المدخل السياسى
منذ منتصف التعسينيات كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحا فى الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبسا بمصطلح آخرهو الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة السياسية نفسها ـ منذ منتصف الثمانينيات، ليأخذ فى البداية منحى اقتصادى، لكن النخب الثقافية فعّلت الإصلاح إلى معنى سياسى واجتماعى شامل أخذ صبغة ثقافية، إذ أن الإصلاح الذى تبنته النخب الثقافية، صار مطلبا جمعيا ملحا أكثر من كونه برنامج عمل حكومى. لهذا، بدا أن الإصلاح معنى متواضع غير قادر على تجسيد الرغبة فى تجاوز المأزق المصرى منذ هزيمة67 وتداعياتها، وبدا أن الأمر يحتاج تغييرا كبيرا فى بنية الوعى الاجتماعى السياسى، وبطبيعة الحال، كانت النظرة إلى التغيير فى الخطاب الثقافى، بمثابة القاطرة التى يمكن أن تقود مصر إلى تغيير شامل منشود.وقد ترافق هذا، مع ظهور متغيرات حقيقية على الصعيد الدولى، فرضت نفسها عبر المنظومة الثقافية الدولية، صارت مكشوفة وممكنة التطبيق فى مجتمعات أخرى بفضل وسائط التعبير التكنولوجية عبر الفضائيات والأنترنت. غير أن هذه المتغيرات الدولية، كانت لها شواهدها الأولية على نحو ماعبرت عنه حركة الطلاب فى فرنسا ( 1968)، التى اعتبرت ـ لدى كثير من المنظرين ـ تدشينا لحقبة عولمية جديدة، تجسدت ثقافيا فى نزوع مابعد حداثى. غاضب على فشل المشروع الحداثى بالعبور إلى حياة أكثر إنسانية. لهذا، فإن صورة التغيير لم تظهر فى شكل مشروعات كبرى بديلة لمشروعات الحداثة، بقدر ما اتسمت بطابع احتجاجى متعارض ومتناقض إلى حد التخريب لقيم الحداثة ذاتها.
هذه المقدمة، كانت ضرورية للإشارة إلى أن ما كان يحدث فى مصر والمنطقة العربية فى ذلك الوقت، كان متواصلا مع مايحدث فى العالم، وإن اختلفت أسبابه ومظاهرة، كما اختلفت أهدافه ونتائجه نتيجة للظرف الخاص بعد هزيمة يوليو67، فلم يكن من قبيل المصادفة، أنه كانت لنا نسختنا الخاصة من الحركة الطلابية ـ فى نفس الوقت ـ الذى كانت فيه فرنسا تصنع النسخة العالمية، وفى ذلك يقول هانى الحورانى: ” فقد انتعشت بعيد هزيمة حزيران 1967 مباشرة، حركات الطلبة في مختلف العواصم العربية، من القاهرة إلى الرباط والدار البيضاء إلى بيروت، ولم تنظر هذه الى نفسها باعتبارها مجرد حركات مطلبية ونقابية للطلبة، وإنما فوق ذلك (والأصح قبل ذلك)، باعتبارها حركات لتحرير لمجتمعات العربية من ذل الهزيمة الحزيرانية، ولتعبئتها سياسياً وثقافياً للرد على الهزيمة بالتغيير الاجتماعي والسياسي الجذري”.
وهكذا يمكن القول إن نزوعات التغيير كانت أبعد كثيرا من، التسعينيات، غير أنها وصلت نضجها متأخرة، لأسباب ارتبطت بحرية التعبير، ومظاهر القمع السياسى التى مارستها الأنظمة الحاكمة، وما أن وجدت الظرف الثقافى المناسب حتى أعلنت عن نفسها بوضوح وفاعلية. كما يمكن القول إنها اتسمت بطابعين:
ـ طابع ثقافى مرتهن بوسائط التعبير كافة سواء كان على شاشات السينما و التلفزيون والأنترنت، أو على صفحات الجرائد والكتب، ومن ثم كان كان لللإبداع الأدبى نصيب كبير فيه.
ـ الثانى: أنه يتمتع بوعى احتجاجى معارض وناقد لمشروع التحديث المصري، لم يظهر فى شكل مراجعات فكرية له فحسب، بل فى محاولات دؤوب لتفكيكه بنماذج مناقضة. غير أن هذا لم يعرب عن نفسه ـ وحتى الآن ـ فى صياغة كلية واضحة تجسد مشروعا بديلا، بقدر ما ظل، جهودا ومحاولات فردية تتناثر هنا وهناك.
المدخل الثقافى :
كانت المرجعيات الغيبية للمبدع بوصفه ملهما أو موهوبا بمنحة إلهية، تكسبه درجة من الغموض والقداسة، لكن مع ظهور التكنولوجيا بوصفها وسيطا لإنتاج المعرفة والفنون، ظهرت صورة جديدة للمبدع ، ومن ثم الإبداع ذاته، حيث ارتبطت صورة المبدع بالقدرة على التعامل مع هذه الوسائط التكنولوجية الجديدة وما تتيحه من إمكانات، لم تسهم ـ فقط ـ فى توسيع طاقة الفنون القديمة التى مثل فنون الأدب، بل أسهمت فى إنتاج فنونا جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، وهى فنون منشأة ـ على نحو خالص ـ بالإمكانات التى أتاحتها التكنولوجيا مثل فنون الجرافيك، و((3dmax . كما اسهمت المعرفة بالتكنولوجيا فى انحرافات كبيرة ومؤثرة فى الفنون القديمة، مثل فن التصوير والمسرح بل والإبداع الأدبى.
ولم يقتصر أمر تأثير الحاسوب الشخصى على الإبداع الأدبى الجديد، ليكون مجرد موضوع جديد يضاف إلى موضوعات الواقع المعيش، بل تجاوز ذلك إلى محاكاته والاستفادة من تقنياته وإمكاناته وتأثيره على العلاقات الإنسانية وعلى الوعى بالذات والآخر، وما تطرحه التكنولوجيا كإشكاليات جديدة تشغل المبدع مثل: الاستنساخ أو تداخلات الواقع الافتراضى وتأثيراته على الواقع المعيش على نحو مانجد فى روايات: ” بابل مفتاح العالم لنائل الطوخى ـ لأن الأشياء تحدث لحاتم حافظ ـ الغضب الضائع لمازن العقاد ـ فى كل أسبوع يوم جمعة لإبراهيم عبد المجيد”.
كما أتاحت التكنولوجيا مساحة للتعبير الفردى بعيدا عن شروط الأدبية التقليدية على نحو ما يحدث على المدونات والمنتديات الأدبية، ففى عصر تنهار فيه الأساطير والكيانات الكبرى، يستطيع كل فرد ـ مهما كان صغير الشأن ـ أن يصنع أسطورته الخاصة وأن يسمع كلمته لملايين الأشخاص فى العالم، متجاوزا بضربة أصبع عوائق الزمان والمكان واللغة.
لقد وضعت التكنولوجيا، الفنون القديمة فى مأزق، عندما أطاحت بالكثير من قيمها التى اعتبرت فيما مضى هامة ونبيلة، فالموهبة لم تعد معيار تمايز أو تميز، إذ يستطيع أى فرد مهما كان شأنه ودرجة موهبته، أن يجد مساحة للتعبير الأدبى على الشبكة العنكبوتية، وأن يجد فى نفس الوقت قراء يتجاوبون معه، ويحتفون به، بما يعنى تفاعل حى ومباشر بين المبدع والمتلقى بلا وسيط رقابى أو طباعى أو نقدى على نحو ما كان يتم فى النشر الورقى. لقد شجع اختفاء الوسيط على تفاعل المتلقي مع النصوص المنشورة بحيث أصبح المتلقي وسيطا في إنتاج النص ، وبطبيعة الحال ، فقد عمل هذا على التقليل من أهمية دورالناقد، فـ ” الذي يغلب على المشهد الثقافي المعاصر الآن في شتى مجالات النشاط الإبداعي والفكري، تزكية دور المتلقي ودفعه إلى ساحة المشاركة، عوضا عن وضع المتفرج السلبي الذي ينفعل بما يراه ويسلم به من غير أن يكون له دور فيه أو انتقاد له. تلك هي بلاغة العصر في مقابل بلاغة قديمة عملت على إهمال المتلقي ووضعه في دائرة الظل، على مدى عصور بعينها هي العصور التي سيطر فيها الوعي البرجوازي. كانت المراكز التعليمية قديما تعلم أبناءها صناعة الإنشاء، أوبعبارة أخرى: كانت تعلمهم كيف يكتبون. والآن اتجهت عناية المعلمين في المعاهد العلمية في العالم المعاصر إلى تعليم جمهورها كيف يقرأون”
ومن جهة أخرى تتعدد طرائق التعبير التى لاتطيح بفكرة النوع الأدبى فقط، بل تطيح بشروط الأدبية ذاتها. فتعطى المبدع مساحات واسعة من التجريب المتحرر من معيار القيمة النقدى، إذ أن معيار القيمة هنا يأحذ طابعا استهلاكيا، يدل عليه الانتشار الواسع والسريع للمنتج الأدبى. لهذا يكتسب المبدع الجديد مهارات جديدة، تعتمد على التعامل التقنى مع الوسيط، فهى بالنسبة له، أولى بالاهتمام مادامت تحق له العائد القرائى السريع، وهو مايحقق معنى المقرؤئية كما عرّفه ( رولان بارت ) بديلا عن المكتوبية. إن إزاحة معنى المكتوبية بوصفها قيمة، عملت على إزاحة معنى القيمة من النص إلى القارىء، فلم يعد النص ـ بحد ذاته ـ قيمة إلا بقدر تداوله القرائي. ودرجات اشتغال الوسائط التكنولوجية الجيدة عليه، فعلى سبيل المثال، حققت رواية ( عمارى يعقوبيان ) نجاحا كبيرا نتيجة لمقرؤيتها الواسعة من ناحية وتحولها إلى فيلم سينمائى، وليس نتيجة لرأى النقد الأدبي فيها.
كما أن المبدع، يدرك ـ منذ البداية ـ أن سلعته قابلة للاستنساخ والتقليد بسهولة، فالتفرد لم يعد متاحا ولم يعد يمثل قيمة، وهذا المعنى ينسحب أيضا على الكتابة الأدبية، ومن ثم تشيع ظواهر التناص على مدى واسع بين الأعمال الأدبية، ولم يعد تشابه عمل أدبى جديد بآخر قديم يلفت انتباه الكثيرين أو يثير امتعاض أحدا، حتى ماركيز لايخفى رغبته فى كتابة رواية على غرار الجميلات النائمات لكاوباتا وهاهو يفعلها. لكنه لايفعل هذا عبر استنساخ كامل لجميلات كاوباتا، بل يعيد أنتاجها على نحو خاص، وفى النهاية يحصل على مزيج مركب بين جميلاته وجميلات كاوباتا. يحفظ له خصوصيته، ولكنه ـ فى نفس الوقت ـ لاينفى كاوباتا، يفعل هذا عبر خبرتين: خبرة النص، ونعنى بها تلك الإحالات التى نشم فيها رائحة كاوباتا. وخبرة القراءة، ونعنى بها تلك الفكرة التى يكونها القارىء عبر خبرة طويلة بكتابات ماركيز.
قد يشار إلى هذا ـ فى الأدب ـ بوصفه اشتغالا واسعا للتناص. يمكن ملاحظته فى عدد كبير من الروايات الجديدة. وليست رواية عمارة يعقوبيان، سوى إعادة أنتاج لميرمار نجيب محفوظ، حيث البنية التحتية لللأصل ( المنتج السابق ) موجودة، ولاتحتاج سوى معالجة تلبى شروطا واحتياجات جديدة. ثمة بناية عريقة يمكن أن تكون مصر، تجمع شخصيات هى فى صميمها نماذج اجتماعية ( تشير إلى قطاع من سكان مصر) لكنها، مختلفة، ذات رغبات ومصالح متضاربة. وهذا التضارب هو ما ينتج الحكاية كلها.
المدخل الجمالى
وحين نحصر الرؤية فى مجال الإبداع الأدبى، فإننا لا نراه ـ منذ البداية ـ منفصلا عن هذا الحراك العام، أو عما كان يحدث من نزوع إلى التغيير،برفض القيم القديمة التى رسمت ملامح الأدبية، غير أن هذا المعنى لم يعبر عن نفسه بوضوح إلا منتصف التعسينيات من القرن الماضى، كنتيجة مباشرة لثورة النشر الأليكترونى، والتمهيدات الأولى لها بظهور دور النشر الخاصة، والانفجار الإعلامى المصاحب لكل هذا، سواء على شاشات التلفزيون أو الصحف الورقية والأليكترونية. ونتيجة لهذا، بدا للبعض أن التغيير الإبداعى فى الأدب، كان ظاهرة تسعينية حصريا، ولاباس فى هذا إذا ماوضعنا فى الاعتبار أمرين :
ـ أن مظاهر التجديد تسارعت بقوة فى نهاية التسعينيات، وبدت أكثر صخبا مع معطيات الألفية الجديدة.
ـ أن المشهد التعسينى تشكل عبر تضافر أصوات متعددة، بعضها جديد تماما على المشهد،وهو ما نطلق عليه جيل التسعينيات، وبعضها له سوابقه التى لم تكن منظورة ـ بنفس الوضوح ـ قبل انفجار النشر.من كتاب بدأوا مسيرتهم الأدبية منذ منتصف السبعينيات مرورا بالثمانينيات، فضلا عن التماعات خاصة لكتاب من الستينيات،مثل ( إبراهيم أصلان ـ محمد المخزنجي – محمد البساطي ) حرصوا على مراجعة المشروع الأدبى القديم، ملتفتين إلى مظاهر إنسانية وهامشية تنغمس فى مفردات الحياة اليومية، وتهتم بالتجربة الذاتية وتعيد الاعتبار للإنسان المفرد، بوصفه ذاتا مستقلة وليس بوصفه بنية صغرى فى منظومة سياسية أو اجتماعية كبرى مهما كان لها من صفات النبل القومى.
ولا شك أن هذا الالتفات ابتكر طرائقه التعبيرية، على نحو ما نجد فى رواية ( وردية ليل )، التى اعتنت بشفافية اللغة، وشعرية المشهد، فضلا عن حضور الذات الإنسانية بدلا من الذات الساردة، و حيث الذات الإنسانية تحترم الخبرات والتجارب الخاصة واللصيقة بالكاتب، بمعنى أن الكاتب يكتب ما يعرفه، وليس ما يجب أن يكون موضوعا نموذجيا للكتابة، كما تنازلت هذه الرواية على نحو صريح، عن كبرياء البناء الروائى المتماسك المحكم، واستبدلته بإفادات واضحة من آليات البناء القصصى فجاءت أقرب فى بنيتها إلى مجموعة قصص قصيرة فتوزعت بنية الرواية حول عدة مراكز قد تكون المكان أو الشخصية أو الحدث، تتواصل فيما بينها بروابط تقنية، بدلا من التمركز القديم للرواية حول وحدة واحدة.
وسوف نرى أن هذا البناء يميز كثيرا من الروايات الجديدة فيما بعد، حتى أصبح أهم سمات الرواية المصرية الحالية. بما يفسر طبيعة العلاقة بين البناء القصصى والبناء الروائى، ويدعونا للنظر بكثير من الاحتراز إلى أن مقولة زمن الرواية، أسست لنفسها على أشلاء القصة القصيرة،إذ يبدو لى أن العكس هو الصحيح، فالقصة المصرية ألتى سادت عقدى الخمسينيات والستينيات بوهج خاص على يد يحيى حقى ثم إدريس ثم يحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، قد ألهمت الرواية المصرية للخروج من مأزقها التاريخى الذى حاكت فيه نموذج الرواية الأوربية. ومن الجدير بالذكر أن نجيب محفوظ كان قد اجترأ على كسر النموذج الأوربى فى محاولات عديدة لم يلتفت إليها جيدا. غير أن نموذج إبراهيم أصلان كان ملهما لجيل جديد كان يتشكل للتو.
وفى سياق آخر بدأ الانتباه إلى شيوع أشكال بينية فى السرد، فلم يعد الأمر حصريا بين نمطي القصة والرواية، سنجد مثلا: النوفيللا، وحلقات السرد أو المتتاليات القصصية التى تنتظم عبر سردات صغيرة تتواصل فيما بينها بروابط أسلوبية أو تقنية أو موضوعية.
وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى نوازع التجريب التى يحققها مبدع متميز مثل محمد المخزنجى، الذى قدم مؤخرا نصوص: ” حيوانات أيامنا ” وهى بمثابة بحث سردى فى عالم الحيوان يتخذ من البناء القصصى شكلا له. وفى المقابل سنجد نصوصا قصصية تتمركز حول موضوع واحد لترصد تجلياته وكأنها تدرسة من زوايا نظر عده ، كما نجد عند ( محمد أبو الدهب ) فى مجموعته القصصية ( نزهة فى المقبرة ) التى بدت ـ فى النهاية ـ نوع من التأمل السردى للموت.
حتى يطيب للباحث حسين حمودة أن يطلق عليه ( الكتاب القصصى)”2″ لكونه يجمع بين صفة الكتاب العلمي البحثي والسرد القصصي، وكان المخزنجي قد قدم من قبل، وفى سياق التجريب القصصي ـ أيضا ـ نصوص : ” غرق جزيرة الحوت ” التى تعتبر بمثابة تقرير سردي لواقعة انفجار المفاعل النووي الروسي تشرنوبل. ما نعنيه أن أشكال التعبير السردى وممكناته تجاوزت كثيرا المفهوم الضيق للنوع أصلا. ولم تعد تقف عن حد تداخل الأنواع التقليدية. ولدينا شواهد من إصدارات صنفت نفسها قصصا قصيرة فيم تمتلك نزوعات متجاوزة لمفهوم القصة على نحو مانجد فى مجموعة ( نزهة فى المقبرة لمحمد أبو الدهب ) التى جعلت الموت موضوعا لها على الرغم من البناء المتشظى والذى ـ ربما ـ لايحتاج سوى روابط تقنية قليلة ليكون رواية تقارب فى شكلها وموضوعها حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ.
***
بالإشارة إلى كل ماسبق يمكن القول إن مانطلق عليه الآن رواية جديدة، لم يكن نزوعا ثوريا إلا بقدر ما كان:
ـ حراكا يستجيب للمتغير الذى عاشته مصر بعد 67، بما يستوجب مراجعة طبيعة الخطاب الأدبى وطرائق تعبيره وتوجهاته بحيث ينشد قارئا مختلفا عن ذلك الذى تربى على مفهوم الرسالة المباشرة للنص الأدبى والانحياز المؤدلج لوعى المرحلة. كما أن هذا الحراك أفاد من إمكانات التكنولوجيا، وفرص النشر الواسع، وتغير نمط المتلقى بدخول شرائح غير نخبوية، وغياب النقد، حيث يمكن للمبدع أن يتواصل مع قارئه مباشرة، ويشعر فى نفس الوقت بمردود مايكتب.
ـ أن هذا الحراك كان مرحليا وتراكميا، مرتبطا بالتجربة المصرية ـ ولأول مرة ـ بمعنى أنه لم يكن استجابة لتيارات أو اتجهات أدبية عالمية مثل تيارات: الواقعية بشقيها الاشتراكى والنقدى أو تيار الوعى أو الكابوسية الكافكاوية أو السوريالية وغير ذلك من الاتجاهات الأدبية التى كانت متداولة فى مصر فى الخمسينيات والستسنيات ولم نعد نسمع بها الآن. إذ كان التجديد نابعا عن حاجات محلية، وعبر تجارب ومحاولات لمبدعين صغار الشأن لايتكلمون باسم اتجاه أو تيار أو أيدلوجيا كبرى.
ـ أن مفارقة النموذج الستينى شكلت جوهر النزوع التجديدى للرواية المصرية، غير أن ملامح هذا التجديد لم تتضح على نحو جلى ـ كما أسلفنا ـ إلا فى التسعينيات. ففى التسعينات ظهرت مجموعة من الروايات التى أشارات إلى نفسها بسمات تجديدية واضحة، نذكر منها على سبيل المثال: ” زهور سامة لصقر لأحمد زغلول الشيطى ـ كلما رأيت بنتاً حلوة أقول ياسعاد لسعيد نوح ـ فوق الحياة قليلاً لسيد الوكيل ـ تصريح بالغياب لمنتصر القفاش ـ “وهى روايات توالى ظهورها من ( 95 ـ 98 ). وغير ذلك من الروايات التى أكدت على تفكيك مركزية الحدث. وتعدد مستويات السرد والاجتراء الواسع على التناص وهيمنة المتخيل السردى على الواقعى والحضور الشخصى للمؤلف داخل النص بما يحفز قابليته للتداخل مع أنواع أخرى مثل السيرة الذاتية فضلا عن طوابع التحليل السردى حيث يقوم صوت المؤلف الضمنى بنوع من المراجعة والتحليل لصوت الراوى الخارجى أو للأصوات الأخرى داخل النص، فى مكاشفة مع القارىء تسقط أقنعة الوهم القديمة التى كانت تراهن على محاكاة الواقع، ولعل هذه المكاشفة بين المؤلف والقارىء كانت الخطوة الأولى نحو مفارقة الإيهام بواقعية مايحدث، لقد بدت صورة المؤلف كما لو كانت ذاتا كلية مستقلة ومدعمة بسلطات غيبية تجعله أشبه بالكاهن. غير أن ميشيل فوكو يكشف لنا أن المؤلف نفسه يخضع لنظم معرفية متغيرة تزيح المؤلف من موقعه وتحيله إلى مجرد أداة، وبدا أن التركيز على حضور المؤلف فى النص راويا أو مرويا عنه يدعم هذا المعنى، فيحيلة من معناه كذات كلية مهيمنة إلى عنصر من عناصر السرد. ومن ثم يتراجع صوت السارد العليم بكل تجلياته . وتسقط أقنعة الإيهام . بما ينتهى إلى تغير فى نمط العلاقة بين ( المؤلف ـ النص ـ القارىء )، ولدينا فى هذا السياق دراسة مهمة فى ( أنماط البث والتلقى فى الخطاب الروائى المعاصر )3 لمهدى صلاح. عاينت الدراسة صوراّ جديدة لأنماط هذه العلاقة التى غيرتها طرائق الكتابة فى الرواية الجديدة وتوقفت عند ثلاثة صور للتواصل بين المؤلف والقارىء : ” التواصل الواقعى ـ التواصل الافتراضى ـ التواصل النصى “.
الموقف النقدى:
أكثر المحاولات النقدية التى اشتغلت على رصد ملامح الرواية فى التسعينيات انشغلت ـ كالعادة ـ بالمضمون الروائى، ولاحقت بمذكرات تفسيرية تفشى مقولات إعلامية بقدر من الهوس مثل: الكتابة عن الجسد أوعن المهمشين والمجتمعات الهامشية أوعن ممارسات الحياة اليومية العادية. غير أن الرهان على الموضوع الروائى معياراً لجدة الرواية لم يكن مقنعاً على الرغم من الانتشار الواسع لهذه الموضوعات. كما أنه حمل معه نفس الروح النقدية القديمة التى افترضت النص رسالة مموهة تحتاج إلى تفسيرها بوصفها محتشدة بالرموز والإسقاطات والمعادلات الموضوعية للواقع والتى تنتهى عادة إلى معنى سياسى على نحو ما. وفى المقابل، كان ثمة محاولات نقدية ـ قليلة ـ عملت على اختبار مقولة الرواية الجديدة عبر رؤية تفصيلية ترصد تشكلاتها خلال التسعينات من القرن الماضى وتقف على مشارف العقد الأول من القرن الحالى.
لدينا فى هذا السياق رؤية مميزة للناقد مجدى توفيق فى كتابه ( الذاكرة الجديدة )3 ، وهى مميزة باعتبار عزوفها عن الطرائق المألوفة فى السعى وراء الموضوع الروائى، أو طرائق السرد وتقنياته وأساليبه التى صارت مراوغة ومتجددة على نحو يصعب الإحاطة بها، إذ اتخذت دراسة توفيق لنفسها منهجاً مختلفاً فى البحث عن ذاكرة جديدة منتجة لرواية جديدة. وحيث الذاكرة ليست مجرد أرشيف لحفظ المعلومات بل طاقة تخيلية تعمل على دعم الوعى الجمالى، وهذه الطاقة تحدد علاقتها بالمعنى الأدبى على اتجاهين:
الأول : يتخذ من الواقع مرجعية رئيسة له، وكأن الإبداع الروائى قراءة جمالية للواقع. وهى بمثابة امتداد للذاكرة القديمة.
الثانى : يتأسس على المخيلة وينطلق منها، وكأن الواقع ـ نفسه ـ صورة متخيلة.
اتجاهان للرواية الجديدة:
ويرى مجدى توفيق، أن أهم مايميز المشهد الروائى الجديد هوتجاور هذان الاتجاهان، وهما يتطوران معاً بهدف مفارقة المعنى السابق للرواية الواقعية التى غمرت المشهد الستينى، فالاتجاه الأول مثلا: يركز على تقديم قراءات جمالية للبيئات المهمشة والمبعدة على نحو ما نجد فى كتابات :” حمدى أبوجليل وسعيد نوح وميرال الطحاوى وحسين عبد العليم وأحمد أبو خنيجر وعصام راسم وغيرهم “. وإذا كانت الكتابة عن البيئات المهمشة لها سوابقها فى الرواية الواقعية ومنذ الستينيات فإن التمايزات التقنية والأسلوبية هى أهم مايضع هذه الكتابة فى أفق التجديد، فهى تكتسب لمسات غرائبية وأنثربولوجية، فضلا عن الطابع الاحتفالى كالذى نراه عند (أحمد أبو خنيجر) على سبيل المثال أو روح السخرية كالتى نجدها عند (حمدى أبى جليل ). وفى أغلب الأحوال فهى تشهد مغايرة ملموسة فى مفهومى الزمان والمكان، وهى مغايرة موزعة بين الحنين والاحتجاج والتناقض مع التاريخ.
فيما يعنى الاتجاه الثانى بالتركيز على عوالم افتراضية ومتخيلة مثل: الصور والأحلام ( العوالم الجوانية ) على نحو مانجد عند (مصطفى ذكرى ومنتصر القفاش فى روايته أن ترى الآن ) والحكايات الشعبية والأساطير والخرافات وعوالم المتصوفة والعارفين ( خيرى عبد الجواد ـ محمد إبراهيم طه ) ، كما يكون التاريخ أو التراث مصدرين مهمين لرواية تسعى إلى مفارقة الواقع وتسقط عليه فى آن على نحو ما نجد عند ( سلوى بكر ونجوى شعبان وسعد القرش ). كما يصبح عالم الكتابة والكتّاب بوصفه عالما افتراضيا موضوعا لرواية ( فوق الحياة قليلا )، فى حين يتخذ سعيد نوح من عالم السينما موضوعا لروايته ( دائما ما أدعوا الموتى .. ).
وإذا كان هذا التقسيم إلى اتجاهين أحدهما يسعى إلى اقتناص المتخيل وتأثيرات الموروث والتاريخ فى صناعة الواقع، فإن الآخر يبدو كما لو أنه يقوم على على صناعة الواقع عبر المتخيل. هذا لاينفى تلاقى الاتجاهان ليس فقط باعتبار أن الواقع والخيال قاسمان مشتركان فى العمل الأدبى، بل ولأن كل منهما محمل بإمكانات مختلفة فى طرائق السرد وأساليبه. ولدينا أعمال روائية عديدة نجحت فى تحقيق هذا المزج بين ذاكرتى الواقع والخيال، ومن الطريف أن كاتبا مثل سعيد نوح يعود إلى واقعية مسرفة فى( 61 شارع زين الدين ) بعدما نجحت روايته ( دائما ما أدعو الموتى ) فى تجاوزها، وحلقت فى عناق ساخن مع عالم الصور والسينما وأحلام البطولة. ثم أنه يعود من جديد مع ( ملاك الفرصة الأخيرة ) إلى التخييل الواسع والتناص ومعانقة الشفهى والتاريخى والأسطورى معا، بما يعنى أن تجربة الكاتب الواحد يتجاور فيها النمطان وربما فى العمل الواحد نفسه.
التكنولوجيا وذاكرة جديدة :
ولكن علينا ملاحظة أن الاتجاه الثانى( ذاكرة الخيال ) حقق قفزات واسعة فى سبيل التجديد، فقد عملت الوسائط التكنولوجية الحديثة على تنميته، من حيث أن هذه الوسائط فرضت صورة مغايرة للواقع ورسمت أبعاده على نحو أكثر تحديدا حتى يمكننا القول إننا ـ الآن ـ نعيش فى صورة الواقع لا الواقع نفسه، لقد حدث هذا عبر تفعيل مثير للخيال باعتبار الخيال أعلى درجات التفكير الإبداعى، فبالتفكير الإبداعى يتمكن الإنسان من صياغة الواقع وإنتاجه فهو لم يعد ابن الصدفة والظروف والمتغيرات التى تحدث فى عمقى الزمان والمكان . كما لم يعد مجرد استجابة لمتغير يفرضه الواقع.
ويبدوأن ذائقة المتلقى الجديد التى تربت على التفعيل المثير للخيال عبر الوسائط البصرية الجديدة كالتصوير وفنون الجرافيك صارت معدة بطريقة ما للتعامل مع المتخيل أو الواقع الافتراضى بدرجة أكبر من تعاملها مع الواقع المعاش، ولاسيما أن الواقع الافتراضى يحقق لذة افتراضية لإنسان لم يعد راغباً فى مكاشفة الواقع المعاش وتقصى ملابساته المضنية والغوص فى معضلاته المتجددة، وربما يجد فى الرواية فضاء لإقامة افتراضية لأطول وقت ممكن، وقد يسهم هذا فى فهم الإقبال القرائى الواسع على الرواية فى زمننا هذا، ولم يكن من قبيل المصادفة هذا الإقبال المثير على قراءة ( هارى بوتر ) كما أن الروايات التى حظيت بشهرة عالمية واسعة لم تخل من هذا التحليق المثير للخيال على نحو ما نجد فى روايات مثل شيفرة دافنشى وأسمى أحمر والعطر. فالحقيقة أن حرية التعبير على شبكات الأنترنت مكنت المبدع الجديد من التحليق بلاحدود، وبقدر لم تحلم به الكتابة الورقية فى أى لحظة من تاريخها.
وعلينا ملاحظة أن الصورة الفيلمية نجحت فى تجسيد الخيال فاقترب به فى تصوراته إلى الواقع الحسى بدلا من التعبير المجازى الذى جسدته اللغة.
بل وحتى الروايات التى ارتبطت بالواقع وسعت إلى تصويره لم تكن مخلصة له تماما كما كانت الرواية الواقعية فى الستينيات من القرن الماضى، فالواقعية الجديدة سعت إلى مفارقة الواقع سواء بالتناقض معه أو الاحتجاج عليه ورفضه بما يفسر ظهور شخصيات روائية تحتل دور البطولة ـ كدأب الواقعية عموما ـ ولكنها تتصادم مع الواقع بعنف وترفضه وتتجه إلى ممارسات احتجاجية سواء بالانهماك فى تناول المخدرات أو الجنس والعنف، يميز هذا الملمح رواية الواقعية الجديدة على نحو ما نجد فى: ” دكة خشبية تسع أثنين بالكاد ـ بمناسبة الحياة ـ بهجة العمى ـ قانون الوراثة ـ كائن العزلة ـ فاصل للدهشة ـ المستبقى ـ لذات سرية وغيرها ” وقد يكون هذا بالسخرية من الواقع والتعالى عليه وفضح تشوهاته ولا معقوليته كما نجد فى: ” لصوص متقاعدون ـ 61 شارع زين الدين ” وهما روايتان اشتغلتا على بيئة مكانية واحدة. وقد بلغت رواية الفاعل لحمدى أبى جليل حدا من السخرية يتجاوز السخرية من الواقع الاجتماعى إلى الواقع الشخصى اللصيق بالذات، ويمكن ملاحظة أن هذا الملمح ( السخرية من الذات ) ميز الكثير من كتابات التسعينيات واستمر حتى الآن.
واقعية فائقة القدرة
غير أن التفعيل الفائق للخيال يقطع مسافة بعيدة عن الواقع ولايتوقف عند مجرد مفارقته ببضع خطوات، إنها مسافة تقترب من معنى القطيعة، وهنا يمكن فهم الفارق بين معنيي التجديد والجدة، حيث التجديد ترقية وتنمية ومغايرة لخطوط معرفية موجودة سلفا فيما عرف بالرواية الواقعية، وحيث الجدة محاولة لقطيعة مع المعارف الجمالية التى تأسست أصلا على هذا المفهوم.
ويبدو أن حركة السرد الجديد آخذة فى مفارقة الواقع على نحو جاد من حيث التأكيد على معانقة الخيال وتكثيف روح اللعب، فالمبدع الجديدلايحاكى الواقع ولا يستغرق فى محاولة فهمه بقدر ما يفارقة ليخلق عالمه الخاص من مادةالخيال ويعيد ترتيبه باللعب وكأن العالم لعبة بازل لها قابلية التشكيل، أو مجموعة من الرسوم ( كارتون ـ جرافيك ) يمكن تحريكها بحرية خالصة من قوانين الواقع، لقد ظهرت هذه السمات أكثر نضجاً وتكاملا لدى كاتب شاب ( طارق إمام ) قدم لنا رواية بعنوان: “شريعة القطة ـ 2004 ” وقبل ذلك صار على نفس النهج فى مجموعتين قصصيتين، غير أن الفترة من ( 2007 ـ 2009 ) شهدت عدداً من الروايات التى أكدت على هذه السمات وتحركت بها إلى مساحات بعيدة من التناص واللعب والتخييل الجامح وتفكيك البناء الروائى عبر حلقات سرد صغرى تتجاور أوتتقاطع عبر مجموعة من الروابط غير المتسلسلة أو المحكمة وكأنما تستعير من آليات السرد القصصى، وتسعى لتجاوز النوع الروائى إلى أفضية أخرى مستعارة من السينما أو الحلم أوالفانتازيا الشعرية أو الأسطورة أو التاريخ. ومن المهم ـ ونحن بصدد الكلام عن هذه السمات ـ أن نفرق بينها وبين كابوسية كافكا وعوالمه الجوانية، فالتخيلية الجديدة تحلق فوق سطح العالم ولا تنشغل كثيرا بالجزء الغاطس من جبل الجليد، أى أنها تراهن على جماليات السطح باعتبار السطح عمقاً انبعج للخارج ومن ثم فلا مكان للتأويل واستكناه الدلالات البعيدة مع نصوص لاتسعى للإشارة إلى ماهو خارجها. بحيث يفسر النص بعضه بعضا ولا يحتاج للإسقاط على الواقع أو إحالة مفرداته إلى نظام من الرموز التى تشير إلى خارجه.
لاشك أن الخيال، كان دائما، وطوال التاريخ عنصرا أصيلا فى النص الأدبى. لكن تلقينا له فى الحداثة، ونتيجة لهيمنة العقل والنزعة التفسيرية كانت تحيله دائما إلى خارج النص. لقد ظلت مفاهيم مثل: الرمز والإسقاط والمعادل الموضوعى، فى صميمها محاولات لعقلنة المتخيل وإخضاعة لسياقات خارجية تعمل على تفسيره. لقد عمل هذا الوعى، ومازال يعمل فى نقد النص الأدبى على نحو مطلق، سواء انطلق النص من تجربة متخيلة أو تجربة معيشة. لهذا يذهب صبرى حافظ إلى تفسير رواية ( كلما رأيت بنتا حلوة أقول ياسعاد ) عبر أسطورة إيزيس، ومن ثم تكتسب التجربة المعيشة لشخصية سعاد( أخت الكاتب ) بعدا تخيليا وأسطوريا، على الرغم من أن الرواية بكامل أحداثها وشخصياتها تصدر عن تجربة حقيقية. فيما يرى سعيد الوكيل أن القطة فى رواية (شريعة القطة) لطارق إمام رمزا للروح المصرية المتجددة.
وهكذا، فإن نفس الآلية التى تصلح لتفسير البعد الواقعى فى النص الأدبى، تصلح أيضا لتفسير البعد الخيالى. لكنهما على أى حال يشتركان فى شىء واحد وهو تفسير النص بإحالته إلى نسق معرفى خارجه.
لقد بدا النص الأدبى الحداثى أقل خضوعا للخيال وأكثر عقلانية وهو فى ذلك متوافق مع قيم الكتابية. فى حين ظل الخيال الجامح نسقا معرفيا يعيش خارج الكتابة وينتمى إلى عالم الأساطير والخرافات الشعبية ويعيش فى الخطاب الشفهى. وبدا أن الخيال لايتحقق فى واقعية الحداثة إلا فى حالات غياب العقل كالجنون والهذيان والأحلام وتحت تأثير المخدرات. لهذا فإن عصر الصورة الذى نعيشه الآن متوافقا مع ثورة التكنولوجيا. حرر الخيال من ذهنية الكتابة وإعاد إليه الاعتبار.
غير أن آليات تلقيه اختلفت بالتأكيد نتيجة لاضمحلال المسافة بين الواقع والمتخيل. لقد مكنت التكنولوجيا الإنسان من السيطرة على واقعه على الرغم من أنه أصبح واقعا فائق القدرة، متجاوزا للحدود العقلية والإمكانات البشرية التى رسمت علاقة الإنسان بالواقع. لم يعد المكان محدودا بحدود الرؤية العينية ولم يعد الزمان محدودا بحدود الحركة أو المسافة. إن كل شىء يحدث هنا والآن على نحو فعلى وليس كتصور فلسفى أو كتعبير مجازى .هكذا تنهار الحدود الفاصلة بين صورة الشىء وحقيقته أو بمعنى آخر بين الواقعى والاستعارى. ويظهر مفهوم الواقع الافتراضى منافسا عنيدا للواقع المعيش ثم متماهيا فيه، بحيث يمكننا القول أننا فى كثير من الأحيان نعيش صورة الواقع لا الواقع نفسه.وهى صورة تغذى نفسها وتتضاخم بشكل يكاد يبتلع الواقع فلايبقى فى النهاية سوى الاستعارة. وهكذا يبدو المتخيل بديلا للواقع.
إن هذا التغير فى نمط العلاقة بين الواقعى والمتخيل يحرر المبدع من الخضوع للطرائق القديمة فى اجتياز الواقع إلى المتخيل، فلم يعد العبور إلى المتخيل فى حاجة إلى فقدان العقل والهذيان أو الأحلام والمخدرات. بل يمكن القول أن الواقع والمتخيل يتعايشان فى لحظة واحدة ومكان واحد بل وفى فعل واحد.
يذكرنا هذا بطفولة العقل الإنسانى عندما كانت الأساطير والخرافات تتعايش فى نفس اللحظة مع ممارسات الحياة اليومية . كما يذكرنا بعالم الأطفال وألعابهم . فعندما يلعب الأطفال فهم فى نفس الوقت الذى يحاكون فيه واقعا لايشعرون بالمسافة بين ماهو واقع وماهو لعب.أو بمعنى آخر هم لايشيرون باللعب إلى شىء خارجه . فالأطفال الذين يلعبون لعبة ( عسكر وحرامية ) لايرمزون بلعهم إلى هيمنة النظم العسكرية على الواقع ولا إلى صور الفساد التى تتفشى فيه . فقط هم يلعبون ويتعايشون مع ألعابهم وكأنها واقع . كما أن طابع المحاكاة فى اللعب يحقق معنى التناص مع الواقع أيضا .
وهكذا يبدو أن اللعب والتناص يحققان طريقة من طرائق العبور إلى المتخيل لدى السارد الجديد. فتنطلق طاقة اللعب التى يمارسها أحمد ناجى فى رواية ( روجرز )، وهو ينتقل عبر التناص مع ألف لية وليلة إلى فيلم (الجدار) من واقع افتراضى إلى آخر ويصل بالتناص مداه حد أنه يداعب أو يصارح القارىء بأن هذه الرواية مأخوذه من كتابات أخرى ، كما تستوقفنا غرائبية التجربة الحية فى ( بابل مفتاح العالم ) عندما نكتشف أن الواقع يعيد إنتاج أساطيره القديمة طوال الوقت فيما يشبه الاستنساخ، كما تستطيع رواية فانيليا لطاهر الشرقاوى أن تحلق ـ طوال الوقت ـ فى عالم خفيف لايكاد يلامس الأرض أما رواية هدوء القتلة لطارق إمام فتجترىء على الموت وتحيله إلى لعبة أقرب إلى لعبة الاختباء أو الخدع البصرية، وهذه الروايات مجرد نماذج لانفتاح طاقة التخييل وإشباع الرغبة فى اللعب التقنى والتناصى، لدى كتاب الجيل الأخير.
سيد الوكيل
منقول عن:
منذ منتصف التعسينيات كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحا فى الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبسا بمصطلح آخرهو الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة السياسية نفسها ـ منذ منتصف الثمانينيات، ليأخذ فى البداية منحى اقتصادى، لكن النخب الثقافية فعّلت الإصلاح إلى معنى سياسى واجتماعى شامل أخذ صبغة ثقافية، إذ أن الإصلاح الذى تبنته النخب الثقافية، صار مطلبا جمعيا ملحا أكثر من كونه برنامج عمل حكومى. لهذا، بدا أن الإصلاح معنى متواضع غير قادر على تجسيد الرغبة فى تجاوز المأزق المصرى منذ هزيمة67 وتداعياتها، وبدا أن الأمر يحتاج تغييرا كبيرا فى بنية الوعى الاجتماعى السياسى، وبطبيعة الحال، كانت النظرة إلى التغيير فى الخطاب الثقافى، بمثابة القاطرة التى يمكن أن تقود مصر إلى تغيير شامل منشود.وقد ترافق هذا، مع ظهور متغيرات حقيقية على الصعيد الدولى، فرضت نفسها عبر المنظومة الثقافية الدولية، صارت مكشوفة وممكنة التطبيق فى مجتمعات أخرى بفضل وسائط التعبير التكنولوجية عبر الفضائيات والأنترنت. غير أن هذه المتغيرات الدولية، كانت لها شواهدها الأولية على نحو ماعبرت عنه حركة الطلاب فى فرنسا ( 1968)، التى اعتبرت ـ لدى كثير من المنظرين ـ تدشينا لحقبة عولمية جديدة، تجسدت ثقافيا فى نزوع مابعد حداثى. غاضب على فشل المشروع الحداثى بالعبور إلى حياة أكثر إنسانية. لهذا، فإن صورة التغيير لم تظهر فى شكل مشروعات كبرى بديلة لمشروعات الحداثة، بقدر ما اتسمت بطابع احتجاجى متعارض ومتناقض إلى حد التخريب لقيم الحداثة ذاتها.
هذه المقدمة، كانت ضرورية للإشارة إلى أن ما كان يحدث فى مصر والمنطقة العربية فى ذلك الوقت، كان متواصلا مع مايحدث فى العالم، وإن اختلفت أسبابه ومظاهرة، كما اختلفت أهدافه ونتائجه نتيجة للظرف الخاص بعد هزيمة يوليو67، فلم يكن من قبيل المصادفة، أنه كانت لنا نسختنا الخاصة من الحركة الطلابية ـ فى نفس الوقت ـ الذى كانت فيه فرنسا تصنع النسخة العالمية، وفى ذلك يقول هانى الحورانى: ” فقد انتعشت بعيد هزيمة حزيران 1967 مباشرة، حركات الطلبة في مختلف العواصم العربية، من القاهرة إلى الرباط والدار البيضاء إلى بيروت، ولم تنظر هذه الى نفسها باعتبارها مجرد حركات مطلبية ونقابية للطلبة، وإنما فوق ذلك (والأصح قبل ذلك)، باعتبارها حركات لتحرير لمجتمعات العربية من ذل الهزيمة الحزيرانية، ولتعبئتها سياسياً وثقافياً للرد على الهزيمة بالتغيير الاجتماعي والسياسي الجذري”.
وهكذا يمكن القول إن نزوعات التغيير كانت أبعد كثيرا من، التسعينيات، غير أنها وصلت نضجها متأخرة، لأسباب ارتبطت بحرية التعبير، ومظاهر القمع السياسى التى مارستها الأنظمة الحاكمة، وما أن وجدت الظرف الثقافى المناسب حتى أعلنت عن نفسها بوضوح وفاعلية. كما يمكن القول إنها اتسمت بطابعين:
ـ طابع ثقافى مرتهن بوسائط التعبير كافة سواء كان على شاشات السينما و التلفزيون والأنترنت، أو على صفحات الجرائد والكتب، ومن ثم كان كان لللإبداع الأدبى نصيب كبير فيه.
ـ الثانى: أنه يتمتع بوعى احتجاجى معارض وناقد لمشروع التحديث المصري، لم يظهر فى شكل مراجعات فكرية له فحسب، بل فى محاولات دؤوب لتفكيكه بنماذج مناقضة. غير أن هذا لم يعرب عن نفسه ـ وحتى الآن ـ فى صياغة كلية واضحة تجسد مشروعا بديلا، بقدر ما ظل، جهودا ومحاولات فردية تتناثر هنا وهناك.
المدخل الثقافى :
كانت المرجعيات الغيبية للمبدع بوصفه ملهما أو موهوبا بمنحة إلهية، تكسبه درجة من الغموض والقداسة، لكن مع ظهور التكنولوجيا بوصفها وسيطا لإنتاج المعرفة والفنون، ظهرت صورة جديدة للمبدع ، ومن ثم الإبداع ذاته، حيث ارتبطت صورة المبدع بالقدرة على التعامل مع هذه الوسائط التكنولوجية الجديدة وما تتيحه من إمكانات، لم تسهم ـ فقط ـ فى توسيع طاقة الفنون القديمة التى مثل فنون الأدب، بل أسهمت فى إنتاج فنونا جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، وهى فنون منشأة ـ على نحو خالص ـ بالإمكانات التى أتاحتها التكنولوجيا مثل فنون الجرافيك، و((3dmax . كما اسهمت المعرفة بالتكنولوجيا فى انحرافات كبيرة ومؤثرة فى الفنون القديمة، مثل فن التصوير والمسرح بل والإبداع الأدبى.
ولم يقتصر أمر تأثير الحاسوب الشخصى على الإبداع الأدبى الجديد، ليكون مجرد موضوع جديد يضاف إلى موضوعات الواقع المعيش، بل تجاوز ذلك إلى محاكاته والاستفادة من تقنياته وإمكاناته وتأثيره على العلاقات الإنسانية وعلى الوعى بالذات والآخر، وما تطرحه التكنولوجيا كإشكاليات جديدة تشغل المبدع مثل: الاستنساخ أو تداخلات الواقع الافتراضى وتأثيراته على الواقع المعيش على نحو مانجد فى روايات: ” بابل مفتاح العالم لنائل الطوخى ـ لأن الأشياء تحدث لحاتم حافظ ـ الغضب الضائع لمازن العقاد ـ فى كل أسبوع يوم جمعة لإبراهيم عبد المجيد”.
كما أتاحت التكنولوجيا مساحة للتعبير الفردى بعيدا عن شروط الأدبية التقليدية على نحو ما يحدث على المدونات والمنتديات الأدبية، ففى عصر تنهار فيه الأساطير والكيانات الكبرى، يستطيع كل فرد ـ مهما كان صغير الشأن ـ أن يصنع أسطورته الخاصة وأن يسمع كلمته لملايين الأشخاص فى العالم، متجاوزا بضربة أصبع عوائق الزمان والمكان واللغة.
لقد وضعت التكنولوجيا، الفنون القديمة فى مأزق، عندما أطاحت بالكثير من قيمها التى اعتبرت فيما مضى هامة ونبيلة، فالموهبة لم تعد معيار تمايز أو تميز، إذ يستطيع أى فرد مهما كان شأنه ودرجة موهبته، أن يجد مساحة للتعبير الأدبى على الشبكة العنكبوتية، وأن يجد فى نفس الوقت قراء يتجاوبون معه، ويحتفون به، بما يعنى تفاعل حى ومباشر بين المبدع والمتلقى بلا وسيط رقابى أو طباعى أو نقدى على نحو ما كان يتم فى النشر الورقى. لقد شجع اختفاء الوسيط على تفاعل المتلقي مع النصوص المنشورة بحيث أصبح المتلقي وسيطا في إنتاج النص ، وبطبيعة الحال ، فقد عمل هذا على التقليل من أهمية دورالناقد، فـ ” الذي يغلب على المشهد الثقافي المعاصر الآن في شتى مجالات النشاط الإبداعي والفكري، تزكية دور المتلقي ودفعه إلى ساحة المشاركة، عوضا عن وضع المتفرج السلبي الذي ينفعل بما يراه ويسلم به من غير أن يكون له دور فيه أو انتقاد له. تلك هي بلاغة العصر في مقابل بلاغة قديمة عملت على إهمال المتلقي ووضعه في دائرة الظل، على مدى عصور بعينها هي العصور التي سيطر فيها الوعي البرجوازي. كانت المراكز التعليمية قديما تعلم أبناءها صناعة الإنشاء، أوبعبارة أخرى: كانت تعلمهم كيف يكتبون. والآن اتجهت عناية المعلمين في المعاهد العلمية في العالم المعاصر إلى تعليم جمهورها كيف يقرأون”
ومن جهة أخرى تتعدد طرائق التعبير التى لاتطيح بفكرة النوع الأدبى فقط، بل تطيح بشروط الأدبية ذاتها. فتعطى المبدع مساحات واسعة من التجريب المتحرر من معيار القيمة النقدى، إذ أن معيار القيمة هنا يأحذ طابعا استهلاكيا، يدل عليه الانتشار الواسع والسريع للمنتج الأدبى. لهذا يكتسب المبدع الجديد مهارات جديدة، تعتمد على التعامل التقنى مع الوسيط، فهى بالنسبة له، أولى بالاهتمام مادامت تحق له العائد القرائى السريع، وهو مايحقق معنى المقرؤئية كما عرّفه ( رولان بارت ) بديلا عن المكتوبية. إن إزاحة معنى المكتوبية بوصفها قيمة، عملت على إزاحة معنى القيمة من النص إلى القارىء، فلم يعد النص ـ بحد ذاته ـ قيمة إلا بقدر تداوله القرائي. ودرجات اشتغال الوسائط التكنولوجية الجيدة عليه، فعلى سبيل المثال، حققت رواية ( عمارى يعقوبيان ) نجاحا كبيرا نتيجة لمقرؤيتها الواسعة من ناحية وتحولها إلى فيلم سينمائى، وليس نتيجة لرأى النقد الأدبي فيها.
كما أن المبدع، يدرك ـ منذ البداية ـ أن سلعته قابلة للاستنساخ والتقليد بسهولة، فالتفرد لم يعد متاحا ولم يعد يمثل قيمة، وهذا المعنى ينسحب أيضا على الكتابة الأدبية، ومن ثم تشيع ظواهر التناص على مدى واسع بين الأعمال الأدبية، ولم يعد تشابه عمل أدبى جديد بآخر قديم يلفت انتباه الكثيرين أو يثير امتعاض أحدا، حتى ماركيز لايخفى رغبته فى كتابة رواية على غرار الجميلات النائمات لكاوباتا وهاهو يفعلها. لكنه لايفعل هذا عبر استنساخ كامل لجميلات كاوباتا، بل يعيد أنتاجها على نحو خاص، وفى النهاية يحصل على مزيج مركب بين جميلاته وجميلات كاوباتا. يحفظ له خصوصيته، ولكنه ـ فى نفس الوقت ـ لاينفى كاوباتا، يفعل هذا عبر خبرتين: خبرة النص، ونعنى بها تلك الإحالات التى نشم فيها رائحة كاوباتا. وخبرة القراءة، ونعنى بها تلك الفكرة التى يكونها القارىء عبر خبرة طويلة بكتابات ماركيز.
قد يشار إلى هذا ـ فى الأدب ـ بوصفه اشتغالا واسعا للتناص. يمكن ملاحظته فى عدد كبير من الروايات الجديدة. وليست رواية عمارة يعقوبيان، سوى إعادة أنتاج لميرمار نجيب محفوظ، حيث البنية التحتية لللأصل ( المنتج السابق ) موجودة، ولاتحتاج سوى معالجة تلبى شروطا واحتياجات جديدة. ثمة بناية عريقة يمكن أن تكون مصر، تجمع شخصيات هى فى صميمها نماذج اجتماعية ( تشير إلى قطاع من سكان مصر) لكنها، مختلفة، ذات رغبات ومصالح متضاربة. وهذا التضارب هو ما ينتج الحكاية كلها.
المدخل الجمالى
وحين نحصر الرؤية فى مجال الإبداع الأدبى، فإننا لا نراه ـ منذ البداية ـ منفصلا عن هذا الحراك العام، أو عما كان يحدث من نزوع إلى التغيير،برفض القيم القديمة التى رسمت ملامح الأدبية، غير أن هذا المعنى لم يعبر عن نفسه بوضوح إلا منتصف التعسينيات من القرن الماضى، كنتيجة مباشرة لثورة النشر الأليكترونى، والتمهيدات الأولى لها بظهور دور النشر الخاصة، والانفجار الإعلامى المصاحب لكل هذا، سواء على شاشات التلفزيون أو الصحف الورقية والأليكترونية. ونتيجة لهذا، بدا للبعض أن التغيير الإبداعى فى الأدب، كان ظاهرة تسعينية حصريا، ولاباس فى هذا إذا ماوضعنا فى الاعتبار أمرين :
ـ أن مظاهر التجديد تسارعت بقوة فى نهاية التسعينيات، وبدت أكثر صخبا مع معطيات الألفية الجديدة.
ـ أن المشهد التعسينى تشكل عبر تضافر أصوات متعددة، بعضها جديد تماما على المشهد،وهو ما نطلق عليه جيل التسعينيات، وبعضها له سوابقه التى لم تكن منظورة ـ بنفس الوضوح ـ قبل انفجار النشر.من كتاب بدأوا مسيرتهم الأدبية منذ منتصف السبعينيات مرورا بالثمانينيات، فضلا عن التماعات خاصة لكتاب من الستينيات،مثل ( إبراهيم أصلان ـ محمد المخزنجي – محمد البساطي ) حرصوا على مراجعة المشروع الأدبى القديم، ملتفتين إلى مظاهر إنسانية وهامشية تنغمس فى مفردات الحياة اليومية، وتهتم بالتجربة الذاتية وتعيد الاعتبار للإنسان المفرد، بوصفه ذاتا مستقلة وليس بوصفه بنية صغرى فى منظومة سياسية أو اجتماعية كبرى مهما كان لها من صفات النبل القومى.
ولا شك أن هذا الالتفات ابتكر طرائقه التعبيرية، على نحو ما نجد فى رواية ( وردية ليل )، التى اعتنت بشفافية اللغة، وشعرية المشهد، فضلا عن حضور الذات الإنسانية بدلا من الذات الساردة، و حيث الذات الإنسانية تحترم الخبرات والتجارب الخاصة واللصيقة بالكاتب، بمعنى أن الكاتب يكتب ما يعرفه، وليس ما يجب أن يكون موضوعا نموذجيا للكتابة، كما تنازلت هذه الرواية على نحو صريح، عن كبرياء البناء الروائى المتماسك المحكم، واستبدلته بإفادات واضحة من آليات البناء القصصى فجاءت أقرب فى بنيتها إلى مجموعة قصص قصيرة فتوزعت بنية الرواية حول عدة مراكز قد تكون المكان أو الشخصية أو الحدث، تتواصل فيما بينها بروابط تقنية، بدلا من التمركز القديم للرواية حول وحدة واحدة.
وسوف نرى أن هذا البناء يميز كثيرا من الروايات الجديدة فيما بعد، حتى أصبح أهم سمات الرواية المصرية الحالية. بما يفسر طبيعة العلاقة بين البناء القصصى والبناء الروائى، ويدعونا للنظر بكثير من الاحتراز إلى أن مقولة زمن الرواية، أسست لنفسها على أشلاء القصة القصيرة،إذ يبدو لى أن العكس هو الصحيح، فالقصة المصرية ألتى سادت عقدى الخمسينيات والستينيات بوهج خاص على يد يحيى حقى ثم إدريس ثم يحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، قد ألهمت الرواية المصرية للخروج من مأزقها التاريخى الذى حاكت فيه نموذج الرواية الأوربية. ومن الجدير بالذكر أن نجيب محفوظ كان قد اجترأ على كسر النموذج الأوربى فى محاولات عديدة لم يلتفت إليها جيدا. غير أن نموذج إبراهيم أصلان كان ملهما لجيل جديد كان يتشكل للتو.
وفى سياق آخر بدأ الانتباه إلى شيوع أشكال بينية فى السرد، فلم يعد الأمر حصريا بين نمطي القصة والرواية، سنجد مثلا: النوفيللا، وحلقات السرد أو المتتاليات القصصية التى تنتظم عبر سردات صغيرة تتواصل فيما بينها بروابط أسلوبية أو تقنية أو موضوعية.
وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى نوازع التجريب التى يحققها مبدع متميز مثل محمد المخزنجى، الذى قدم مؤخرا نصوص: ” حيوانات أيامنا ” وهى بمثابة بحث سردى فى عالم الحيوان يتخذ من البناء القصصى شكلا له. وفى المقابل سنجد نصوصا قصصية تتمركز حول موضوع واحد لترصد تجلياته وكأنها تدرسة من زوايا نظر عده ، كما نجد عند ( محمد أبو الدهب ) فى مجموعته القصصية ( نزهة فى المقبرة ) التى بدت ـ فى النهاية ـ نوع من التأمل السردى للموت.
حتى يطيب للباحث حسين حمودة أن يطلق عليه ( الكتاب القصصى)”2″ لكونه يجمع بين صفة الكتاب العلمي البحثي والسرد القصصي، وكان المخزنجي قد قدم من قبل، وفى سياق التجريب القصصي ـ أيضا ـ نصوص : ” غرق جزيرة الحوت ” التى تعتبر بمثابة تقرير سردي لواقعة انفجار المفاعل النووي الروسي تشرنوبل. ما نعنيه أن أشكال التعبير السردى وممكناته تجاوزت كثيرا المفهوم الضيق للنوع أصلا. ولم تعد تقف عن حد تداخل الأنواع التقليدية. ولدينا شواهد من إصدارات صنفت نفسها قصصا قصيرة فيم تمتلك نزوعات متجاوزة لمفهوم القصة على نحو مانجد فى مجموعة ( نزهة فى المقبرة لمحمد أبو الدهب ) التى جعلت الموت موضوعا لها على الرغم من البناء المتشظى والذى ـ ربما ـ لايحتاج سوى روابط تقنية قليلة ليكون رواية تقارب فى شكلها وموضوعها حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ.
***
بالإشارة إلى كل ماسبق يمكن القول إن مانطلق عليه الآن رواية جديدة، لم يكن نزوعا ثوريا إلا بقدر ما كان:
ـ حراكا يستجيب للمتغير الذى عاشته مصر بعد 67، بما يستوجب مراجعة طبيعة الخطاب الأدبى وطرائق تعبيره وتوجهاته بحيث ينشد قارئا مختلفا عن ذلك الذى تربى على مفهوم الرسالة المباشرة للنص الأدبى والانحياز المؤدلج لوعى المرحلة. كما أن هذا الحراك أفاد من إمكانات التكنولوجيا، وفرص النشر الواسع، وتغير نمط المتلقى بدخول شرائح غير نخبوية، وغياب النقد، حيث يمكن للمبدع أن يتواصل مع قارئه مباشرة، ويشعر فى نفس الوقت بمردود مايكتب.
ـ أن هذا الحراك كان مرحليا وتراكميا، مرتبطا بالتجربة المصرية ـ ولأول مرة ـ بمعنى أنه لم يكن استجابة لتيارات أو اتجهات أدبية عالمية مثل تيارات: الواقعية بشقيها الاشتراكى والنقدى أو تيار الوعى أو الكابوسية الكافكاوية أو السوريالية وغير ذلك من الاتجاهات الأدبية التى كانت متداولة فى مصر فى الخمسينيات والستسنيات ولم نعد نسمع بها الآن. إذ كان التجديد نابعا عن حاجات محلية، وعبر تجارب ومحاولات لمبدعين صغار الشأن لايتكلمون باسم اتجاه أو تيار أو أيدلوجيا كبرى.
ـ أن مفارقة النموذج الستينى شكلت جوهر النزوع التجديدى للرواية المصرية، غير أن ملامح هذا التجديد لم تتضح على نحو جلى ـ كما أسلفنا ـ إلا فى التسعينيات. ففى التسعينات ظهرت مجموعة من الروايات التى أشارات إلى نفسها بسمات تجديدية واضحة، نذكر منها على سبيل المثال: ” زهور سامة لصقر لأحمد زغلول الشيطى ـ كلما رأيت بنتاً حلوة أقول ياسعاد لسعيد نوح ـ فوق الحياة قليلاً لسيد الوكيل ـ تصريح بالغياب لمنتصر القفاش ـ “وهى روايات توالى ظهورها من ( 95 ـ 98 ). وغير ذلك من الروايات التى أكدت على تفكيك مركزية الحدث. وتعدد مستويات السرد والاجتراء الواسع على التناص وهيمنة المتخيل السردى على الواقعى والحضور الشخصى للمؤلف داخل النص بما يحفز قابليته للتداخل مع أنواع أخرى مثل السيرة الذاتية فضلا عن طوابع التحليل السردى حيث يقوم صوت المؤلف الضمنى بنوع من المراجعة والتحليل لصوت الراوى الخارجى أو للأصوات الأخرى داخل النص، فى مكاشفة مع القارىء تسقط أقنعة الوهم القديمة التى كانت تراهن على محاكاة الواقع، ولعل هذه المكاشفة بين المؤلف والقارىء كانت الخطوة الأولى نحو مفارقة الإيهام بواقعية مايحدث، لقد بدت صورة المؤلف كما لو كانت ذاتا كلية مستقلة ومدعمة بسلطات غيبية تجعله أشبه بالكاهن. غير أن ميشيل فوكو يكشف لنا أن المؤلف نفسه يخضع لنظم معرفية متغيرة تزيح المؤلف من موقعه وتحيله إلى مجرد أداة، وبدا أن التركيز على حضور المؤلف فى النص راويا أو مرويا عنه يدعم هذا المعنى، فيحيلة من معناه كذات كلية مهيمنة إلى عنصر من عناصر السرد. ومن ثم يتراجع صوت السارد العليم بكل تجلياته . وتسقط أقنعة الإيهام . بما ينتهى إلى تغير فى نمط العلاقة بين ( المؤلف ـ النص ـ القارىء )، ولدينا فى هذا السياق دراسة مهمة فى ( أنماط البث والتلقى فى الخطاب الروائى المعاصر )3 لمهدى صلاح. عاينت الدراسة صوراّ جديدة لأنماط هذه العلاقة التى غيرتها طرائق الكتابة فى الرواية الجديدة وتوقفت عند ثلاثة صور للتواصل بين المؤلف والقارىء : ” التواصل الواقعى ـ التواصل الافتراضى ـ التواصل النصى “.
الموقف النقدى:
أكثر المحاولات النقدية التى اشتغلت على رصد ملامح الرواية فى التسعينيات انشغلت ـ كالعادة ـ بالمضمون الروائى، ولاحقت بمذكرات تفسيرية تفشى مقولات إعلامية بقدر من الهوس مثل: الكتابة عن الجسد أوعن المهمشين والمجتمعات الهامشية أوعن ممارسات الحياة اليومية العادية. غير أن الرهان على الموضوع الروائى معياراً لجدة الرواية لم يكن مقنعاً على الرغم من الانتشار الواسع لهذه الموضوعات. كما أنه حمل معه نفس الروح النقدية القديمة التى افترضت النص رسالة مموهة تحتاج إلى تفسيرها بوصفها محتشدة بالرموز والإسقاطات والمعادلات الموضوعية للواقع والتى تنتهى عادة إلى معنى سياسى على نحو ما. وفى المقابل، كان ثمة محاولات نقدية ـ قليلة ـ عملت على اختبار مقولة الرواية الجديدة عبر رؤية تفصيلية ترصد تشكلاتها خلال التسعينات من القرن الماضى وتقف على مشارف العقد الأول من القرن الحالى.
لدينا فى هذا السياق رؤية مميزة للناقد مجدى توفيق فى كتابه ( الذاكرة الجديدة )3 ، وهى مميزة باعتبار عزوفها عن الطرائق المألوفة فى السعى وراء الموضوع الروائى، أو طرائق السرد وتقنياته وأساليبه التى صارت مراوغة ومتجددة على نحو يصعب الإحاطة بها، إذ اتخذت دراسة توفيق لنفسها منهجاً مختلفاً فى البحث عن ذاكرة جديدة منتجة لرواية جديدة. وحيث الذاكرة ليست مجرد أرشيف لحفظ المعلومات بل طاقة تخيلية تعمل على دعم الوعى الجمالى، وهذه الطاقة تحدد علاقتها بالمعنى الأدبى على اتجاهين:
الأول : يتخذ من الواقع مرجعية رئيسة له، وكأن الإبداع الروائى قراءة جمالية للواقع. وهى بمثابة امتداد للذاكرة القديمة.
الثانى : يتأسس على المخيلة وينطلق منها، وكأن الواقع ـ نفسه ـ صورة متخيلة.
اتجاهان للرواية الجديدة:
ويرى مجدى توفيق، أن أهم مايميز المشهد الروائى الجديد هوتجاور هذان الاتجاهان، وهما يتطوران معاً بهدف مفارقة المعنى السابق للرواية الواقعية التى غمرت المشهد الستينى، فالاتجاه الأول مثلا: يركز على تقديم قراءات جمالية للبيئات المهمشة والمبعدة على نحو ما نجد فى كتابات :” حمدى أبوجليل وسعيد نوح وميرال الطحاوى وحسين عبد العليم وأحمد أبو خنيجر وعصام راسم وغيرهم “. وإذا كانت الكتابة عن البيئات المهمشة لها سوابقها فى الرواية الواقعية ومنذ الستينيات فإن التمايزات التقنية والأسلوبية هى أهم مايضع هذه الكتابة فى أفق التجديد، فهى تكتسب لمسات غرائبية وأنثربولوجية، فضلا عن الطابع الاحتفالى كالذى نراه عند (أحمد أبو خنيجر) على سبيل المثال أو روح السخرية كالتى نجدها عند (حمدى أبى جليل ). وفى أغلب الأحوال فهى تشهد مغايرة ملموسة فى مفهومى الزمان والمكان، وهى مغايرة موزعة بين الحنين والاحتجاج والتناقض مع التاريخ.
فيما يعنى الاتجاه الثانى بالتركيز على عوالم افتراضية ومتخيلة مثل: الصور والأحلام ( العوالم الجوانية ) على نحو مانجد عند (مصطفى ذكرى ومنتصر القفاش فى روايته أن ترى الآن ) والحكايات الشعبية والأساطير والخرافات وعوالم المتصوفة والعارفين ( خيرى عبد الجواد ـ محمد إبراهيم طه ) ، كما يكون التاريخ أو التراث مصدرين مهمين لرواية تسعى إلى مفارقة الواقع وتسقط عليه فى آن على نحو ما نجد عند ( سلوى بكر ونجوى شعبان وسعد القرش ). كما يصبح عالم الكتابة والكتّاب بوصفه عالما افتراضيا موضوعا لرواية ( فوق الحياة قليلا )، فى حين يتخذ سعيد نوح من عالم السينما موضوعا لروايته ( دائما ما أدعوا الموتى .. ).
وإذا كان هذا التقسيم إلى اتجاهين أحدهما يسعى إلى اقتناص المتخيل وتأثيرات الموروث والتاريخ فى صناعة الواقع، فإن الآخر يبدو كما لو أنه يقوم على على صناعة الواقع عبر المتخيل. هذا لاينفى تلاقى الاتجاهان ليس فقط باعتبار أن الواقع والخيال قاسمان مشتركان فى العمل الأدبى، بل ولأن كل منهما محمل بإمكانات مختلفة فى طرائق السرد وأساليبه. ولدينا أعمال روائية عديدة نجحت فى تحقيق هذا المزج بين ذاكرتى الواقع والخيال، ومن الطريف أن كاتبا مثل سعيد نوح يعود إلى واقعية مسرفة فى( 61 شارع زين الدين ) بعدما نجحت روايته ( دائما ما أدعو الموتى ) فى تجاوزها، وحلقت فى عناق ساخن مع عالم الصور والسينما وأحلام البطولة. ثم أنه يعود من جديد مع ( ملاك الفرصة الأخيرة ) إلى التخييل الواسع والتناص ومعانقة الشفهى والتاريخى والأسطورى معا، بما يعنى أن تجربة الكاتب الواحد يتجاور فيها النمطان وربما فى العمل الواحد نفسه.
التكنولوجيا وذاكرة جديدة :
ولكن علينا ملاحظة أن الاتجاه الثانى( ذاكرة الخيال ) حقق قفزات واسعة فى سبيل التجديد، فقد عملت الوسائط التكنولوجية الحديثة على تنميته، من حيث أن هذه الوسائط فرضت صورة مغايرة للواقع ورسمت أبعاده على نحو أكثر تحديدا حتى يمكننا القول إننا ـ الآن ـ نعيش فى صورة الواقع لا الواقع نفسه، لقد حدث هذا عبر تفعيل مثير للخيال باعتبار الخيال أعلى درجات التفكير الإبداعى، فبالتفكير الإبداعى يتمكن الإنسان من صياغة الواقع وإنتاجه فهو لم يعد ابن الصدفة والظروف والمتغيرات التى تحدث فى عمقى الزمان والمكان . كما لم يعد مجرد استجابة لمتغير يفرضه الواقع.
ويبدوأن ذائقة المتلقى الجديد التى تربت على التفعيل المثير للخيال عبر الوسائط البصرية الجديدة كالتصوير وفنون الجرافيك صارت معدة بطريقة ما للتعامل مع المتخيل أو الواقع الافتراضى بدرجة أكبر من تعاملها مع الواقع المعاش، ولاسيما أن الواقع الافتراضى يحقق لذة افتراضية لإنسان لم يعد راغباً فى مكاشفة الواقع المعاش وتقصى ملابساته المضنية والغوص فى معضلاته المتجددة، وربما يجد فى الرواية فضاء لإقامة افتراضية لأطول وقت ممكن، وقد يسهم هذا فى فهم الإقبال القرائى الواسع على الرواية فى زمننا هذا، ولم يكن من قبيل المصادفة هذا الإقبال المثير على قراءة ( هارى بوتر ) كما أن الروايات التى حظيت بشهرة عالمية واسعة لم تخل من هذا التحليق المثير للخيال على نحو ما نجد فى روايات مثل شيفرة دافنشى وأسمى أحمر والعطر. فالحقيقة أن حرية التعبير على شبكات الأنترنت مكنت المبدع الجديد من التحليق بلاحدود، وبقدر لم تحلم به الكتابة الورقية فى أى لحظة من تاريخها.
وعلينا ملاحظة أن الصورة الفيلمية نجحت فى تجسيد الخيال فاقترب به فى تصوراته إلى الواقع الحسى بدلا من التعبير المجازى الذى جسدته اللغة.
بل وحتى الروايات التى ارتبطت بالواقع وسعت إلى تصويره لم تكن مخلصة له تماما كما كانت الرواية الواقعية فى الستينيات من القرن الماضى، فالواقعية الجديدة سعت إلى مفارقة الواقع سواء بالتناقض معه أو الاحتجاج عليه ورفضه بما يفسر ظهور شخصيات روائية تحتل دور البطولة ـ كدأب الواقعية عموما ـ ولكنها تتصادم مع الواقع بعنف وترفضه وتتجه إلى ممارسات احتجاجية سواء بالانهماك فى تناول المخدرات أو الجنس والعنف، يميز هذا الملمح رواية الواقعية الجديدة على نحو ما نجد فى: ” دكة خشبية تسع أثنين بالكاد ـ بمناسبة الحياة ـ بهجة العمى ـ قانون الوراثة ـ كائن العزلة ـ فاصل للدهشة ـ المستبقى ـ لذات سرية وغيرها ” وقد يكون هذا بالسخرية من الواقع والتعالى عليه وفضح تشوهاته ولا معقوليته كما نجد فى: ” لصوص متقاعدون ـ 61 شارع زين الدين ” وهما روايتان اشتغلتا على بيئة مكانية واحدة. وقد بلغت رواية الفاعل لحمدى أبى جليل حدا من السخرية يتجاوز السخرية من الواقع الاجتماعى إلى الواقع الشخصى اللصيق بالذات، ويمكن ملاحظة أن هذا الملمح ( السخرية من الذات ) ميز الكثير من كتابات التسعينيات واستمر حتى الآن.
واقعية فائقة القدرة
غير أن التفعيل الفائق للخيال يقطع مسافة بعيدة عن الواقع ولايتوقف عند مجرد مفارقته ببضع خطوات، إنها مسافة تقترب من معنى القطيعة، وهنا يمكن فهم الفارق بين معنيي التجديد والجدة، حيث التجديد ترقية وتنمية ومغايرة لخطوط معرفية موجودة سلفا فيما عرف بالرواية الواقعية، وحيث الجدة محاولة لقطيعة مع المعارف الجمالية التى تأسست أصلا على هذا المفهوم.
ويبدو أن حركة السرد الجديد آخذة فى مفارقة الواقع على نحو جاد من حيث التأكيد على معانقة الخيال وتكثيف روح اللعب، فالمبدع الجديدلايحاكى الواقع ولا يستغرق فى محاولة فهمه بقدر ما يفارقة ليخلق عالمه الخاص من مادةالخيال ويعيد ترتيبه باللعب وكأن العالم لعبة بازل لها قابلية التشكيل، أو مجموعة من الرسوم ( كارتون ـ جرافيك ) يمكن تحريكها بحرية خالصة من قوانين الواقع، لقد ظهرت هذه السمات أكثر نضجاً وتكاملا لدى كاتب شاب ( طارق إمام ) قدم لنا رواية بعنوان: “شريعة القطة ـ 2004 ” وقبل ذلك صار على نفس النهج فى مجموعتين قصصيتين، غير أن الفترة من ( 2007 ـ 2009 ) شهدت عدداً من الروايات التى أكدت على هذه السمات وتحركت بها إلى مساحات بعيدة من التناص واللعب والتخييل الجامح وتفكيك البناء الروائى عبر حلقات سرد صغرى تتجاور أوتتقاطع عبر مجموعة من الروابط غير المتسلسلة أو المحكمة وكأنما تستعير من آليات السرد القصصى، وتسعى لتجاوز النوع الروائى إلى أفضية أخرى مستعارة من السينما أو الحلم أوالفانتازيا الشعرية أو الأسطورة أو التاريخ. ومن المهم ـ ونحن بصدد الكلام عن هذه السمات ـ أن نفرق بينها وبين كابوسية كافكا وعوالمه الجوانية، فالتخيلية الجديدة تحلق فوق سطح العالم ولا تنشغل كثيرا بالجزء الغاطس من جبل الجليد، أى أنها تراهن على جماليات السطح باعتبار السطح عمقاً انبعج للخارج ومن ثم فلا مكان للتأويل واستكناه الدلالات البعيدة مع نصوص لاتسعى للإشارة إلى ماهو خارجها. بحيث يفسر النص بعضه بعضا ولا يحتاج للإسقاط على الواقع أو إحالة مفرداته إلى نظام من الرموز التى تشير إلى خارجه.
لاشك أن الخيال، كان دائما، وطوال التاريخ عنصرا أصيلا فى النص الأدبى. لكن تلقينا له فى الحداثة، ونتيجة لهيمنة العقل والنزعة التفسيرية كانت تحيله دائما إلى خارج النص. لقد ظلت مفاهيم مثل: الرمز والإسقاط والمعادل الموضوعى، فى صميمها محاولات لعقلنة المتخيل وإخضاعة لسياقات خارجية تعمل على تفسيره. لقد عمل هذا الوعى، ومازال يعمل فى نقد النص الأدبى على نحو مطلق، سواء انطلق النص من تجربة متخيلة أو تجربة معيشة. لهذا يذهب صبرى حافظ إلى تفسير رواية ( كلما رأيت بنتا حلوة أقول ياسعاد ) عبر أسطورة إيزيس، ومن ثم تكتسب التجربة المعيشة لشخصية سعاد( أخت الكاتب ) بعدا تخيليا وأسطوريا، على الرغم من أن الرواية بكامل أحداثها وشخصياتها تصدر عن تجربة حقيقية. فيما يرى سعيد الوكيل أن القطة فى رواية (شريعة القطة) لطارق إمام رمزا للروح المصرية المتجددة.
وهكذا، فإن نفس الآلية التى تصلح لتفسير البعد الواقعى فى النص الأدبى، تصلح أيضا لتفسير البعد الخيالى. لكنهما على أى حال يشتركان فى شىء واحد وهو تفسير النص بإحالته إلى نسق معرفى خارجه.
لقد بدا النص الأدبى الحداثى أقل خضوعا للخيال وأكثر عقلانية وهو فى ذلك متوافق مع قيم الكتابية. فى حين ظل الخيال الجامح نسقا معرفيا يعيش خارج الكتابة وينتمى إلى عالم الأساطير والخرافات الشعبية ويعيش فى الخطاب الشفهى. وبدا أن الخيال لايتحقق فى واقعية الحداثة إلا فى حالات غياب العقل كالجنون والهذيان والأحلام وتحت تأثير المخدرات. لهذا فإن عصر الصورة الذى نعيشه الآن متوافقا مع ثورة التكنولوجيا. حرر الخيال من ذهنية الكتابة وإعاد إليه الاعتبار.
غير أن آليات تلقيه اختلفت بالتأكيد نتيجة لاضمحلال المسافة بين الواقع والمتخيل. لقد مكنت التكنولوجيا الإنسان من السيطرة على واقعه على الرغم من أنه أصبح واقعا فائق القدرة، متجاوزا للحدود العقلية والإمكانات البشرية التى رسمت علاقة الإنسان بالواقع. لم يعد المكان محدودا بحدود الرؤية العينية ولم يعد الزمان محدودا بحدود الحركة أو المسافة. إن كل شىء يحدث هنا والآن على نحو فعلى وليس كتصور فلسفى أو كتعبير مجازى .هكذا تنهار الحدود الفاصلة بين صورة الشىء وحقيقته أو بمعنى آخر بين الواقعى والاستعارى. ويظهر مفهوم الواقع الافتراضى منافسا عنيدا للواقع المعيش ثم متماهيا فيه، بحيث يمكننا القول أننا فى كثير من الأحيان نعيش صورة الواقع لا الواقع نفسه.وهى صورة تغذى نفسها وتتضاخم بشكل يكاد يبتلع الواقع فلايبقى فى النهاية سوى الاستعارة. وهكذا يبدو المتخيل بديلا للواقع.
إن هذا التغير فى نمط العلاقة بين الواقعى والمتخيل يحرر المبدع من الخضوع للطرائق القديمة فى اجتياز الواقع إلى المتخيل، فلم يعد العبور إلى المتخيل فى حاجة إلى فقدان العقل والهذيان أو الأحلام والمخدرات. بل يمكن القول أن الواقع والمتخيل يتعايشان فى لحظة واحدة ومكان واحد بل وفى فعل واحد.
يذكرنا هذا بطفولة العقل الإنسانى عندما كانت الأساطير والخرافات تتعايش فى نفس اللحظة مع ممارسات الحياة اليومية . كما يذكرنا بعالم الأطفال وألعابهم . فعندما يلعب الأطفال فهم فى نفس الوقت الذى يحاكون فيه واقعا لايشعرون بالمسافة بين ماهو واقع وماهو لعب.أو بمعنى آخر هم لايشيرون باللعب إلى شىء خارجه . فالأطفال الذين يلعبون لعبة ( عسكر وحرامية ) لايرمزون بلعهم إلى هيمنة النظم العسكرية على الواقع ولا إلى صور الفساد التى تتفشى فيه . فقط هم يلعبون ويتعايشون مع ألعابهم وكأنها واقع . كما أن طابع المحاكاة فى اللعب يحقق معنى التناص مع الواقع أيضا .
وهكذا يبدو أن اللعب والتناص يحققان طريقة من طرائق العبور إلى المتخيل لدى السارد الجديد. فتنطلق طاقة اللعب التى يمارسها أحمد ناجى فى رواية ( روجرز )، وهو ينتقل عبر التناص مع ألف لية وليلة إلى فيلم (الجدار) من واقع افتراضى إلى آخر ويصل بالتناص مداه حد أنه يداعب أو يصارح القارىء بأن هذه الرواية مأخوذه من كتابات أخرى ، كما تستوقفنا غرائبية التجربة الحية فى ( بابل مفتاح العالم ) عندما نكتشف أن الواقع يعيد إنتاج أساطيره القديمة طوال الوقت فيما يشبه الاستنساخ، كما تستطيع رواية فانيليا لطاهر الشرقاوى أن تحلق ـ طوال الوقت ـ فى عالم خفيف لايكاد يلامس الأرض أما رواية هدوء القتلة لطارق إمام فتجترىء على الموت وتحيله إلى لعبة أقرب إلى لعبة الاختباء أو الخدع البصرية، وهذه الروايات مجرد نماذج لانفتاح طاقة التخييل وإشباع الرغبة فى اللعب التقنى والتناصى، لدى كتاب الجيل الأخير.
سيد الوكيل
منقول عن:
المتغير السردى في مصر، قبيل الألفية الثالثة
سيد الوكيل المدخل السياسى منذ منتصف التعسينيات كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحا فى الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبسا بمصطلح آخرهو الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة ال…
sadazakera.wordpress.com