أ. د. عادل الأسطة - تأمُّلات في واقع القصة القصيرة: قصتنا الفلسطينية مثالاً

عرفت الحركة الأدبية الفلسطينية القصة القصيرة منذ الربع الأول من القرن العشرين، فقد كانت أول مجموعة قصصية هي "مسارح الأذهان" (1924) لخليل بيدس. والطريف أن صاحبها الذي أصدر قبل أربع سنوات من إصدارها رواية، الطريف أنه صدرها بمقدمة عن الفن الروائي، لا عن فن القصة القصيرة، وثمة ما بين القصة القصيرة والرواية فوارق لا تخفى على الدارسين. هل اختلط الأمر على بيدس الذي لم يزد حجم روايته "الوارث" (1920) على مائة وعشرين صفحة؟ وهل "الوارث" أصلاً رواية أم أنها قصة طويلة؟
حتى العام 1948 صدرت مجموعات قصصية قليلة لا تزيد على عدد أصابع اليد، ولم يكن الكُتّاب، أيضاً، يزيدون على عدد أصابع اليد. "مسارح الأذهان" (1924) و"أول الشوط" (1937) و"قصص أخرى" (1944). بيدس والإيراني وعبد الحميد يس ونجاتي صدقي وعارف العزوني، والأخيران، حتى العام 1948 لم يصدرا أي مجموعة قصصية.
سيتوقف بيدس عن كتابة الرواية والقصة القصيرة، وسيموت في المنفى (1949)، فيما سيواصل صدقي والإيراني كتابة القصة القصيرة، وسيخلصان لها ولن يكتبا في أجناس أدبية أخرى كالشعر أو الرواية. وسيواصل، في المنفى، كتاب جدد كتابة القصة القصيرة: جبرا إبراهيم جبرا وسميرة عزام وغسان كنفاني. أصدر الأول مجموعة واحدة ثم طالب الكتّاب بالتحول عن كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية، وهذا ما فعله، فأصدر العديد من الروايات. لماذا تحول جبرا عن كتابة القصة القصيرة إلى الرواية؟ "القصة القصيرة فن سهل سريع، لا يستطيع استيعاب تجربته كما تستطيع الرواية ذلك" و"الرواية هي الفن الأصعب.. فأنا إذاً أطالب كتّابنا بالفن الأصعب".
لم تأخذ سميرة عزام برأي جبرا، فقد أخلصت لفن القصة القصيرة وأصدرت خمس مجموعات قصصية، وحاولت أن تكتب رواية غير أنها لم تكملها، واختلف عنها غسان كنفاني الذي بدأ قاصّاً يكتب القصة القصيرة، ثم تحول عن كتابتها ليكتب الرواية، وما أصدره في 60 ق 20، وما عكف على إنجازه في بداية 70 ق 20 ولم يُتمّه لاستشهاده، يقول لنا: إن غسان مال، مثل جبرا، إلى فن الرواية. هل زمننا هو زمن الرواية لا زمن القصة القصيرة؟ وهل الأمر يقتصر على الكتّاب الفلسطينيين؟
في العام 2011 ترجم السعودي ناصر الحجيلان كتاب (تشارلز ماي) القصة القصيرة: حقيقة الإبداع: نحو تقييم التطور التاريخي ودراسة الخصائص النوعية للقصة القصيرة" وفيه يثير المؤلف أسئلة عديدة حول واقع القصة القصيرة، وهي أسئلة لطالما أثيرت، أيضاً، من قبل، وتحديداً في النصف الأول من القرن العشرين، من ذلك مثلاً أنه في الأعوام 1909 و1913 و1917 صدرت ثلاثة كتب نظرية عن فن القصة القصيرة، وإثرها طالب عدد من القراء والنقاد بإنهاء هذا العمل، "فامتلأت الدوريات الجيدة بمقالات حول "انحطاط" القصة القصيرة و"تآكلها" و"خرفها". وقد أوجز (جيلبرت سيلدز) ردّات الفعل الأكثر تطرفاً في دورية "ذا ديال" عام 1922 حيث قال: "القصة الأميركية القصيرة على كل الأوجه هي العمل الفني الأضعف، والأسخف، الذي يعدم الدلالة في كل ما أنتج في هذه البلاد أو في أي بلاد أخرى" (ص 250).
هل كلام الناقد السابق كلام مبالغ فيه؟ وهل هو من أعداء القصة القصيرة؟
منذ ثلاثين عاماً وأنا أُتابع، كل عام، يوم الخميس، خبر إعلان اسم الفائز باسم جائزة (نوبل) للآداب، والجنس الأدبي الذي يكتب فيه. هل منحت، خلال هذه الأعوام، إلى كاتب قصة قصيرة؟ غالباً ما تمنح هذه الجائزة للرواية، وقليلاً ما تمنح للشعر، ونادراً، بل ونادراً جداً، ما تمنح للقصة القصيرة؟ لماذا؟ ألأن القصة القصيرة، قياساً إلى الشعر والرواية، فن حديث النشأة. تضرب جذور الشعر عميقاً في التاريخ، فيما تعود نشأة الرواية إلى خمسة قرون خلت، لا إلى قرن ونصف فقط، كما هو حال القصة القصيرة. أيعود الأمر إلى الانتشار والتوزيع وتلقّي القرّاء للأجناس الأدبية؟ كم تبيع الرواية؟ كم يبيع الشعر؟ كم تبيع القصة القصيرة؟ الرواية تبيع، إذا نجحت رواية، ملايين النسخ، وسرعان ما تترجم. الشعر لا يبيع، في أحسن الأحوال، بضعة آلاف نسخة، فكم تبيع القصة القصيرة، لأبرز كتّابها؟ مرة قرأت مقالاً لكاتب مصري يقول فيه: إن عدد كتّاب القصة القصيرة في مصر أكثر من عدد قرائها. وربما احتجنا إلى دراسة أدبية اجتماعية توضح لنا، هنا في فلسطين، عدد كتّاب القصة القصيرة، وعدد قرائها، وعدد النسخ التي تباع لأبرز كتّابها. سأجتهد قليلاً. أبرز شاعر فلسطيني هو محمود درويش، وأبرز روائيَّين فلسطينيين هما: غسان كنفاني وإميل حبيبي، وأبرز كاتبي قصة قصيرة في الضفة الغربية هما: محمود شقير وأكرم هنية؟ كم طبعة طبعت أعمال درويش، وكم طبعة طبعت روايات كنفاني وحبيبي، وكم طبعة طبعت أعمال شقير وهنية؟ وماذا عن تلقّي أشعار درويش وروايات كنفاني وحبيبي وقصص شقير وهنية نقدياً؟ ولا أُنكر أن قصص شقير وهنية لفتت أنظار النقاد، ولكنها قياساً إلى أشعار درويش وروايات كنفاني وحبيبي، لكنها ـ أعني الدراسات النقدية ـ تظلّ متواضعة.
أعود إلى نصيحة جبرا وتجربته "إن القصة القصيرة فن سهل إذا قُورن بالعمل الأكبر الرواية.. فأنا إذاً أطالب كتّابنا بالفن الأصعب". هل القصة القصيرة فن سهل والفن الأصعب هو الرواية؟ هل انطلق جبرا في حكمه من خلال تجربة شخصية أم من خلال قراءاته لتنظيرات كتّاب فن القصة القصيرة في الغرب، التنظيرات التي أشرت إليها آنفاً؟
أيّاً كان الأمر فإن نظرةً على مشهدنا القصصي الفلسطيني تقول لنا إن أكثر أدبائنا لبُّوا طلب جبرا، حتى وإن لم يكونوا قرأوه. ثمة عدد لا بأس به من كتّاب القصة القصيرة تحولوا إلى كتابة الرواية وهجروا القصة نهائياً، وثمة عدد لا بأس به ممن أخلصوا لفن القصة القصيرة لجأوا في العقد الأخير إلى كتابة عمل روائي، ولهذا دلالاته لا شك.
حبيبي وجبرا ويحيى يخلف وعزت الغزاوي هجروا عالم القصة القصيرة إلى عالم الرواية كلياً. هل يختلف عنهم، أيضاً، توفيق فياض؟
رشاد أبو شاور وليانة بدر وغريب عسقلاني ومحمد أيوب لم يتوقفوا عن كتابة القصة القصيرة، ولكنهم أصدروا أكثر من رواية، ومثلهم حنا إبراهيم، أيضاً.
محمود شقير ومحمد علي طه وأكرم هنية عُرفوا كتّاب قصة قصيرة بالدرجة الأولى، والأوّلان مالا إلى كتابة الرواية، فأصدرا عملاً روائياً. ولذلك دلالاته. وهناك مقولة تقول: إن زمننا هو زمن الرواية لا زمن الشعر، فهل هو زمن الرواية لا زمن القصة القصيرة، وللتأمُّلات بقيّة.


أ. د. عادل الأسطة
2012-10-14



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى