د. علي خليفة - المبدع والشعور بالرضا

(1)
لا شك أن الشعور بالرضا هو الهدف الأسمى للإنسان في حياته، فكل منا يسعى بكل جهده ليشعر بالرضا، ويمكن أن نعرف الشعور بالرضا بأنه استحسان الإنسان لحاله ورضاه عن أفعاله، وشعوره بأنه منسجم مع الواقع الذي يعيش فيه.
وأصحاب النفوس الصافية قلما يشعرون بالرضا عن أنفسهم، فهم دائمًا يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة تصدر عنهم، وربما يحاسبون أنفسهم على بعض الفضائل التي يقومون بها؛ لأنها لم تقع منهم بالشكل الذي يرجون أن تتم بها.
أما المتلونون والمنافقون فهم في حالة رضا دائم عن أنفسهم؛ لأنهم ينظرون للواقع ولمن حولهم من خلال نفوسهم المتلونة، فيرون أن أفعالهم وأقوالهم المتلونة تناسب الواقع الذي يعيشون فيه، وأنهم بهذا التلون يرفعون رصيدهم في الحياة.
وعامة الناس تتوهم أنفسها في حالة رضا، وترى أنها فعلت في كل شيء ما بطاقتها فعله.
وبعض الناس يطلقون صيحة الشعور بالرضا، وهم في الحقيقة ناقمون على واقعهم وظروفهم، ويظنون أنهم بإطلاقهم المستمر لهذه الصيحة أنهم قد حققوا الشعور بالرضا بالفعل، ولكنهم على العكس من هذا في داخلهم، فنفوسهم تزداد اشتعالاً كل يوم بالرفض والضيق لما هم عليه، ولكنهم لا يرغبون في مصارحة أنفهسم بهذا؛ حتى يستطيعوا مسايرة حياتهم بالنمط الذي يعيشون به، وحتى يمكنهم تقبل الحياة بكل ما يعانونه فيها، ولكنهم حين تضيق أنفسهم ولا تتسع لابتلاع هذا الوهم الكاذب فإنهم – في الغالب – ينهارون، وربما تبع هذا الانهيار إعادة بناء نظرتهم للحياة، بحيث تقوم على تفهم الواقع والبحث عن سبل التعايش معه، وربما تبع هذا الانهيار هزة عنيفة أدت بالإنسان إلى أن يفقد كل السبل التي تجعله يتمسك بالحياة.
(2)
أما عن المبدع فهو – في الغالب – في حالة عدم رضا عما يبدعه، وهو يظن مع كل عمل إبداعي يعمله أو يكتبه أنه يحقق حلمه بالكمال الفني فيه، ولكنه حين ينتهي منه، ويعيد النظر فيه يشعر أن جوانب النقص تعتريه، وأنه ما زال لم يصل لما يصبو إليه من كمال فني، يرى خياله في سماء إبداعه.
وعدم الرضا هذا من المبدع هو الذي يدفعه دائمًا للإبداع والبحث عن جزر جديدة لم تكتشف بعد، ولم يصل إليها مبدعون قبله.
(3)
وتصور لنا مسرحية "ديانا والمثال" لبيرانديللو سعى أحد الفنانين المثَّالين لصنع تمثال لا مثيل له، وهو يعتقد أنه بعد إبداعه إياه يكون قد أنهى رسالته في الحياة، وحق له عند ذلك أن يتخلص من حياته ويموت.
وهكذا المبدع حين يشعر أنه وصل للكمال الفني الذي ينشده فإنه لا يرى لحياته قيمة بعد ذلك، ويسعى للتخلص منها، وإن عاش حياته بعد ذلك ستكون حياة عادية كحياة أي إنسان عادي؛ لأنه لن يصل لهذا الكمال الفني مرة أخرى، ونرى مثالاً لذلك في مسرحية "عندما نبعث نحن الموتى" للكاتب النرويجي هنريك إبسن، فبطلها المثال استطاع أن يصل للكمال الفني في تمثال صنعه لامرأة، وتخلى عنها بعد أن صنع ذلك التمال، وظن أنه سيستطيع عمل تماثيل غيره بنفس الروعة والكمال الفني، ولكنه لم يفعل شيئًا؛ لأنه كان قد وضع عبقريته وكل مواهبه في ذلك التمثال، ولم يعد بإمكانه عمل أي تمثال بهذا الكمال فيما بعد.
وكذلك نرى بجماليون في مسرحية "بجماليون" لتوفيق الحكيم حين صنع تمثاله "جالاتيا"، فهو في البداية كان مفتونًا بهذا التمثال الذي لا نظير له، وتحدي آلهة الأولمب الوثنية بأن تصنع مثل هذا التمثال، ولكنه حين تشكك في تمثاله هذا، وظن أنه ليس فيه الكمال الفني الذي يبتغيه حطمه، وظن أنه سيستطيع عمل تمثال أفضل منه، ولكن هذا لم يحدث، فحين حطم تمثاله هذا حطم حياته نفسها، فقد كان هذا التمثال يرمز للكمال الفني، وليس بعده سوى العجز والموت، وهذا ما كان.
ومن هنا يتأكد لدينا أن المبدع لا يمكن أن يحصل على الرضا حتى لو أبدع إبداعات فيها صور الكمال الفني؛ لأنه سيظن أنه – مع ذلك – لم يحقق ما يرجوه في خياله، وحتى لو اقتنع بأنه حقق الكمال الفني فيها فإنه سيشعر أنه قد أدى مهمته في الحياة؛ لأنه لن يستطيع أن يصنع صورة الكمال الفني هذه مرة أخرى، وآن له أن يستريح عند ذلك، والراحة هذه لا تعني سوى التخلص من الحياة والموت، أو أن يترك فلك الإبداع، ويعيش كإنسان عادي، وقلما يرضى المبدعون الخلاقون بتلك النهاية الأخيرة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى