو لنا الكتابة كما لو أنها مكتوبة لأول مرة.
في «الجنة المقفلة» تتساءل إن كانت الفلسطينية في انتظارها أبناءها تمت بصلة لـ (بنيلوب) و(سيزيف) في الأسطورة الاغريقية وإلى (غودو) في المسرح المعاصر. وكذلك ابنها عبد العزيز / كابوتشي الذي يواصل حلم أمه فينتظر كما (غودو) في مسرحية (صموئيل بيكيت) «في انتظار غودو» ويواصل أيضاً فعلاً سيزيفياً.
كانت الأم تنتظر عودة أبنائها وفي كل عام تعد الطاولة والطعام وتفرد الشرشف على الطاولة ليلتم الأبناء، ثم لا يأتون، فتوزع الطعام على الجيران وتطوي الشرشف وتضعه في الخزانة لكي تفرده في العام القادم. تنتظر عودة أبنائها كما تنتظر (بنيلوب) حبيبها، وتفرد الشرشف وتضبه كما يرفع (سيزيف) الصخرة إلى أعلى الجبل لتلقي بها الآلهة أسفل الوادي، وتنتظر وتموت دون أن يعودوا.
بدأ الشتات الفلسطيني في الخروج الرهيب في ١٩٤٨ واتسعت رقعته في ١٩٦٧ وأخذ يزداد أكثر وأكثر منذ انتفاضة ١٩٨٧ واتفاقات أوسلو ١٩٩٣ ووصل ذروته في العام ٢٠٠٠ ومحاصرة قطاع غزة منذ ٢٠٠٧ وهو الآن هناك في غزة - وعنها يكتب أبو سيف في رواياته الأربعة الأخيرة - وصل حدا لا يطاق حتى ليمكن القول إن غزة وما يعيشه أهلها عار البشرية جمعاء.
وأنت تقرأ «الجنة المقفلة» تتذكر سميرة عزام ومحمود درويش واميل حبيبي وربعي المدهون. ولسوف أكتفي بهذه الأسماء للكتابة عن فكرة الانتظار والشتات منذ ١٩٤٨.
لسميرة قصة عنوانها «عام آخر» تأتي فيها على شتات العائلة ولقائها مرة في العام في بوابة مندلباوم. تأتي الأم المقيمة في بيروت لترى ابنتها المقيمة في الناصرة وتعود من حيث أتت دون أن يتم اللقاء، فثمة ما حال دون مجيء الابنة؛ مرض الزوج مرة ومرة الولادة ولا تثبط عزيمة الأم. إذ تخبر معارف ابنتها أنها ستعود «إذا عشت عاماً آخر فسآتي إليها زاحفة على قدمي.. وإذا عاجلتني رحمة الله.. فلن أموت إلا بحسرتين حسرة بلدي، وحسرة ماري وقبلة على خدها».
ولدرويش قصيدة «في انتظار العائدين» يقول فيها:
«ماذا طبخت لنا؟ فإنا عائدون
...... إنا عائدون
خطوات أحبابي أنين الصخر تحت يد الحديد
وأنا مع الأمطار ساهد»
وكان وظف مبكراً أسطورة (بنيلوب).
وتقوم «سداسية الأيام الستة» لحبيبي على فكرة شتات العائلة بعد النكبة ولقائها بعد الهزيمة وتظل أم الروبابيكا في حيفا تنتظر العائدين. لقد صدر الكاتب قصته بمقطع أغنية فيروزية هو:
«بالإيمان.. راجعون/ للأوطان.. راجعون/ راجعون، راجعون/ راجعون»
وفكرة الشتات والعودة والانتظار واللقاء حاضرة أيضا في «المتشائل».
أما ربعي في «طعم الفراق» فقد غادر غزة قبل ١٩٦٧ ولم يزرها إلا إثر اتفاقات أوسلو، وخلال ثلاثين عاما لم ير أمه إلا مرة واحدة حين زارت أخاه راسم في الشام، واستقر به المقام في لندن يحمل جواز سفر بريطانياً، وما تحقق له لم يتحقق للابن الأكبر في رواية أبو سيف، فسلطات الاحتلال التي أبعدته بعد حزيران ١٩٦٧ لم تمنحه تصريح زيارة إطلاقاً ولم تسمح لأمه. في الوقت نفسه، بالسفر، وأما ابنها الأصغر فقد استقر في يوغوسلافيا وحصل على جواز سفرها. وهكذا لا يجتمع أفراد العائلة التي ظلت الأم فيها تنتظر وتمارس سنوياً فعلاً سيزيفياً، وواصل ابنها كابوتشي سلوكها ولكن الجنة كانت مقفلة. وما زالت غزة جنة مقفلة.




عادل الأسطة
2021-11-21


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى