محمد عابد الجابري - راهن الفكر الفلسفي(*)

اتهمت الفلسفة، وتتهم دوما، بـ"الغموض". والسبب في هذا الاتهام هو، فيما أعتقد، أنها تحاول إزالة الغموض عما يعتبره الناس واضحا. فالفلسفة ليست إذن خطابا غامضا، بل هي خطاب ضد الغموض الذي يستتر وراء وضوح بادئ الرأي، ضد الوضوح الذي يقبله الناس مجانا من اللغة اليومية، لغة المشهور، لا بل لغة الإشهار والموضة.

لنترك جانبا المفاهيم التقليدية التي بقيت الفلسفة -منذ ظهور التفلسف وستبقى ما بقي قائما- تحاول جلاء الغموض الكثيف الذي يختفي وراء وضوحها الزائف في اللغة اليومية، مفاهيم مثل الوجود والحرية والعدل والفضيلة الخ. هذه المفاهيم تحمل معها وضوحا في خطابنا اليومي بينما تثوي وراءها أكوام وطبقات من الغموض، تنعكس آثارها ليس على هذه المفاهيم وحسب، بل أيضا على الأداة التي تحاول النبش فيها وتعريتها، وأعني بها اللغة الفلسفية. وهل هناك أوضح من "الوجود" وأغمض من الجواب عن "ما الوجود" ؟ وهل هناك ما هو أقرب وأحب للنفس البشرية من "الحرية"، وما هو أبعد منها وأصعب عليها من الجواب عن سؤال "ما الحرية"؟

لنترك إذن هذه المفاهيم الفلسفية "التقليدية"، ولنركز اهتمامنا قليلا على هذا الوضوح الزائد والزائف الذي يحمله عنوان ندوتنا هذه "راهن الفكر الفلسفي"، وأعني أولا وقبل كل شيء، هذا الوضوح/الغموض الذي يلف كلمة "راهن"! فماذا نعني بـ"راهن" الفكر الفلسفي؟ إلى أي معنى تحيلنا "اللغة اليومية"، لغة القواميس العامة؟.

يرجع الناس عادة إلى القواميس ومعاجم اللغة لطلب معنى الكلمات. وهنا يبدأ الغموض. فالقواميس ليست دائما مواكبة لتطور اللغة والمفاهيم، وأكثر القواميس والمعاجم في اللغة العربية -إن لم نقل جميعها- غير مواكبة أصلا. فهي تضم اللغة التي جمعت من أفواه الأعراب أو من النصوص، منذ ثلاثة عشر قرنا. وإذن، فكل ما ستمدنا به القواميس هو المعنى "الأصلي" لكلمة "راهن". وعلينا نحن أن نقرر هل ما تعنيه هذه الكلمة في عنوان ندوتنا هذه، هو ذلك المعنى "الأصلي"، أم أن الأمر يتعلق بمعنى آخر نقلت إليه هذه الكلمة على سبيل "المجاز" كما يقول اللغويون ؟ وفي هذه الحال سيكون علينا أن نبت في مشروعية هذا "المجاز" أو "النقل"!

يبدأ "لسان العرب" شرحه لمادة "رهن" بالقول: "الرهن معروف". قال ابن سيده: الرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه. يقال: رهنت فلانا دارا رهنا وارتهنه، إذا أخذه رهنا، والجمع رهون ورهان ورُهن بضم الهاء". ثم يضيف "… والرهان والمراهنة: المخاطرة. الراهن في كلام العرب: هو الشيء الملزم. يقال هذا راهن لك: أي دائم محبوس عليك"، ثم يضيف "وكل شيء ثبت ودام فقد رهن". وأيضا "الراهن: الثابت" و"طعام راهن: أي دائم". ثم يستشهد بقول الأعشى يصف قوما يشربون خمرا لا تنقطع:

لا يستفيقون منها وهي راهنة إلا بهات وإن علُّوا وإن نهلوا

هناك معنى آخر: "الراهن: المهزول المعيب من الناس والإبل وجميع الدواب".

تلك هي المعاني التي يدور نص "لسان العرب" حولها في مادة "رهن". ويمكن تصنيفها، وفهم عبارة "راهن الفكر الفلسفي" حسب منطوقها، كما يلي:

1- "راهن": اسم فاعل من "رهن"، بمعنى الشخص الذي يرهن شيئا يأخذه منه غيره رهينة، وفي هذه الحالة تكون معنى عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي": الشخص الذي يرهن الفكر والفلسفة، أي الذي يقدمه رهينة لغيره مقابل شيء يأخذه، وقد يسترده إذا أرجع ما أخذه كمقابل. وإذا نحن أردنا نقل هذا المعنى من الحقيقة إلى المجاز فكل ما نحصل عليه هو معنى "التعطيل" راهن الفكر الفلسفي: أي "من" أو "ما" يجعله عاطلا معطلا محبوسا كالرهينة. وقد نذهب في عملية التجوز إلى أبعد ما يمكن في هذا السياق، فنقول: راهن الفكر الفلسفي: "من" أو "ما" يفقده الحرية؟ أي يجعله مقيدا غير حر؟

2ـ "راهن": بمعني دائم وثابت، ويطلق على الطعام وما في معناه. والدوام والثبات معناه عدم التغير، عدم التطور. وبمقتضى هذا يكون معنى عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي" :دوامه وثباته، عدم تجدده. إن الأمثلة التي يقدمها "لسان العرب" لهذا المعنى تدور حول الطعام والشراب. وإذا نحن استعملنا المجاز، وشبهنا الفكر الفلسفي بـ "الطعام"، أمكننا القول إن عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي" تعني: ما هو منه بمثابة الغذاء الدائم الثابت. وبعبارة أخرى راهن الفكر الفلسفي معناه: القضايا التي يدور حولها التفلسف دائما أو القضايا الثابتة في الفلسفة التي تشكل "الغذاء" الدائم للفلاسفة.

3ـ يبقى المعنى الثالث لكلمة "راهن" الذي يفيد الهزال والضعف، والذي يجعل عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي" تفيد: الضعيف منه والهزيل.

فبأي من هذه المعاني ترتبط عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي"؟

إذا رجعنا إلى لغتنا اليومية، إلى خطابنا المعاصر الذي يبتعد كل يوم أكثر فأكثر عن لغة "لسان العرب"، فإننا سنجد أن كلمة "راهن" غالبا ما تستعمل فيه مقرونة بكلمة "وقت" أو ما في معناه. نقول: "الوقت الراهن" و"الظرف الراهن"، بمعنى: الذي يجري ويمر حاضرا دائما، ثابتا. يمكن أن يقال مع شيء غير قليل من التسامح إن هناك نوعا من الانتقال من "الطعام الراهن" الدائم الثابت، إلى "الوقت الراهن". فقد شبه الوقت هنا بالطعام الذي يأكل منه الناس ولا ينقضي، أي يدوم مدة طويلة.

كيف حصل هذا الانتقال المفترض؟ الانتقال من "الطعام الراهن" إلى "الوقت الراهن". هل هو نتيجة تطور داخلي في اللغة العربية، أم نتيجة شيء آخر خارجي؟

الظاهر أن الأمر يتعلق لا بتطور داخلي، بل بترجمة من لغة أجنبية هي اللغة الفرنسية بالذات التي يكثر فيها استعمال العبارات التالية: le monde actuel, l'heure actuelle, l'époque actuelle … (الحقبة الراهنة، الساعة الراهنة، العالم الراهن). حيث تدل كلمة actuel -التي غالبا ما نترجمها بـ"راهن"- على ما يجري في اللحظة التي نتحدث فيها. فالراهن هنا معناه: المعاصر contemporain. وتستعمل الكلمة أيضا بمعنى ما يكتسي أهمية ما في عصرنا، ما يستجيب للاهتمام العام، مثل قولهم actuelle une grande œuvre est toujours (عمل –علمي أو فكري- راهن دوما، أي لا يبلى، لا يغادر الحاضر إلى الماضي). ويمكن أن نستحضر هنا أيضا معنى آخر لكلمة actuel والمشتق من acte بمعنى الفعل: ما هو بالفعل وليس بالقوة فقط.

وهنا يحضرني كتاب صغير لإميل برييه Emile Brehier بعنوان Les thèmes actuels de la philosophie ويمكن ترجمته كما يلي: "القضايا الراهنة في الفلسفة". وكان إميل برييه قد اشتغل بتاريخ الفلسفة فألف فيه كتابه الشهير Histoire de la philosophie (في عدة أجزاء)، ثم كتب في أواخر عمره هذا الكتاب الصغير الذي يعرض فيه للقضايا التي تناولتها الفلسفة في عصره هو، الفلسفة المعاصرة له، فلسفة النصف الأول من القرن العشرين.

***

عبارتنا "راهن الفكر الفلسفي" تجد مرجعيتها، إذن، في الفرنسية لغة وثقافة. ولنقل في الثقافة الغربية عموما. قد تقولون: هذا شيء نعرفه. وهو المعنى الواضح الذي جئنا نحمله في أذهاننا. وأنا أقول لكم: إذا كان الأمر كذلك، فقد كان ينبغي تخصيص العبارة هكذا: "راهن الفكر الفلسفي في الغرب" أو في "أوروبا"! لأن العبارة لا تكون واضحة إلا بهذا التخصيص. أما إذا قلنا "راهن الفكر الفلسفي"، هكذا بدون تخصيص، فإن الذهن سينصرف إلى "المتكلم"، إلى الـ "نحن". لأن عدم التخصيص بالاستناد إلى "الآخر" معناه التعميم المضمر المسند إلى "الأنا". فلو أن الجمعية الفلسفية الفرنسية استعملت هذه العبارة "راهن الفكر الفلسفي" لانصرف الذهن إلى الفلسفة في فرنسا أو في أوروبا، دون غيرها. وما دام الأمر كذلك، فالعبارة كان يجب أن تكون "راهن الفكر الفلسفي عندنا" في المغرب أو في الثقافة العربية.

لنسلم بهذا، فنحن مغاربة وثقافتنا عربية. ولكن بما أن "الوضوح" الذي يصحب عبارتنا ("راهن الفكر الفلسفي") يفرض نفسه علينا كمرجعية معاصرة، ولنقل "راهنة"، فسنكون مضطرين إلى الجمع بين المرجعيتين اللتين أشرنا إليهما: "لسان العرب"، القاموس المرجع في لغتنا وثقافتنا. وإميل برييه: الأستاذ المرجع في ميدان تاريخ الفلسفة بفرنسا.

قد تقولون: كيف يمكن الجمع بين ما يعطيه "لسان العرب" الذي جمع لغة الأعراب، وهي لغة ما قبل الفلسفة في الثقافة العربية، وبين لغة أحد كبار مؤرخي الفلسفة الأوربية في نهاية عصر الفلسفة -ربما؟ وأجيب لعل هذه المفارقة هي التي ترهن "فكرنا الفلسفي"؟ مجرد افتراض! نعم؟ ومع ذلك فلنفترض ولنغامر. أو ليست الفلسفة مجموعة افتراضات ومغامرات فكرية؟

وإذن فحديثي سيدور أولا حول ثلاثة محاور:

1ـ "راهن" الفكر الفلسفي العربي، أي "من"، أو "ما" يرهنه ويحبسه ويعطله.

2ـ "راهن الفكر" الفلسفي العربي، ما هو الدائم الثابت فيه، بدون زمان.

3ـ "راهن" الفكر الفلسفي العربي: ما هو الهزيل فيه؟

هذه المحاور يمكن ضم بعضها إلى بعض بحيث يصبح معنى العبارة هكذا: "هناك ما رهن الفكر الفلسفي في الثقافة العربية وما حبسه ويحبسه، حتى صار ثابتا معطلا، لا يتحرك ولا يتحول. مما أدى إلى هزاله وضعفه". ومهمتنا هنا هي الكشف عن هذا الراهن "اللعين" -إذا جاز استعمال هذا الوصف في رحاب الفلسفة.

ما الذي جعل الفلسفة في الثقافة العربية تعاني من هذه الوضعية: وضعية الرهينة المعطلة الضعيفة؟

سنلتمس الجواب عن هذا السؤال من نقله إلى أوروبا وطرحه هناك على ضوء المعنى الذي تعطيه الثقافة الأوروبية لكلمة راهن actuel التي تقال وصفا لشيء سمته أنه حاضر بالفعل، يشد الاهتمام. وهنا سنكون مضطرين إلى طرح سؤالنا السابق معكوسا فنقول: "ما الذي جعل الفلسفة في الثقافة الأوربية لها حاضر بالفعل، لها حاضر متغير متجدد"؟

يقول إميل برييه في مقدمة كتابه المشار إليه آنفا: Les thèmes actuels de la philosophie "… ومع ذلك فعلى الرغم من هذه الانتقادات [التي وجهت عبر العصور إلى الفلسفة والتي تتهمها بالغموض والعقم ] فإنها –أي الفلسفة- تولد كل يوم من جديد، كما لو أنها سمة aspect (مظهر) ضروري لهذه الحضارة الغربية التي ولدت في حوض البحر الأبيض المتوسط، فانتشرت في البلدان الخاضعة للتأثير اليوناني الروماني. إن هذا النتاج الفكري، التأملي cette œuvre de réflexion –يعني الفلسفة- الذي لا مثيل له في الحضارات الكبرى التي عرفها الشرق والشرق الأقصى، يبدو مرتبطا بخاصية أساسية للعبقرية الغربية. لقد تطور (= هذا النتاج الفكري = الفلسفة) بالتساوق مع التيارين الروحيين الكبيرين المميزين لورثة الحضارة الهيلينة (= اليونانية)، وهما المسيحية والعلوم الوضعية. وهكذا فما أن كادت الفلسفة تأخذ في الأفول à peine éclipsée في عهد الغزوات البربرية حتى عادت لتزدهر من جديد في العالم المسيحي، خلال العصر الوسيط، ازدهارا تكشف لنا عنه، بصورة أفضل فأفضل، الأبحاث التاريخية الخاصة بهذا العصر (الوسيط). أما القرون الثلاثة السابقة لقرننا (العشرين) والتي هي قرون العلوم الوضعية، فلقد عرفت فيها الفلسفة، من ديكارت إلى كانت وإلى برجسون، عددا من أعظم وألمع العبقريات التي عرفها العصر الحديث. أما في عصرنا الراهن فقد عرف الإنتاج الفلسفي من التنوع ومن الكثافة ما لم يسبق له مثيل. فمنذ الأبحاث التي عرفها المنطق الأكثر تجريدا والتي ظهرت إلى الوجود من خلال العمل المشترك الذي قام به الرياضيون والفزيائيون والمناطقة، إلى الأبحاث الأكثر تشخيصا حول الطبيعة الإنسانية التي قامت بها الفلسفة الوجودية، اتسعت مجالات الفكر الفلسفي اتساعا هائلا. والمشروع الذي ينوي هذا الكتاب الاضطلاع به هو الإحاطة بهذه المجالات وبيان دلالتها الكلية"(العالمية universelle).

يقرر هذا النص أمورا ثلاثة:

1 ـ الفلسفة بنت العبقرية الأوروبية وهي خاصية تنفرد بها الحضارة الغربية.

2 ـ أن لها تاريخا متواصلا يتجدد باستمرار، وأنها لم تعرف شبه انقطاع إلا في حقبة الغزوات البربرية (ويقصد بها الفتوحات الإسلامية وازدهار الحضارة الإسلامية من القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادي).

3 ـ أن راهن الفكر الفلسفي أو القضايا الفلسفية المعاصرة ميدان فسيح الأرجاء يمتد من أكثر الأمور تجريدا إلى أكثرها تشخيصا.

نحن هنا إذن أمام بناء مغرض لتاريخ الفلسفة، بناء يستهدف جعل حاضرها نتيجة لماضيها. وبما أن المفكَّر فيه هو حاضرها، فإن الماضي المفكر فيه أو الذي يمكن التفكير فيه هو ماضيها في أوروبا وحدها. ذلك لأن التفكير في الفلسفة خارج أوروبا في الماضي سيؤدي حتما إلى كسر الإطار الذي يجعل الحاضر محصورا في أوروبا وحدها: إطار المركزية الأوروبية.

هذا النوع من التصور للفلسفة وتاريخها، والذي يسود بيننا، هو في نظري "راهن" الفكر الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة، أعني ما يرهنه بالمعنى العربي للكلمة، أي ما يجعله مرهونا للآخر، محكوما به، مسجونا فيه، مفصلا ضمن قوالبه، وبالتالي ضعيفا هزيلا كما يكون الشيء الذي لا تربة له تغذيه وتكون له مسكنا وموطنا.

وإذن فلكي يكون للفكر الفلسفي عندنا راهن بالمعنى الأوروبي للكلمة -أي حاضر وفعل- يجب أن يتحرر من هذا التصور ويشرع في بناء تصور خاص به، تصور يعيد بناء تاريخ الفلسفة بصورة يبرز فيها حضور الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية، الحضور الذي كان لها بالفعل، الحضور الفعلي والحضور الكامن. إننا لا نريد أن نضع مركزية عربية إسلامية مكان المركزية الأوروبية المعاصرة، بل نريد فقط التفكير في تاريخ الفلسفة خارج كل مركزية، اعتمادا على الحقائق التي يقدمها لنا التاريخ أو التي لها سند من التاريخ.

والتاريخ يضع أمامنا الحقائق التالية:

1 ـ إذا كانت الفلسفة، بالمعنى المعاصر للكلمة، قد نشأت في اليونان، فإن فلاسفة اليونان قد اكتسبوا القدرة على التفلسف بما تعلموه من احتكاكهم بالثقافات الأخرى، وفي مقدمتها الرياضيات المصرية والفلك البابلي وما ارتبط بهما من معارف وتصورات حول الإنسان والطبيعة وما وراء الطبيعة.

2 ـ إن الفلسفة في اليونان قد عاشت ثلاثة قرون، من القرن السادس إلى الرابع قبل الميلاد، من طاليس أول فيلسوف يوناني إلى أرسطو الذي انتقلت بعده الفلسفة إلى خارج اليونان، إلى مصر بالإسكندرية وإنطاكية بالشام، لتمتد شرقا إلى فارس وغربا إلى روما، وقد دامت هذه الحقبة المسماة بـ "العصر الهيلنستي"، اثني عشر قرنا، ابتداء من آخر القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الثامن الميلادي. وفي هذا العصر كفت الفلسفة عن أن تكون "محض" هيلينية إذ امتزجت بـ"الفكر الشرقي".

3 ـ الفلسفة العربية الإسلامية بدأت منذ بداية الترجمة في القرن الثامن الميلادي لتعيش فترة ازدهار من التاسع إلى الثاني عشر (من الكندي إلى ابن رشد)، ثم لتندمج وتتداخل مع التصوف وعلم الكلام والفكر الشيعي إلى القرن الماضي. ثم تأتي بعد ذلك المرحلة المعاصرة (التي هيمنت فيها المركزية الأوروبية إلى درجة أصبح معها فكرنا الفلسفي مرهونا للتصور الذي شيدته هذه المركزية لأهلها).

4ـ إن الفلسفة الأوروبية الحديثة مدينة في وجودها وتطورها لفلاسفة الإسلام وتلامذتهم من فلاسفة اليهود. لقد ظل ابن سينا وابن رشد سلطتين مرجعيتين في داخل الفكر الأوروبي والفلسفي والعالمي إلى حدود القرن الثامن عشر. وقد طمس تاريخ الفلسفة الرسمي الذي تتحكم فيه المركزية الأوروبية هذه الحقيقة. والأبحاث القليلة التي ظهرت وتظهر في هذا الموضوع تدل دلالة واضحة على أهمية الدور الذي كان لما يسميه بعض الباحثين الأوروبيين المعاصرين بـ"التراث المنسي" في تشكيل الفكر الأوروبي الحديث. والمقصود بـ "التراث المنسي" هنا هو التراث الفلسفي العلمي العربي الإسلامي.

هذه الحقائق التاريخية الأربع تميط اللثام عن حقيقة كبرى، لا بد من الصدع بها مرة أخرى، وهي أن الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر فكر مرهون، راهنه المركزية الأوروبية التي فرضت إمبريالية إيديولوجية على تاريخ الفلسفة، بل على تاريخ العلم والفلسفة وجميع أنواع النشاط الإنساني الروحي والفكري، تماما كما فرضت الرأسمالية الأوروبية، وتفرض، إمبريالية اقتصادية وسياسية على العالم.

***

تريد الجمعية الفلسفية المغربية أن يكون لها مستقبل، وأن يكون لها دور ما في مستقبل الثقافة والفكر في هذا البلد، وفي العالم الثقافي الذي ينتمي إليه. وإذن، فالمهمة أو الرسالة واضحة: رفع الرهن عن الفكر الفلسفي في الثقافة العربية، تحريره من القيود التي تكبله. إن الفكر الفلسفي العربي، كما هو حال غيره في بقية أنحاء العالم، لا يمكن أن يبدع ولا حتى أن يستمر حيا، بعد هذا الميلاد الجديد الذي بدأت تباشيره تطل، من المغرب، على دنيا الثقافة العربية منذ نحو عقدين من السنين، إلا إذا انتظم في تراثه الفلسفي الثقافي العربي الإسلامي. وهل يمكن للإنسان أن يبدع في ثقافة غير ثقافته؟

والانتظام في التراث لا يعني الانخراط في نظامه ولا الاستسلام لحدوده وقيوده، كلا. إن الانتظام الفلسفي في التراث يبدأ من إعادة تنظيم هذا التراث: إعادة ترتيب أجزائه وإعادة ترتيب العلاقة معه. وهل فعل إميل برييه وزملاؤه مؤرخو الفلسفة في الغرب غير هذا؟ وهل كان يستطيع أن يتحدث عن "القضايا الراهنة في الفلسفة" ذلك الذي الحديث الذي أعطى فيه لكلمة "راهنة" معنى فيه جدة ومعاصرة وأصالة، لو لم يصدر في ذلك من الانتظام في تراث أعاد تنظيمه وبناءه.

الفلسفة لا تولد من فراغ ولا تتقدم على خط مستقيم. إن ميلاد الفلسفة هو دوما ميلاد مستأنف، وتقدمها إنما يتم عبر قراءة متواصلة ومتجددة لتاريخها. إنه لا شيء يضفي الشرعية على النسب الذي تميز به هذه الجمعية نفسها، أعني انتسابها إلى الفلسفة وإلى المغرب معا، لا شيء يجعل منها جمعية فلسفية مغربية حقا، غير ارتباطها الواعي والمتين بالتراث الفلسفي بالمغرب وشقيقته الأندلس بصورة خاصة، وبالتراث العربي الإسلامي بصورة عامة.

***

عندما نتحدث عن "راهن الفكر الفلسفي في المغرب" فنحن نتحدث عن المشتغلين فيه بالفلسفة. وأنا منهم. فمن هذه الزاوية يصح لي، ويجوز، أن أتحدث عن نفسي بوصفي قطرة في بحر هذا الراهن-الحاضر.

وأنا هنا لا أريد أن أقدم برنامج عمل. فالفلسفة بطبيعتها تتمرد مع كل برنامج يملى عليها. إن الفعل الفلسفي فعل يبرمج نفسه باستمرار لأنه حرية مطلقة. ومع ذلك فالفلسفة لا تمانع في الاستماع إلى تجارب المنتسبين إليها، العاملين داخل رواقها. لأن تجاربهم جزء من التجربة الفلسفية ذاتها.

قلت: إن الفلسفة بطبيعتها تتمرد على كل برنامج يملى عليها. وعلي أن أؤكد بداية أن مسار التجربة التي خضتها، ومازلت أخوضها، لم يكن نتيجة برمجة وتخطيط سابقين. بل كل ما يمكن أن أدعيه في هذا الصدد هو أنني بمقدار ما كنت أشعر بالتقدم في هذا المسار بمقدار ما كنت أتبين فيه نوعا من النظام ومن البرمجة. ومن تأمل هذا المسار الذي مر علي فيه الآن ربع قرن (إذا جعلنا بدايته أطروحتي عن ابن خلدون 1970)() يخيل إلي، والآن فقط، أنه بإمكاني أن أعرِّف بمضمونه وبمراحله وخطواته.

أنا أعي الآن تمام الوعي أن جميع أعمالي الفكرية تندرج بصورة أو بأخرى في إطار الإشكالية العامة المهيمنة على الفكر العربي منذ القرن الماضي، إشكالية التجديد: تجديد هذا الفكر. هذا أمر واضح وعام، بمعنى أن جميع المشتغلين في مجال الثقافة والفكر في العالم العربي منذ القرن الماضي منخرطون، بصورة أو بأخرى، في هذه الإشكالية. غير أن ما يميز مساري عن مسار كثيرين -فيما يخيل إلي- هو أنه بينما يمكن التمييز بوضوح بين ثلاثة مواقف، أو تيارات، يوصف أحدها بأنه سلفي والآخر بأنه تغريبي والثالث بأنه توفيقي، فإني أجد نفسي قد سلكت مسارا يخترق هذه التيارات الثلاثة ليتجاوزها جميعا، التجاوز الذي يعني النفي والاحتفاظ في نفس الوقت، تجاوزها إلى موقف آخر يعتمد ما أسميته بـ " استراتيجية التجديد من الداخل"، وهي استراتيجية تتحرك على ثلاثة محاور متكاملة: محور النقد وإعادة البناء والترتيب لتراثنا الفكري بمختلف منازعه وتياراته، ومحور التأصيل الثقافي للمفاهيم والمناهج التحديثية وقيم الحداثة المعاصرة، ومحور نقد العقل الأوروبي وتصوراته الموجهة بالمركزية الأوروبية.

يتعلق الأمر في المحور الأول، بإعادة كتابة تاريخ فكرنا النظري بروح علمية نقدية. إن تاريخنا الفكري، كما ظل يدرس طوال العهود الماضية، هو تاريخ "فرق" وأشخاص، وليستاريخ فكر. تاريخ يعكس الصراعات السياسية الظرفية التي تمزق الزمن الثقافي وتجعله خاضعا للزمن السياسي وتابعا له تبعية مباشرة. إن المطلوب اليوم -وهذا ما أعمل في إطاره منذ ربع قرن- هو تحرير تاريخنا الثقافي من هيمنة ووصاية الزمن السياسي الممزق، وذلك بإعادة الوحدة له، بإعادة ترتيب أجزائه والكشف في صيرورته عن مواطن التجديد والتقدم، وبناء تاريخه بوضع السابق فيه واللاحق، القديم والجديد، في مكانهما من التطوير التاريخي، ومن ثمة إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه. وقد سبق أن أبرزنا في العديد من مؤلفاتنا كيف أن أقرب مفكرينا القدماء إلينا هم أولئك الذين سجلوا أعلى مراحل التقدم في الثقافة العربية الإسلامية: ابن رشد في فهم العلاقة بين الدين والفلسفة، بين النقل والعقل، والشاطبي في مشروعه تجديد أصول الفقه، ببنائها مع مقاصد الشرع، وابن خلدون في نظرته إلى العمران والتاريخ من منظور أن "للعمران طبائع في أحواله"، أي أن للتاريخ والتطور الاجتماعي منطقا محايثا لهما يجب الكشف عنه لفهم صيرورتهما.

وبهذا النوع من إعادة بناء تاريخنا الثقافي نستطيع "الرفع" من تراثنا الفكري بصورة تجعله أقرب ما يكون منا، يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة ويكون مرجعية لنا في الاتفاق والاختلاف، في الاتباع والإبداع.

إن النظرة الرشدية إلى كل من الدين والفلسفة، بوصفهما بنائين مستقلين لكل منهما مقدماته وأسسه ومنهجه الخاص وإن كانا يلتقيان في الهدف العام وهو حمل الناس على الفضيلة، نظرة حصيفة ملهمة. لقد ورث المسلمون من العصر الهيلنستي مركبا ثقافيا اختلطت فيه تيارات فلسفية ومذاهب دينية عديدة وظف كثير منها باسم الإسلام توظيفات سياسية مختلفة، فصارت العلاقة بين الدين والفلسفة، بين العقل والنقل، توجهها السياسة وتنسجها المصالح الاجتماعية المتناقضة، وصار التأويل والتكفير سلاحين سياسيين يمزقان جسم الأمة، ويعطلان حرية الفكر ويعتمان رؤية العقل. إن الفصل بين الدين والفلسفة على الطريقة الرشدية، الطريقة التي امتزجت فيها موضوعية الفيلسوف ونزاهة الاعتقاد، يشكل في تاريخ الفكر الإنساني نقلة نوعية في فهم العلاقة بين المطلق والنسبي، بين الثابت والمتغير، وهي النقلة التي استعادها الفيلسوف الألماني "كانت" في القرن الثامن عشر عندما نادى بالفصل بين العلم والأخلاق لحل الإشكالية الثقافية التي كانت تعاني منها ألمانيا وأوروبا في عهده. وهي شبيهة بالإشكالية التي عانت منها الثقافة العربية الإسلامية زمن ابن رشد ويعاني منها فكرنا اليوم.

أما المشروع الذي بشر به الشاطبي، مشروع إعادة بناء أصول الفقه على مقاصد الشرع والتحرر من قيود القياس الفقهي الذي يعتمد "استثمار الألفاظ" أكثر من اعتماده المصالح، فهو في بعده الثقافي العام يوازي مشروع الإصلاح الذي نادى به لوثر في الثقافة المسيحية.

أما ابن خلدون الذي نظر إلى التاريخ من زاوية "طبائع العمران" فهو يقدم لنا نموذجا فريدا في فهم تاريخية الحدث الإنساني. لقد كانت النظرة السائدة قبله تعلي من شأن "الفرد" في التاريخ، بل تجعله صانع التاريخ ومحوره. أما مفهوم "طبائع العمران" بالمعنى الخلدوني للكلمة فهو إذ يحتفظ بالفرد كفاعل تاريخي يجعل فعله مؤطرا ومشروطا بعوامل فاعلة أخرى: العامل الجغرافي والعامل الاجتماعي والعامل الاقتصادي والعامل الثقافي والروحي. وقد عبر عن هذه العوامل بعبارات ومصطلحات من عنده من قبيل: العصبية و نحلة المعاش والدعوة الدينية الخ.

لا يمكن أن أستمر أكثر من الوقت المخصص لي. سأختم بالقول:

الانتظام في التراث لا يمكن أن يكون فاعلا وعنصر إخصاب ومصدر إبداع وتجديد ما لم يكن مسلحا بمناهج ورؤى جديدة تمكن المنتظم من امتلاك التراث وتحريك سواكنه وإعادة بنائه وبعث الحياة فيما هو قابل فيه للحياة من جديد بصورة أو بأخرى.

بدون أدوات "راهنة" معاصرة يبقى الانتظام في التراث خضوعا لنظامه، لقوالبه ومسبقاته. وذلك "راهن آخر"، بالمعنى العربي الذي شرحناه، راهن يجب التحرر منه هو الآخر. إن الانتظام في التراث لن يفك عن نفسه الرهن والرهان إلا بالارتباط بالفكر الإنساني ومواكبة تقدمه واستيعاب منجزاته ●


أعلى