أعرف أنك لن تصدقنى .. فمهما حاولت ستكشفك هذه الدهشة المتهكمة .. تعرف ربما تكون معذورا ولن ألومك فأنا نفسى لا أعرف كيف حدث هذا .. صب كوبا آخر من البيرة وخذ هذه السيجارة ولا تجعل نظرة الشك فى عينيك توقفنى عن الكلام .
كان من الممكن أن يظل الأمر منسيا فى ذاكرتى كأنه حلم ، لولا أن رأيتها بالأمس تهبط من سيارتها أمام محل " لابوار " .. أنا لا أعرف ملامحها حتى هذه اللحظة ، لكن جسدها أحفظه عن ظهر قلب .. حسد مثل جسدها لا يمكن نسيانه .. خطوتها أيضا وهى تمضى من أمامى هى نفس الخطوة التى تركت فى أطرافى شلل لا يقاوم حين رأيتها أول مرة .. أنا لن أنسى شكل أصابع قدميها وهى تمشى عارية على بلاط قصرها ، وهى تطير كفراشة على دراجات السلم الداخلى وفى ردهات القصر الخارجية قرب حمام السباحة الملاصق لشاطىء البحر .
- لماذا تنظر إلى هكذا وتشك فى أننى لا أصدقك ؟ .. تكلم واطرد الوجع الذى يسهدك ، فالليل أمامنا طويل ، والديك الذى سيشد النهار من بطن العتمة لم يستيقظ بعد .
البداية كانت حين أخذنى زوجها .. على فكرة .. أنا لا أعرف حتى هذه اللحظة إذا ما كان زوجها أم شخصا آخر .. المهم أنه أخذنى إلى القصر الموجود على شاطىء مرسى مطروح .. لا لم تكن مرسى مطروح .. كان المكان أبعد منها ، أو ربما كان قبلها .. لا أعرف بالضبط ، لكنه كان بعيدا والدنيا ليل .. بعيدا جدا وخاليا من جنس البشر .. رمل من كل جانب .. هل تعرف هذا المكان .. ؟
- لا يهم .. أكمل .
قال لى أن القصر يحتاج إلى حارس .. كنت أيامها أحسن كثيرا من الآن .. أنت لم تعرفنى وقتها .. صحة وعافية وجمال .. وافقت رغم بعد المكان أمام ضخامة الامتيازات التى عرضها أمامى ..
- كيف رأيتها .. ؟
تصور حتى هذه اللحظة لم أعرف كم مكثت فى هذا القصر .. لكننى رأيتها فى مساء اليوم الثانى من وصولى إلى هناك ، أو ربما قابلتها فى مساء نفس اليوم الذى وصلت فيه .. لا أعرف .. هل هذا يهم .. المهم أنى قابلتها ..
- كيف قابلتها ..؟
وصلت إلى القصر فى فجر اليوم الأول بصحبة هذا الشخص الذى لم أعرف من يكون وسائق السيارة المرسيدس التى أقلتنا .. فتحا لى الحجرة التى سأعيش فيها وتفقدا معى المكان وقبل أن يمضيا قالا .. أن شخصا سيحضر كل أسبوع ومعه الطعام وكافة ما يلزمنى من احتياجات ، ثم أعطونى مفاتيح القصر ورحلوا ..
يا الله لن أصف لك ما رأيته حين تسكعت فى حديقة القصر .. هل تعرف وصف الجنة ؟ .. أراهنك بأنك لو كنت رأيت هذا القصر بحديقته الشاسعة فى هذا المكان ستقول أنك فى الجنة .. شىء لا يصدق .. أشجار رمان وعنب وتين ، ونباتات غريبة لم أرها من قبل .. قفص كبير بحجم بيتنا مليان بأنواع الطيور التى خلقها ربنا .. تطير منه ثم تعود إليه ، تفعل هذا وهى تصدر أصواتا كأنها صادرة من أوركسترا يعزف فى الأوبرا .. تصور لقد رأيت غزالا يجرى بين الأشجار .. لقد وقف أمامى فجأة حين رآنى .. بحلق فى عينى ثم راح يجرى .. كانت هناك أيضا قرود صغيرة تتعلق فى أعالى الشحر .. هل رأيت فيلم طرزان ؟ .
- تقريبا
كان هناك سرير شبك معلق بين شجرتين ومتروك لمن يحب أن ينام عليه تماما كما فى أمريكا اللاتينية .. هناك الناس تنام على هذه الأسرة الشبك خارج البيوت من شدة الحر .. هل قرأت ماركيز ؟ .. حكى عن هذا السرير كثيرا فى قصصه .
- لا يهم .. أكمل .
أحواض أسماك الزينة لن أخبرك عنها .. أنا نفسى لم أصدق شكل وحجم الأسماك التى كانت تسبح فيها .. أما شاطىء البحر فقد كان عل امتداده يتهادى أمام القصر كسجادة حريرية .. لا أثر لموجة و المياه دافئة دفء الحليب الطازج .
- كل هذا ولا أحد غيرك .. ؟
لم أر أحدا .. كان المكان خاليا إلا من رجل .. تصورته فى البداية طيف .. شيخ كبير طاعن فى السن .. يرتدى جلباب أبيض فضفاض ، وتظهر لحيته البيضاء نازلة حتى صدره .. كان يظهر بين النباتات من وقت لآخر .. يرمقنى بابتسامة ويختفى ..
- أنت على أى حال رجل طيب ..
لا أعرف لماذا أشعر أنك لا تصدقنى .. هل يبدو لك أننى أكذب ؟ .. اسمع إذا كنت تتصور أن هذا حلم بالجنة فأنت غلطان ، وإلا فقل لى .. إذا كانت حورية تلك التى رأيتها فى الحلم ، فلماذا كنت أراها تمشى عارية تماما إلا من نقابها الذى كانت تخفى به ملامح وجهها .. هل هناك حورية تخاف من افتضاح أمرها .. ألا تعرف أن الحوريات متحررات ؟ .. ألا تعتقد مثلى أنهن مكلفات باسعاد المتقين الذين سيدخلون الجنة .. كما أن هؤلاء الذين يرون الجنة فى أحلامهم متقين ، وأنا كما تعلم لست بتقى .. خذ هذه السيجارة وصب لنا بقية زجاجة البيرة ..
- صفها لى .. ؟
من … ؟
- المرأة ذات النقاب
شىء ولا فى الخيال .. صدقنى ليس فى ذهنى أحد ممكن أن أشبهها به .
- فى جسم يسرا .. ؟
لا يسرا ولا شارون ستون ولا أى جنس بشر ممكن تعرفه .
- يا أخى حيرتنى معاك .. تكلم وخلصنى
جاءت بفردها .. لم أرها وهى تدخل القصر .. فى مساء نفس اليوم رأيتها .. كنت خارجا من الباب الخلفى الذى يفضى إلى الشاطىء .. وكانت هى خارجة من الماء عارية كما ولدتها أمها .
نور ساطع كأنه انبعث فجأة من القمر ، راح يموج فى الهواء .. يتكور ويخلق جسدا رائعا .. كنت على وشك أن يغمى على من شدة الخوف ، لكنها حين أشارت بأصبعها وندهت باسمى أن أتبعها .. فهمت أنها صاحبة القصر .
وقفت مذهولا أمام تفاصيل الجمال السماوى وهو يتبختر أمامى .. كان النور يكشف عن كتفين ونهدين وبطن تضيئها سرَّة فى ظلاله ، ويكشف أخيرا عن لون أبيض ناعم يكسو ساقيها وركبتها .. لكن
كل ظل انعكس من فوق منحنيات جسدها أوحى بمعانى شديدة العمق و الغموض .. مرت من أمامى كنسمة عابرة .. كأيقونة فى العتمة وقد سلط عليها ضوء آت من مكان ما .. تماما كأنك ترى إمرأة فى لوحة من لوحات رمبراندت ..
لم أشعر بخطواتها .. لكنى شعرت برجفة مست جسدى كله .. شىء ولا فى الخيال .. حين وقفت على طرف حمام السباحة الذى لونه القمر بلون الفضة واستدارت إلىّ ، خرجت من ذهولى وتبعتها
- هل كشفت عن وجهها ؟
لا
- الم تر وجهها أبدا
ربما رأيته .. صدقنى فأنا لا أزعم أنى رأيته بشكل حقيقى .. أقصد أنى رأيته وكأنه وجه فى لوحة زيتية قديمة .. وجه كأنه ينظر إليك من مكان بعيد ، يفصلكما عن بعض ضباب أو بخار أو شىء مثل ورقة سوليفان .. المهم فأنت لا تستطيع أن ترى أى تفاصيل دقيقة .
لا تقاطعنى .. سأحكى لك كل شىء .. أطلب لنا كأسين آخرين ، وخذ هذه السيجارة .
هبطت إلى حمام السباحة الذى يشبه آلة الكمان .. كانت قد أشارت أن أقف بعيدا عن الحمام بمسافة .. لقد بدت فى تلك اللحظة كعروس بحر تزفها موسيقى آتية من السماء ، كما أنه ثمة ضوء لم أعرف له مصدر كان ينبعث من جسدها العارى فبدت فى تلك اللحظة كلؤلؤة بين شقى محارة ..
ندهت علىّ حينما خرجت من الماء .. جلست على مقعد من الرخام وسط مجموعة من التماثيل لرجال عراة منصوبة على شكل دائرة تحيط بها .. قالت وأنا لا زلت بعيدا عنها .. افتح الماء .. لحظة وانطلق الماء على أنغام الموسيقى من نوافير المياه التى تطل من أفواه الرجال ومن عوراتهم لتصب عليها .. انطلق الماء دافئا ملونا بالأبيض الحليبى والأحمر الوردى .
راح البخار يتصاعد من حولها .. بخار كثيف قلل من شهقة الضوء المنبعث من جسدها .. يحيط بها من الخلف سواد الليل .. كما أن فراغ البحر كان يشكل عمقا ساحرا ، فبدت أمامى لوحة بديعة من لوحات رمبراندت التى حدثتك عنها منذ قليل .. قل لى ؟ .. هل سبق ورأيت لوحات لرمبراندت ..
- لا تجعلنى أغضب منك ، وتكلم قبل أن ينفذ صبرى .
أريد أن أجعلك تتخيل معى شكل هذا المنظر وكأنك كنت معى .. اسمع سوف أجاوبك بكل شىء تريد معرفته .. لقد قالت بعد أن لبست نقابها إثر خروجها من لوحة رمبراندت ذات النافورة الموسيقية ، أنها صاحبة القصر ، وبعد أن تجاوزتنى بعدة خطوات قالت دون أن تلتفت ناحيتى .. اتبعنى إلى غرفة النوم بعد عشر دقائق ..
سأقول لك شيئا الآن .. منذ اللحظة التى رأيتها فيها ، كنت مأخوذا بشىء غير طبيعى .. شىء كأنه السحر .. الخيال .. كأننى كنت أدخل إلى عالم اسطورى ، منعتنى رغبة اكتشافه من متعة العيش فيه .. مسحور .. عاجز عن الكلام .. عن الحركة .. عن مجرد الفهم .. لكنها حين قالت لى .. اتبعنى بعد عشر دقائق .. فجرت داخلى طاقة الإحساس بالحياة .. عدت إلى كونى آدمى من لحم ودم .. وجع لا يمكن مقاومته شعرت به مباشرة من تدفق الدم الفجائى إلى جميع أطراف جسدى .. عذابات اللوعة و الحنين لهذا الجسد الخرافى الذى فارقنى من لحظات .. وكانت الدقائق العشرة كأنها زمن طويل لم أستطع تحمله .. تصور كنت على وشك البكاء من فرط الوجع .. هل سبق وبكيت من موقف كهذا ؟
- تكلم وخلصنى .. اشرح كل شىء بالتفصيل .. نعم نعم .. أعرف أن الأمر صعبا .. خذ هذه السيجارة .. قل لى هل تريد كأسا أخرى .. سأطلب لك واحدة .
اندفعت على السلم بسرعة البرق .. كانت هناك طرقة طويلة على جانبيها غرف كثيرة مغلقة .. عامود من الضوء الأرجوانى يفرش الأرض أمام باب مفتوح فى آخر الطرقة .. فهمت أنها تركت الباب مفتوحا لأجلى .. تعرف لقد جعلنى هذا اشتعل نارا ..
كنت مرعوبا وأنا أقف على الباب من هول الرغبة التى راحت تجتاحنى إليها .. قالت بصوت خفيض .. امتلأ بحضورى أولا ثم تقدم .. سأقول لك لقد تحملت ما لم يتحمله بشر وأنا أقف فى مكانى أتأملها ، رغم نقح الوجع الذى راح يدفعنى دفعا إليها .. كانت جالسة فوق سرير بعرض الغرفة مفروش بالستان الأبيض .. تتناثر حولها وسائد مزينة بأحجام مختلفة .. لا تقل أننى أزيد فى تفاصيل لا تهم ، وتعتقد فى بالك أننى أكذب .. يا أخى لا تجبرنى على حلف اليمين وأنا فى حالتى هذه .
كانت تعطينى ظهرها .. تكوين مثالى للكمال .. رحت أتأمل خاصرتها ، أردافها .. عنقها المرفوع .. تأملت قامتها المنحنية قليلا .. استدارة الوركين .. نفور النهدين .. ذراعها الذى فى الجهة الأخرى ، والذى يظهر كنصف ذراع .. هل تعرف شيئا عن فينوس .. لقد كانت هى .. جسد من المرمر فى وسط ذلك اللون الأرجوانى الذى صبغ به إله الحرب الحضارة الأغريقية .. حين استدارت إلىّ ورأيت ما لم يره بشر ، أغمى علىّ ..
- هل كشفت عن وجهها .. ؟
يا أخى أنت تسأل كثيرا عن وجهها .. أنت حقا عجيب .. حين تنظر إلى فينوس .. لا يلفت انتباهك سوى جسدها .. لقد أبدع الأغريق فى صنع جمال جسد هذه الفينوس ، هل من الجائز أن يجعلوها إله للجمال إلا بهذا الجسد .
- أنت تهذى .. اصلب عودك يا بنى آدم ولا تفسد القعدة
كان مغميا علىّ.. لم أشعر إلا وأنا فى اليوم الثانى مرميا أمام بوابة القصر .. لا أعرف كيف حدث هذا .. كنت أنا وهذا الرجل الطاعن فى السن ذو الجلباب الأبيض .. اسمع أنا لا أكذب .. لقد عشت حالة الإغماء بمنتهى الوعى .. كانت تنادينى بصوت كأنه آت من أزمنة سحيقة .. تعالى .. تعالى .. وكانت روحى تنسحب منى ببطء .
- هل عرفتها .. ألم تعرف اسمها .. و القصر هل يمكنك أن تذهب إلى هناك مرة أخرى ..؟
ياليتنى فعلت .. أنت الوحيد الذى يصدقنى الآن .. كانت الدنيا ليل .. قال لى العجوز .. اذهب من هنا .. لقد أشار على الاتجاه الذى أوصانى أن أجرى منه .. مشيت ساعات طويلة حتى التقطتنى سيارة أوصلتنى إلى هنا .. تعرف لقد أخبرنى العجوز وهو يدفعنى إلى الهرب .. أنها تعرفنى .. هى التى جاءت بى إلى هناك .. هى التى تختار .. لن تصدق .. لقد قال لى وهو يوصينى أن لا أعود .. أنها تفعل ذلك كثيرا .. قال أن إغمائى هو الذى أنقذنى ، قالها و هو يدلل على صدق كلامه ببشر فقدوا عقولهم أمام هذه البوابه الكبيرة .
- ربما كانت تذهب إلى محل " لايوار " كثيرا .. تخلص من نعاسك ودعنا نذهب إلى هناك .. لو كنت مكانك لنزعت هذا النقاب من فوق وجهها .. أعرف هذا الصنف من النساء .. لا زالت تنقصك الخبرة .. هل حكيت هذا الكلام لأحد غيرى .. ؟
كثيرا .. لكن أحد لم يصدقنى غيرك .. ما زال هناك الكثير لأحكيه .. دعنا نخرج من هنا .. ما رأيك لو نذهب إلى الحسين .. فى الطريق سأخبرك عن بقية الحكاية .. أنا لم أحكى كل شىء .. هل ستسمعنى أم أنك ستظل فى دهشتك مكتفيا بالصورة الجميلة ..
* من مجموعة " سيناريو المشهد الأخير " 2004
كان من الممكن أن يظل الأمر منسيا فى ذاكرتى كأنه حلم ، لولا أن رأيتها بالأمس تهبط من سيارتها أمام محل " لابوار " .. أنا لا أعرف ملامحها حتى هذه اللحظة ، لكن جسدها أحفظه عن ظهر قلب .. حسد مثل جسدها لا يمكن نسيانه .. خطوتها أيضا وهى تمضى من أمامى هى نفس الخطوة التى تركت فى أطرافى شلل لا يقاوم حين رأيتها أول مرة .. أنا لن أنسى شكل أصابع قدميها وهى تمشى عارية على بلاط قصرها ، وهى تطير كفراشة على دراجات السلم الداخلى وفى ردهات القصر الخارجية قرب حمام السباحة الملاصق لشاطىء البحر .
- لماذا تنظر إلى هكذا وتشك فى أننى لا أصدقك ؟ .. تكلم واطرد الوجع الذى يسهدك ، فالليل أمامنا طويل ، والديك الذى سيشد النهار من بطن العتمة لم يستيقظ بعد .
البداية كانت حين أخذنى زوجها .. على فكرة .. أنا لا أعرف حتى هذه اللحظة إذا ما كان زوجها أم شخصا آخر .. المهم أنه أخذنى إلى القصر الموجود على شاطىء مرسى مطروح .. لا لم تكن مرسى مطروح .. كان المكان أبعد منها ، أو ربما كان قبلها .. لا أعرف بالضبط ، لكنه كان بعيدا والدنيا ليل .. بعيدا جدا وخاليا من جنس البشر .. رمل من كل جانب .. هل تعرف هذا المكان .. ؟
- لا يهم .. أكمل .
قال لى أن القصر يحتاج إلى حارس .. كنت أيامها أحسن كثيرا من الآن .. أنت لم تعرفنى وقتها .. صحة وعافية وجمال .. وافقت رغم بعد المكان أمام ضخامة الامتيازات التى عرضها أمامى ..
- كيف رأيتها .. ؟
تصور حتى هذه اللحظة لم أعرف كم مكثت فى هذا القصر .. لكننى رأيتها فى مساء اليوم الثانى من وصولى إلى هناك ، أو ربما قابلتها فى مساء نفس اليوم الذى وصلت فيه .. لا أعرف .. هل هذا يهم .. المهم أنى قابلتها ..
- كيف قابلتها ..؟
وصلت إلى القصر فى فجر اليوم الأول بصحبة هذا الشخص الذى لم أعرف من يكون وسائق السيارة المرسيدس التى أقلتنا .. فتحا لى الحجرة التى سأعيش فيها وتفقدا معى المكان وقبل أن يمضيا قالا .. أن شخصا سيحضر كل أسبوع ومعه الطعام وكافة ما يلزمنى من احتياجات ، ثم أعطونى مفاتيح القصر ورحلوا ..
يا الله لن أصف لك ما رأيته حين تسكعت فى حديقة القصر .. هل تعرف وصف الجنة ؟ .. أراهنك بأنك لو كنت رأيت هذا القصر بحديقته الشاسعة فى هذا المكان ستقول أنك فى الجنة .. شىء لا يصدق .. أشجار رمان وعنب وتين ، ونباتات غريبة لم أرها من قبل .. قفص كبير بحجم بيتنا مليان بأنواع الطيور التى خلقها ربنا .. تطير منه ثم تعود إليه ، تفعل هذا وهى تصدر أصواتا كأنها صادرة من أوركسترا يعزف فى الأوبرا .. تصور لقد رأيت غزالا يجرى بين الأشجار .. لقد وقف أمامى فجأة حين رآنى .. بحلق فى عينى ثم راح يجرى .. كانت هناك أيضا قرود صغيرة تتعلق فى أعالى الشحر .. هل رأيت فيلم طرزان ؟ .
- تقريبا
كان هناك سرير شبك معلق بين شجرتين ومتروك لمن يحب أن ينام عليه تماما كما فى أمريكا اللاتينية .. هناك الناس تنام على هذه الأسرة الشبك خارج البيوت من شدة الحر .. هل قرأت ماركيز ؟ .. حكى عن هذا السرير كثيرا فى قصصه .
- لا يهم .. أكمل .
أحواض أسماك الزينة لن أخبرك عنها .. أنا نفسى لم أصدق شكل وحجم الأسماك التى كانت تسبح فيها .. أما شاطىء البحر فقد كان عل امتداده يتهادى أمام القصر كسجادة حريرية .. لا أثر لموجة و المياه دافئة دفء الحليب الطازج .
- كل هذا ولا أحد غيرك .. ؟
لم أر أحدا .. كان المكان خاليا إلا من رجل .. تصورته فى البداية طيف .. شيخ كبير طاعن فى السن .. يرتدى جلباب أبيض فضفاض ، وتظهر لحيته البيضاء نازلة حتى صدره .. كان يظهر بين النباتات من وقت لآخر .. يرمقنى بابتسامة ويختفى ..
- أنت على أى حال رجل طيب ..
لا أعرف لماذا أشعر أنك لا تصدقنى .. هل يبدو لك أننى أكذب ؟ .. اسمع إذا كنت تتصور أن هذا حلم بالجنة فأنت غلطان ، وإلا فقل لى .. إذا كانت حورية تلك التى رأيتها فى الحلم ، فلماذا كنت أراها تمشى عارية تماما إلا من نقابها الذى كانت تخفى به ملامح وجهها .. هل هناك حورية تخاف من افتضاح أمرها .. ألا تعرف أن الحوريات متحررات ؟ .. ألا تعتقد مثلى أنهن مكلفات باسعاد المتقين الذين سيدخلون الجنة .. كما أن هؤلاء الذين يرون الجنة فى أحلامهم متقين ، وأنا كما تعلم لست بتقى .. خذ هذه السيجارة وصب لنا بقية زجاجة البيرة ..
- صفها لى .. ؟
من … ؟
- المرأة ذات النقاب
شىء ولا فى الخيال .. صدقنى ليس فى ذهنى أحد ممكن أن أشبهها به .
- فى جسم يسرا .. ؟
لا يسرا ولا شارون ستون ولا أى جنس بشر ممكن تعرفه .
- يا أخى حيرتنى معاك .. تكلم وخلصنى
جاءت بفردها .. لم أرها وهى تدخل القصر .. فى مساء نفس اليوم رأيتها .. كنت خارجا من الباب الخلفى الذى يفضى إلى الشاطىء .. وكانت هى خارجة من الماء عارية كما ولدتها أمها .
نور ساطع كأنه انبعث فجأة من القمر ، راح يموج فى الهواء .. يتكور ويخلق جسدا رائعا .. كنت على وشك أن يغمى على من شدة الخوف ، لكنها حين أشارت بأصبعها وندهت باسمى أن أتبعها .. فهمت أنها صاحبة القصر .
وقفت مذهولا أمام تفاصيل الجمال السماوى وهو يتبختر أمامى .. كان النور يكشف عن كتفين ونهدين وبطن تضيئها سرَّة فى ظلاله ، ويكشف أخيرا عن لون أبيض ناعم يكسو ساقيها وركبتها .. لكن
كل ظل انعكس من فوق منحنيات جسدها أوحى بمعانى شديدة العمق و الغموض .. مرت من أمامى كنسمة عابرة .. كأيقونة فى العتمة وقد سلط عليها ضوء آت من مكان ما .. تماما كأنك ترى إمرأة فى لوحة من لوحات رمبراندت ..
لم أشعر بخطواتها .. لكنى شعرت برجفة مست جسدى كله .. شىء ولا فى الخيال .. حين وقفت على طرف حمام السباحة الذى لونه القمر بلون الفضة واستدارت إلىّ ، خرجت من ذهولى وتبعتها
- هل كشفت عن وجهها ؟
لا
- الم تر وجهها أبدا
ربما رأيته .. صدقنى فأنا لا أزعم أنى رأيته بشكل حقيقى .. أقصد أنى رأيته وكأنه وجه فى لوحة زيتية قديمة .. وجه كأنه ينظر إليك من مكان بعيد ، يفصلكما عن بعض ضباب أو بخار أو شىء مثل ورقة سوليفان .. المهم فأنت لا تستطيع أن ترى أى تفاصيل دقيقة .
لا تقاطعنى .. سأحكى لك كل شىء .. أطلب لنا كأسين آخرين ، وخذ هذه السيجارة .
هبطت إلى حمام السباحة الذى يشبه آلة الكمان .. كانت قد أشارت أن أقف بعيدا عن الحمام بمسافة .. لقد بدت فى تلك اللحظة كعروس بحر تزفها موسيقى آتية من السماء ، كما أنه ثمة ضوء لم أعرف له مصدر كان ينبعث من جسدها العارى فبدت فى تلك اللحظة كلؤلؤة بين شقى محارة ..
ندهت علىّ حينما خرجت من الماء .. جلست على مقعد من الرخام وسط مجموعة من التماثيل لرجال عراة منصوبة على شكل دائرة تحيط بها .. قالت وأنا لا زلت بعيدا عنها .. افتح الماء .. لحظة وانطلق الماء على أنغام الموسيقى من نوافير المياه التى تطل من أفواه الرجال ومن عوراتهم لتصب عليها .. انطلق الماء دافئا ملونا بالأبيض الحليبى والأحمر الوردى .
راح البخار يتصاعد من حولها .. بخار كثيف قلل من شهقة الضوء المنبعث من جسدها .. يحيط بها من الخلف سواد الليل .. كما أن فراغ البحر كان يشكل عمقا ساحرا ، فبدت أمامى لوحة بديعة من لوحات رمبراندت التى حدثتك عنها منذ قليل .. قل لى ؟ .. هل سبق ورأيت لوحات لرمبراندت ..
- لا تجعلنى أغضب منك ، وتكلم قبل أن ينفذ صبرى .
أريد أن أجعلك تتخيل معى شكل هذا المنظر وكأنك كنت معى .. اسمع سوف أجاوبك بكل شىء تريد معرفته .. لقد قالت بعد أن لبست نقابها إثر خروجها من لوحة رمبراندت ذات النافورة الموسيقية ، أنها صاحبة القصر ، وبعد أن تجاوزتنى بعدة خطوات قالت دون أن تلتفت ناحيتى .. اتبعنى إلى غرفة النوم بعد عشر دقائق ..
سأقول لك شيئا الآن .. منذ اللحظة التى رأيتها فيها ، كنت مأخوذا بشىء غير طبيعى .. شىء كأنه السحر .. الخيال .. كأننى كنت أدخل إلى عالم اسطورى ، منعتنى رغبة اكتشافه من متعة العيش فيه .. مسحور .. عاجز عن الكلام .. عن الحركة .. عن مجرد الفهم .. لكنها حين قالت لى .. اتبعنى بعد عشر دقائق .. فجرت داخلى طاقة الإحساس بالحياة .. عدت إلى كونى آدمى من لحم ودم .. وجع لا يمكن مقاومته شعرت به مباشرة من تدفق الدم الفجائى إلى جميع أطراف جسدى .. عذابات اللوعة و الحنين لهذا الجسد الخرافى الذى فارقنى من لحظات .. وكانت الدقائق العشرة كأنها زمن طويل لم أستطع تحمله .. تصور كنت على وشك البكاء من فرط الوجع .. هل سبق وبكيت من موقف كهذا ؟
- تكلم وخلصنى .. اشرح كل شىء بالتفصيل .. نعم نعم .. أعرف أن الأمر صعبا .. خذ هذه السيجارة .. قل لى هل تريد كأسا أخرى .. سأطلب لك واحدة .
اندفعت على السلم بسرعة البرق .. كانت هناك طرقة طويلة على جانبيها غرف كثيرة مغلقة .. عامود من الضوء الأرجوانى يفرش الأرض أمام باب مفتوح فى آخر الطرقة .. فهمت أنها تركت الباب مفتوحا لأجلى .. تعرف لقد جعلنى هذا اشتعل نارا ..
كنت مرعوبا وأنا أقف على الباب من هول الرغبة التى راحت تجتاحنى إليها .. قالت بصوت خفيض .. امتلأ بحضورى أولا ثم تقدم .. سأقول لك لقد تحملت ما لم يتحمله بشر وأنا أقف فى مكانى أتأملها ، رغم نقح الوجع الذى راح يدفعنى دفعا إليها .. كانت جالسة فوق سرير بعرض الغرفة مفروش بالستان الأبيض .. تتناثر حولها وسائد مزينة بأحجام مختلفة .. لا تقل أننى أزيد فى تفاصيل لا تهم ، وتعتقد فى بالك أننى أكذب .. يا أخى لا تجبرنى على حلف اليمين وأنا فى حالتى هذه .
كانت تعطينى ظهرها .. تكوين مثالى للكمال .. رحت أتأمل خاصرتها ، أردافها .. عنقها المرفوع .. تأملت قامتها المنحنية قليلا .. استدارة الوركين .. نفور النهدين .. ذراعها الذى فى الجهة الأخرى ، والذى يظهر كنصف ذراع .. هل تعرف شيئا عن فينوس .. لقد كانت هى .. جسد من المرمر فى وسط ذلك اللون الأرجوانى الذى صبغ به إله الحرب الحضارة الأغريقية .. حين استدارت إلىّ ورأيت ما لم يره بشر ، أغمى علىّ ..
- هل كشفت عن وجهها .. ؟
يا أخى أنت تسأل كثيرا عن وجهها .. أنت حقا عجيب .. حين تنظر إلى فينوس .. لا يلفت انتباهك سوى جسدها .. لقد أبدع الأغريق فى صنع جمال جسد هذه الفينوس ، هل من الجائز أن يجعلوها إله للجمال إلا بهذا الجسد .
- أنت تهذى .. اصلب عودك يا بنى آدم ولا تفسد القعدة
كان مغميا علىّ.. لم أشعر إلا وأنا فى اليوم الثانى مرميا أمام بوابة القصر .. لا أعرف كيف حدث هذا .. كنت أنا وهذا الرجل الطاعن فى السن ذو الجلباب الأبيض .. اسمع أنا لا أكذب .. لقد عشت حالة الإغماء بمنتهى الوعى .. كانت تنادينى بصوت كأنه آت من أزمنة سحيقة .. تعالى .. تعالى .. وكانت روحى تنسحب منى ببطء .
- هل عرفتها .. ألم تعرف اسمها .. و القصر هل يمكنك أن تذهب إلى هناك مرة أخرى ..؟
ياليتنى فعلت .. أنت الوحيد الذى يصدقنى الآن .. كانت الدنيا ليل .. قال لى العجوز .. اذهب من هنا .. لقد أشار على الاتجاه الذى أوصانى أن أجرى منه .. مشيت ساعات طويلة حتى التقطتنى سيارة أوصلتنى إلى هنا .. تعرف لقد أخبرنى العجوز وهو يدفعنى إلى الهرب .. أنها تعرفنى .. هى التى جاءت بى إلى هناك .. هى التى تختار .. لن تصدق .. لقد قال لى وهو يوصينى أن لا أعود .. أنها تفعل ذلك كثيرا .. قال أن إغمائى هو الذى أنقذنى ، قالها و هو يدلل على صدق كلامه ببشر فقدوا عقولهم أمام هذه البوابه الكبيرة .
- ربما كانت تذهب إلى محل " لايوار " كثيرا .. تخلص من نعاسك ودعنا نذهب إلى هناك .. لو كنت مكانك لنزعت هذا النقاب من فوق وجهها .. أعرف هذا الصنف من النساء .. لا زالت تنقصك الخبرة .. هل حكيت هذا الكلام لأحد غيرى .. ؟
كثيرا .. لكن أحد لم يصدقنى غيرك .. ما زال هناك الكثير لأحكيه .. دعنا نخرج من هنا .. ما رأيك لو نذهب إلى الحسين .. فى الطريق سأخبرك عن بقية الحكاية .. أنا لم أحكى كل شىء .. هل ستسمعنى أم أنك ستظل فى دهشتك مكتفيا بالصورة الجميلة ..
* من مجموعة " سيناريو المشهد الأخير " 2004