1 -
عرفت غفساي عبر مختلف الحقب و الأزمنة عبور أشخاص و جماعات لرحابها. و تفاوتت الغايات من هذا التواجد. فمنها ما كان ظرفيا عابرا. و منها ما توخى الاستقرار. وكل هؤلاء لم يكونوا منتمين جغرافيا للمنطقة. و لذلك حملوا ثقافات مختلفة. أحيانا ظلت حبيسة صدورهم، وأخرى أعلنت عن نفسها و طرحت كمكون ومؤثر حاول ان يرسم امتدادا بالاستناد على الكم العددي الذي كان لها.
من بين هؤلاء نتوقف عن ما تداولته الأجيال لأسماء أسر يهودية عمرت بالمنطقة كعائلة "يوشو" وعائلة "ريفان" وهي أسر كانت منعدمة التأثير، ولم تسع إلى رسم أي امتداد لها. و كل ما هدفت أليه هو أن تنعم بالأمن لممارسة نشاطها التجاري او بعض الحرف. و لا يذكر انها تعرضت لاضطهاد او مضايقة. لتستثناء حادثة وقعت بعد رحيل الإدارة الفرنسية مباشرة. حيث قام شباب بعض الأعيان بالسطو على متجر يوشو. وقد استدعى ذلك اجتماع الهيىة التي كانت تشرف على الأمن انذاك للاجتماع، و اصدار قرار او حكم بالجلد في ساحة عامة. وقد قام المرحوم عبدالقادر محب الدين بجلد الجناة.
من بين اقدم تواجد من حيث الكثافة و التأثير في غفساي، الجزائريون الذين كانوا قد وفدوا مع الإدارة الفرنسية التي اناطت بهمزر نسهيل تواصلها مع الأهالي. فمنهم من قام بدور استخباراتي كما هو الشأن بالنسبة للمرحوم"بودخيل" او بدور المترجم مثلما كان الحال بالنسبة للمرحوم " مصطفى الترجمان" او بدور مراقب تأشيرات السفر كما كان حال المرحوم " موسى الفيلالي".
بالنسبة لمصطفى الترجمان، فقد قام بعكس ما كان مطلوبا منه، اذ يذكر بعص المقاومين انه لم يكن مخلصا في ترجمة اجوبة المعتلقين في عمليات الاستنطاقات. اذ استغل معرفته القانونية وحرف من تصريحات المعتفلين حتى لا يقعوا تحت طائل عقوبات قاسية. ولهذا السبب احتفظ له رجالات المقاومة ز جيش التحرير بتقدير خاص. ونال التشريف الذي يستحقه بعد نيل الاستقلال، اذ شعل مهمة أمنية في العاصمة الرباط قبل ان يكلف بمنصب كبير في الجزائر العاصمة بعد استقلال الجزائر.
من بين الشخصيات الجزائرية التي كانت الأكثر تأثيرا في الوسط المحلي، كانت شخصية "موسى الفيلالي" فهو بالاضافة لكونه جزائريا فهو كانت له جنسية فرنسية كما كان حال كل الجزائريين. و كانت مهمته كما ذكرت مراقبة تأشيرات السفر. لكن بخلاف ما كانت تلزمه به مهمته، فقد ضرب عرض الحائط بكل ما كان يخول بينه و بين حياة كان انتماؤه لها يمد اشواطه بكل طواعية داخل كيانه و كينونته. ولذلك مسح المسافة الفاصلة بينه وبين الأهالي الذين وجد فيهموامتداده وانتماءه الحقيقي، فما كان منه سوى ان ينصهر في تاريخهم من خلال مصاهرتهم وجعل دملئه تسري في دماء تاريخهم. وقد ترجم انتماءه من خلال توظيف جنسيته الفرنسية في حماية الاهالي الذين كانوا يعانون من اضطهاد الفرنسيين لهم، وهو ما جعله يحال على المحاكم الفرنسية في اكثر من مناسبة. وقد اخذت مواقفه تلك بعين الاعتبار لدى رجال المقاومة وجيش التحرير الذين تطورت علاقته بهم بما يتجاوز ذلك. وكانوا يأخذون رأيه بعين الاعتبار في المثير من القضايا. و سخر مركزه في ابطال متابعة بودخيل بعد الاستقلال باعتباره كان مخبرا للفرنسيين. وقد طلب منه بعد الاستقلال في مواصلة مهمته كوكيل لشركة النقل الغزاوي.
غير ان هذا لم يكن كل شى بالنسبة للرجل. اذةاضطلع بدور اجتماعي مهم. فيذكر اه على سبيل المثال انه انقذ المثير من النسوة اللواتي كن يعانين من ظروف ومشاكل اجتماعية، ولضطررن للهروب من اسرهن ، ليجدن انفسهن بدون مأوى او سند. و قد تبناهن كأفراد من أسرته. و بحث لهن عن ازواج من اجل اعادة ادماجهن في الحياة. كنا انه قام بالعمل نفسه حين تم تفكيك"مبغى زينب" بعد رحيل القوات الفرنسية، فاحتضنهن و عمل على تزويجهن.
كل هذا وغيره اقتلع من ذاكرة الناس حكاية المدود و الجنسيات، وجعل تمييز مغربي جزائري بدون دلالة او معنى...
***
2\2
عسكر موبيل
وصلت إلى غفساي بعد الاستقلال وحدة "عساكر موبيل" أو "المخزن العاشر المتنقل" ، لتستقر في الثكنة التي كان يشغلها الجيش الفرنسي. وقد ناهز عددهم المئتي فرد، اضافة إلى أسرهم. وحسب التقدير، فقد مثلوا حينها بهذا العدد حوالي ثلث سكان القرية. ولكونهم يعيشون في مكان مغلق خاص بهم، و لانحدارهم من نفس الاصول و الثقافة(امازيغ)، فقد شكلوا بنية قائمة بذاتها، هذا الى جانب ان معظمهم عاش بالمدن. وهو ما كان يعني بالنسبة للأهالي أن الحياة في القرية لن تعود كما كانت عليه قبل دخول الفرنسيين. وقد زكى هذا الاعتقاد ان الوافدين الجدد تعاملوا بنوع من التعالي و احيانا الازدراء، مما افاد ان هضبة"لاس راص" ستظل بحمولة معادية، وخارطة مبتورة من وجدانهم كطفل عاق اختار التمرد بدل الانضباط وبناء الانسجام مع محيطه. كما ان تواجد عساكر موبيل في غفساي بالضبط دون سواها من قرى الجهة، كان يفيد لنخبة القرية اشياء كثيرة، لعل اهمها انهم لا يحظون بالثقة و ان رقعتهم مصنفة لدى الوائر الامنية كمنطقة حساسة، حتى ان مسؤولا امنيا صرح مرة ان السكان لهم جنوح فطري للتمرد.
مهما يكن فتواجد عسكر موبيل شكل متنفسا اقتصاديا، حتى وإن كان جل افراده يحصلون على ما يحتاجونه من بضائع من السوق الأسبوعي. وهم من جهة اخرى اعادوا الحياة لظواهر كادت ان تنقرض بعد ان رحل الفرنسيون، فمددوا عمر الدعارة وان بشكل مستتر بعد ان كان لها مأوى عند الفرنسيين(مبغى زينب) وحافظوا على سوق الخمور. و غير هذا فقد نشطوا الحياة الرياضية، وأشاعوا الفن الأمازيغي الذي صار مألوفا ويمكن التقاطه في اي مكان . إلا أن اعمق تأثير كان هو طرحهم للآخر كموضوع يفرض التعامل و تأسيس حوار حقيقي معه.
هو حوار انخرطت فيه اجيال عدة. و ابتدأ كأي شى جديد تجهل الادوات التي يحتاج اليها، و لذلك كان مطبوعا بالشراسة و الرفض و احيانا تلون بالوان الهمجية. و قد كانت مباريات كرة القدم الواجهة التي سمحت بإبراز مكنون وطوية كل جانب، و تكشف المساحات المظلمة التي تكدست فيها الاعتبارات الحقيقية التي يوليها كل واحد للآخر
مباريات كانت تعيد كل طرف الى نقطة البدء من خلال عراك كان يوظف فيه كل شى من شأنه تن يحدث الأذى المادي و المعنوي. فقد كان الأهالي" اجبالة وكالين البيصارة" و كان الطرف الآخر " عسكر بطاطا المفتقد للشجاعة" ولم تكن المعارك تنتهي حيث تبدأ. بل كانت ترسم امتدادا في كل الاماكن و مجالات الحياة. وقد حاول احد الاساتذة استغلال هذا الصراع، و نوظيفه في التنافس المدرسي . لكن النتائج كانت كارثية ولم يكن ينقصها سوى اعلان حرب اهلية مست الكبار والصغار، الذكور و الاناث، مما استدعى تدخلا عاجلا لطي تلك المبادرة.
مع تقدم الزمن، بدا أن التراكمات فعلت فعلها بعد ان ترسبت ما يكفي من الزمن لتفرز تحولاتها. و تغيرت معالم كثيرة من هذه الخارطة. و اصبح هناك حوار حقيقي. حوار لم يعد ينطلق من التخندقات و الافكار المسبقة. ويبدو ان اجيال تلك الحقب قد استفادت كثيرا من تلك الوقائع لحد ان عمليات التواصل مع الآخر المختلف لم تعد تشكل مشكلة. بل صار التواصل و التفاعل مع اي وسط لا تعتريه اي عقبة.
.
عرفت غفساي عبر مختلف الحقب و الأزمنة عبور أشخاص و جماعات لرحابها. و تفاوتت الغايات من هذا التواجد. فمنها ما كان ظرفيا عابرا. و منها ما توخى الاستقرار. وكل هؤلاء لم يكونوا منتمين جغرافيا للمنطقة. و لذلك حملوا ثقافات مختلفة. أحيانا ظلت حبيسة صدورهم، وأخرى أعلنت عن نفسها و طرحت كمكون ومؤثر حاول ان يرسم امتدادا بالاستناد على الكم العددي الذي كان لها.
من بين هؤلاء نتوقف عن ما تداولته الأجيال لأسماء أسر يهودية عمرت بالمنطقة كعائلة "يوشو" وعائلة "ريفان" وهي أسر كانت منعدمة التأثير، ولم تسع إلى رسم أي امتداد لها. و كل ما هدفت أليه هو أن تنعم بالأمن لممارسة نشاطها التجاري او بعض الحرف. و لا يذكر انها تعرضت لاضطهاد او مضايقة. لتستثناء حادثة وقعت بعد رحيل الإدارة الفرنسية مباشرة. حيث قام شباب بعض الأعيان بالسطو على متجر يوشو. وقد استدعى ذلك اجتماع الهيىة التي كانت تشرف على الأمن انذاك للاجتماع، و اصدار قرار او حكم بالجلد في ساحة عامة. وقد قام المرحوم عبدالقادر محب الدين بجلد الجناة.
من بين اقدم تواجد من حيث الكثافة و التأثير في غفساي، الجزائريون الذين كانوا قد وفدوا مع الإدارة الفرنسية التي اناطت بهمزر نسهيل تواصلها مع الأهالي. فمنهم من قام بدور استخباراتي كما هو الشأن بالنسبة للمرحوم"بودخيل" او بدور المترجم مثلما كان الحال بالنسبة للمرحوم " مصطفى الترجمان" او بدور مراقب تأشيرات السفر كما كان حال المرحوم " موسى الفيلالي".
بالنسبة لمصطفى الترجمان، فقد قام بعكس ما كان مطلوبا منه، اذ يذكر بعص المقاومين انه لم يكن مخلصا في ترجمة اجوبة المعتلقين في عمليات الاستنطاقات. اذ استغل معرفته القانونية وحرف من تصريحات المعتفلين حتى لا يقعوا تحت طائل عقوبات قاسية. ولهذا السبب احتفظ له رجالات المقاومة ز جيش التحرير بتقدير خاص. ونال التشريف الذي يستحقه بعد نيل الاستقلال، اذ شعل مهمة أمنية في العاصمة الرباط قبل ان يكلف بمنصب كبير في الجزائر العاصمة بعد استقلال الجزائر.
من بين الشخصيات الجزائرية التي كانت الأكثر تأثيرا في الوسط المحلي، كانت شخصية "موسى الفيلالي" فهو بالاضافة لكونه جزائريا فهو كانت له جنسية فرنسية كما كان حال كل الجزائريين. و كانت مهمته كما ذكرت مراقبة تأشيرات السفر. لكن بخلاف ما كانت تلزمه به مهمته، فقد ضرب عرض الحائط بكل ما كان يخول بينه و بين حياة كان انتماؤه لها يمد اشواطه بكل طواعية داخل كيانه و كينونته. ولذلك مسح المسافة الفاصلة بينه وبين الأهالي الذين وجد فيهموامتداده وانتماءه الحقيقي، فما كان منه سوى ان ينصهر في تاريخهم من خلال مصاهرتهم وجعل دملئه تسري في دماء تاريخهم. وقد ترجم انتماءه من خلال توظيف جنسيته الفرنسية في حماية الاهالي الذين كانوا يعانون من اضطهاد الفرنسيين لهم، وهو ما جعله يحال على المحاكم الفرنسية في اكثر من مناسبة. وقد اخذت مواقفه تلك بعين الاعتبار لدى رجال المقاومة وجيش التحرير الذين تطورت علاقته بهم بما يتجاوز ذلك. وكانوا يأخذون رأيه بعين الاعتبار في المثير من القضايا. و سخر مركزه في ابطال متابعة بودخيل بعد الاستقلال باعتباره كان مخبرا للفرنسيين. وقد طلب منه بعد الاستقلال في مواصلة مهمته كوكيل لشركة النقل الغزاوي.
غير ان هذا لم يكن كل شى بالنسبة للرجل. اذةاضطلع بدور اجتماعي مهم. فيذكر اه على سبيل المثال انه انقذ المثير من النسوة اللواتي كن يعانين من ظروف ومشاكل اجتماعية، ولضطررن للهروب من اسرهن ، ليجدن انفسهن بدون مأوى او سند. و قد تبناهن كأفراد من أسرته. و بحث لهن عن ازواج من اجل اعادة ادماجهن في الحياة. كنا انه قام بالعمل نفسه حين تم تفكيك"مبغى زينب" بعد رحيل القوات الفرنسية، فاحتضنهن و عمل على تزويجهن.
كل هذا وغيره اقتلع من ذاكرة الناس حكاية المدود و الجنسيات، وجعل تمييز مغربي جزائري بدون دلالة او معنى...
***
2\2
عسكر موبيل
وصلت إلى غفساي بعد الاستقلال وحدة "عساكر موبيل" أو "المخزن العاشر المتنقل" ، لتستقر في الثكنة التي كان يشغلها الجيش الفرنسي. وقد ناهز عددهم المئتي فرد، اضافة إلى أسرهم. وحسب التقدير، فقد مثلوا حينها بهذا العدد حوالي ثلث سكان القرية. ولكونهم يعيشون في مكان مغلق خاص بهم، و لانحدارهم من نفس الاصول و الثقافة(امازيغ)، فقد شكلوا بنية قائمة بذاتها، هذا الى جانب ان معظمهم عاش بالمدن. وهو ما كان يعني بالنسبة للأهالي أن الحياة في القرية لن تعود كما كانت عليه قبل دخول الفرنسيين. وقد زكى هذا الاعتقاد ان الوافدين الجدد تعاملوا بنوع من التعالي و احيانا الازدراء، مما افاد ان هضبة"لاس راص" ستظل بحمولة معادية، وخارطة مبتورة من وجدانهم كطفل عاق اختار التمرد بدل الانضباط وبناء الانسجام مع محيطه. كما ان تواجد عساكر موبيل في غفساي بالضبط دون سواها من قرى الجهة، كان يفيد لنخبة القرية اشياء كثيرة، لعل اهمها انهم لا يحظون بالثقة و ان رقعتهم مصنفة لدى الوائر الامنية كمنطقة حساسة، حتى ان مسؤولا امنيا صرح مرة ان السكان لهم جنوح فطري للتمرد.
مهما يكن فتواجد عسكر موبيل شكل متنفسا اقتصاديا، حتى وإن كان جل افراده يحصلون على ما يحتاجونه من بضائع من السوق الأسبوعي. وهم من جهة اخرى اعادوا الحياة لظواهر كادت ان تنقرض بعد ان رحل الفرنسيون، فمددوا عمر الدعارة وان بشكل مستتر بعد ان كان لها مأوى عند الفرنسيين(مبغى زينب) وحافظوا على سوق الخمور. و غير هذا فقد نشطوا الحياة الرياضية، وأشاعوا الفن الأمازيغي الذي صار مألوفا ويمكن التقاطه في اي مكان . إلا أن اعمق تأثير كان هو طرحهم للآخر كموضوع يفرض التعامل و تأسيس حوار حقيقي معه.
هو حوار انخرطت فيه اجيال عدة. و ابتدأ كأي شى جديد تجهل الادوات التي يحتاج اليها، و لذلك كان مطبوعا بالشراسة و الرفض و احيانا تلون بالوان الهمجية. و قد كانت مباريات كرة القدم الواجهة التي سمحت بإبراز مكنون وطوية كل جانب، و تكشف المساحات المظلمة التي تكدست فيها الاعتبارات الحقيقية التي يوليها كل واحد للآخر
مباريات كانت تعيد كل طرف الى نقطة البدء من خلال عراك كان يوظف فيه كل شى من شأنه تن يحدث الأذى المادي و المعنوي. فقد كان الأهالي" اجبالة وكالين البيصارة" و كان الطرف الآخر " عسكر بطاطا المفتقد للشجاعة" ولم تكن المعارك تنتهي حيث تبدأ. بل كانت ترسم امتدادا في كل الاماكن و مجالات الحياة. وقد حاول احد الاساتذة استغلال هذا الصراع، و نوظيفه في التنافس المدرسي . لكن النتائج كانت كارثية ولم يكن ينقصها سوى اعلان حرب اهلية مست الكبار والصغار، الذكور و الاناث، مما استدعى تدخلا عاجلا لطي تلك المبادرة.
مع تقدم الزمن، بدا أن التراكمات فعلت فعلها بعد ان ترسبت ما يكفي من الزمن لتفرز تحولاتها. و تغيرت معالم كثيرة من هذه الخارطة. و اصبح هناك حوار حقيقي. حوار لم يعد ينطلق من التخندقات و الافكار المسبقة. ويبدو ان اجيال تلك الحقب قد استفادت كثيرا من تلك الوقائع لحد ان عمليات التواصل مع الآخر المختلف لم تعد تشكل مشكلة. بل صار التواصل و التفاعل مع اي وسط لا تعتريه اي عقبة.
.