أ. د. عادل الأسطة - قناديل ملك الجليل

"قناديل ملك الجليل" عنوان رواية الشاعر والروائي ابراهيم نصر الله المولود في مخيم الوحدات بعمان، في العام 1954، والمقيم فيها حتى الآن، وقد صدرت طبعتها الأولى في العام 2012، وتقع في 558 صفحة.
وقد عرف ابراهيم شاعراً أولاً، ثم أخذ يكتب الرواية إلى جانب كتابته الشعر، وغدا يقرأ روائياً، أكثر مما يقرأ شاعراً، فقد أعيدت طباعة أعماله الروائية في فلسطين مؤخراً، والتفت إليها أكثر من الالتفات إلى أشعاره، ولا أدري إن كان هو شخصياً لمس هذا، فمال إلى جنس الرواية وكتبها على حساب الشعر.
وثمة دارسون ونقاد بارزون، منهم د. جابر عصفور، بدؤوا يرددون مقولة "زمن الرواية"، لا زمن الشعر.
و"قناديل ملك الجليل" تعود إلى التاريخ الفلسطيني قبل مائتي عام لتكتب عن ظاهر العمر الذي أراد أن يؤسس دولة فلسطينية عربية مستقلة عن الدولة العثمانية، وكاد ينجح في مسعاه، وهكذا فإن زمنها الروائي لا يتطابق وزمنها الكتابي، وقد أوضح الروائي، في الإضاءات التي كتبها وصدر بها روايته، هذا، وهذا بحد ذاته إجراء استباقي، ليلفت نظر النقاد الذين قد يبحثون في روايته عن إسقاطات معاصرة على الماضي، وهذا عموماً يلفت النظر في صفحات كثيرة من الرواية.
وهذه العودة إلى التاريخ للكتابة عنه هي مثار أسئلة عديدة قد يثيرها قارئ الرواية العربية المعاصرة، وقارئ روايات ابراهيم نصر الله، إذ الملاحظ أن عدداً متزايداً من الروايات التي تنجز، بل وتفوز بجوائز مهمة في العالم العربي، هي روايات تتكئ على الماضي وتنهل منه وتغرف من بحره: بهاء طاهر في "واحة الغروب" ويوسف زيدان في "عزازيل" وربيع جابر في "دروز بلغراد"، وقبل هؤلاء أمين معلوف، وقبله نجيب محفوظ في مرحلته التاريخية، وجرجي زيدان في رواياته العديدة.
وإذا كانت كتابة هذه الرواية ليست جديدة في الرواية العربية، فإنها تكاد تكون جديدة في الرواية الفلسطينية وفي مسيرة ابراهيم نصر الله. والمعروف أن أبرز الروائيين الفلسطينيين، من بيدس والحسيني في مرحلة التأسيس، مروراً بكنفاني وحبيبي وجبرا في مرحلة الترسيخ، وليس انتهاءً برشاد أبو شاور ويحيى يخلف وسحر خليفة، ظلوا يكتبون روايات تنهل من الواقع المعيش والتجربة الحياتية الراهنة لزمن الكتابة الروائية، ولم يكن ابراهيم نصر الله، في رواياته الأولى، ليشذّ عن هذا: من "براري الحمى" و"مجرد 2 فقط" و"عو" و"طيور الحذر" و"حارس المدينة الضائعة".. الخ، ولكنه في "زمن الخيول البيضاء" وفي "قناديل ملك الجليل" بدأ يكتب عن زمن آخر لم يكن شاهداً عليه، فالأولى تتوقف عند العام 1948، عام اللجوء، والثانية تعود إلى القرن الثامن عشر.
وستغدو الرواية التي يكتبها نصر الله رواية تتكئ على مصادر وكتب أكثر مما هي تصوير لواقع معيش.
وليس هو الوحيد الذي يفعل هذا، الآن، في التجربة الروائية الفلسطينية، ولعلّ المتابع للروايات الثلاث الأخيرة التي أصدرتها سحر خليفة، في سنواتها السبع الأخيرة، يلحظ الشيء نفسه، فهل قال الكاتبان في رواياتهما الأولى كل شيء عن الواقع، ولم يعد بإمكانهما تقديم المزيد، فآثرا العودة إلى الماضي على التكرار، أم أنهما وجدا نفسيهما بعيدين عن نهر الحياة اليومي، لانشغالهما بالقراءة والكتابة، فأخذا يكتبان روايات تاريخية أو تعتمد على التاريخ وعلى شخصيات تاريخية، لتعكس كتابتهما بعض ما آلا إليه؟ أم أنهما لاحظا أن الشخصيات التاريخية، والفترة التاريخية، أيضاً، التي أخذا يكتبان عنها لم يكتب عنها بما فيه الكفاية، وأنها تستحق أن تقدم للقارئ الفلسطيني والعربي، بل والعالمي؟
في الإضاءات التي صدر بها الكاتب روايته يقول لنا هذا، ويفصح لنا عن علاقته ببطل روايته، وهي علاقة بدأت متأخرة، وكان ينبغي أن تكون بدأت مبكرة جداً، وبطل روايته ظاهر العمر شخصية تاريخية عظيمة، ظلت شبه مجهولة لدى قطاع كبير من الناس، في فلسطين وخارجها.
لقد رأى الروائي أنها شخصية فريدة تستحق أن تلتفت إليها الأعمال الروائية والسينمائية والتلفزيونية منذ زمن بعيد، ولقد تعلم الكاتب، وهو يقرأ عنها، الكثير الكثير، فخرج إنساناً مختلفاً.
رأى فلسطين، من خلال ظاهر، وطنا جميلاً متسامحاً يحتضن الآخر ويقبله ويتقبّله، ورآها بلاداً غنية ثقافياً وروحياً، وأراد أن ينقل هذه الأحاسيس إلى القرّاء.
وهذا ما تقوله بعض جوانب الرواية، بل أكثرها، ويمكن أن يلحظ القارئ هذا وهو يقرأ عن اليهود والنصارى/ المسيحيين فيها، والكتابة عن اليهود، وإن كانت قليلة جداً، وتكاد لا تزيد على فقرة أو فقرتين، والكتابة عن المسيحيين وصلتهم بظاهر، وفيها استطراد، تقول ما قاله الروائي في إضاءاته.
ستكون الكتابة عن اليهود في الرواية عابرة (ص280) ولكنها دالة بما فيه الكفاية، فهؤلاء الذين تصلهم رسالة من دمشق تطلب منهم أن يغادروا طبرية التي ستحاصر، يذهبون بالرسالة إلى ظاهر ليعلموه بالأمر، ويردّون له الجميل، لأنه وقف إلى جانبهم من قبل. إنهم لا يغدرون ولا يتآمرون. والكتابة عن النصارى كأبناء حاذقين ومخلصين تبدو في صفحات كثيرة (384 وما بعدها)، وما ورد في بعض صفحات الرواية (ص374/375) يعبر عن رؤية متقدمة لصورة الوطن، وأظنها بعض إسقاطات المؤلف على بطله، وكم كنت أتساءل وأنا أقرأ الرواية إن كان هذا الكلام الذي أقرؤه بعض إسقاطات معاصرة، وحين أمعنت النظر في الإضاءات التي صدر بها الكاتب روايته أيقنت هذا، فهذا الذي أراه مدّني به المؤلف، أيضاً: "لا يستند هذا العمل إلى دقة المعلومة تماماً، رغم إخلاصه لها، بل يستند أكثر إلى قوة الحقيقة وقوة الخيال في اتحادهما بجوهر الأحداث وجوهر الشخصيات.
وما دام الكاتب يقرّ بأن عمله الروائي لا يستند إلى دقة المعلومة تماماً، فليس لنا إذن، أن نتتبع صورة ظاهر العمر في كتب التاريخ وصورته في الرواية لملاحظة التطابق والاختلاف للحكم على مدى نجاح الروائي في إبراز صدق عمله، وقد يفعل هذا طالب دراسات عليا، ليطلعنا على مدى هذا التطابق والاختلاف ليس إلاّ. (أحد طلابي وهو إبراهيم أبو تحفة يعكف الآن على إنجاز رسالة ماجستير عن روايتي "زمن الخيول البيضاء" و"قناديل ملك الجليل"، ولعله سيقول لنا الكثير).
يعلي الروائي من قيمة بطله ويبرز له صورة إيجابية تكاد تبلغ حد الأسطورة وهو لا يؤسطر فقط البطل، وإنما يؤسطر شخصيات أخرى أهمها نجمة التي تذكر قارئ الرواية العربية بنجمة كاتب ياسين الروائي الجزائري وقد صدرت رواية ياسين بالعربية، كما نشر جزء منها في كتاب "كتاب في جريدة"، ولعلّ الروائي اطلع عليها، ولا أدري إن كان تأثر بها. إن المرأة هنا تكاد تذكرنا، أيضاً، بأم سعد في رواية كنفاني "أم سعد" لكنها هنا أكثر أسطرة وأبرز.
وسيرسم الكاتب صورة إيجابية لبطله تكاد تكون متمناة، أو على رأي أرسطو، كما ينبغي أن تكون، وأظن أن الصورة المتمناة هي التي يتطلع إليها نصر الله في الحاكم، فهل أراد أن يقول للحكام: انظروا ما يجب أن تكونوا عليه. لم يأبه ظاهر العمر لأهله ولأبنائه ولملذاته، فقد كان همّه تأسيس دولة تسودها العدالة، دولة مستقلة يتعايش فيها مواطنوها بود واحترام.
ولأن الرواية تقترب من، بل تكاد تكون، العمل الملحمي، فإن مؤلفها يوظف التراث والعادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية توظيفاً لافتا، وأهم ما وظفه هو قصة القناديل، وهو ما بدا أصلاً في العنوان، ولكنه وظفها لا ليعززها، وإنما لينقضها غالباً. ظاهر العمر قنديل وإخوانه قناديل، فمن فيه زيت أكثر، ومن سينطفئ أولاً، وتكذب الرواية المعتقد الشعبي.
ثمة جانب أخير أود ملامسته في هذه المقالة هو لغة الرواية، تبدو لغة الرواية، وقد أدخلت في مياه نهر ليثي، فبالكاد نعثر على مستوى غير مستوى اللغة الشعرية القائمة على الاستعارة والمجاز أحياناً، والفصيحة غالباً.
تبدو شاعرية اللغة في العناوين، وتبدو الفصيحة في السرد وفي الحوار، وهذا ما لا يتطابق ولغة ذلك العصر، وفي مواطن قليلة استخدم العامية، حين تنطق بها شخوص غير عربية وفي التراث الشعبي، وأحياناً تتطابق ولغة ذلك العصر، فتكون لغة جناس وطباق. (486، 488، 499، 502)... و.. و.. و..


د. عادل الأسطة
2014-02-09



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى