منصف الوهايبي - في الحِجَاج الشعري: بين أبي تمّام ومحمود درويش

«ولو صف زهر اللوز، لا موسوعةُ الأزهار
تسعفني، ولا القاموسُ يسعفني…
سيخطفني الكلامُ إلى أَحابيل البلاغةِ /
والبلاغَةُ تجرح المعنى وتمدح جُرْحَهُ،
كمذكَّرٍ يُمْلي على الأُنثى مشاعرها..»
بهذا المقطع يفتتح محمود درويش قصيدته «لوصف زهر اللوز». وما يلفت الانتباه فيه، قبل أن أنتقل إلى موضوع «الحِجاج» في النصّ وفي قراءته؛ إنّما هو هذه الثنائيّة القلقة لغة: «مذكّر/ أنثى» وليس «مذكّر/ مؤنّث» أو «ذكر/ أنثى». وقد يكون ذلك سهوا من الشاعر، أكثر منه قصدا. وكان بالإمكان أن يقول: «لكأنّها الذكرُ الذي يملي على الأنثى مشاعرها». ومن صور أبي تمّام التي اختلفوا فيها، فعدّها بعضهم من الحسن المقبول، لأنّها تستوفي الغرض وتقوّي ادّعاء الاتّحاد بين طرفيها. وعدّها بعضهم من القبيح المردود لأنّها لا تفي بالغرض المنشود، إمّا لعدم وجود وجه سائغ بين المشبّه والمشبّه به، أو لأنّه من شدّة الخفاء، أو هو بعيد غريب يحتاج إلى قدر غير يسير من حسن التأتّي، قوله:
وصنيعةٍ لـك ثـيّبٍ أهديتـها // وهي الكعاب لعائد بك مصرمِ
حلّت محلّ البكر من معطَى وقد // زفّت من المعطِي زفاف الأيمّ
وثمّة في علم اللغة العامّ، طريقة للنظر في معنى الجنس البشري، من منظور مرجع الدلالة، كما هو الشأن أيضا في اسم الجنس النوعي والعامّ في حالة المذكّر. وفي ما يخصّ هذه الطريقة وهي الأكثر انتشارا، فإنّ التعارض الدلالي الأساسي بين المذكّر والمؤنّث قياسي مثلما هو تناظريّ: فالمذكّر هو الرجل أو الذكر، والمؤنّث هو المرأة أو الأنثى. ومن لطائف العربيّة أنّ الأُنثى يقال لها «رَجُلة» وفي الحديث «كانت عائشة رجُلةَ الرأي». وتضاف إلى هذه القيمة الأولى للمذكّر أو الأساس الذي يحدّ النوع، قيمة عامّة؛ إذ يمكن أن تشمل صيغة المذكّر الإناث أيضا (دكتور، رئيس، أستاذ، نائب…) ومن هذا المنظور، فإن المذكّر العامّ هو قيمة دلاليّة ثانويّة، منفصلة عن القيمة الأساس.
والصورتان في تقديري صورة واحدة تقوم على تحويل الدّال حيث تنتسج «عقدة دلاليّة» لا معنى مزدوج، ومجانسة لا مطابقة، وإن تمثّلت بالضدّ حينا، وبالتّشبيه حينا. وقد نكون في الصّميم منها ما تنبّهنا إلى أنّ أساس التّحويل فيها محاجّة مضادّة أو«حِجاجّ». ويمكن أن نقف فيها على غايات تصديقيّة وإيقاعيّة إنشائيّة براغماتيّة (تداوليّة) عند الشاعرين، تتضافر في صياغة محور دلاليّ متجانس يتحوّل فيه الكرم عند أبي تمّام إلى كرامة، ويتعدّى المعاني الموضوعة له مثل العطاء والجود والسّخاء، إلى العطيّة نفسها، فهي تتحوّل من ثـيّب إلى كعاب أو من أيّم إلى بكر. وفيها تتركّز دلالة الكرم أي في الشّيء نفسه من حيث هو واسطة العقد بين المعطي والمعطى. ومحور الصورة قلب العلاقة المميّزة التي تصل الكريم بكرمه، فالكرم أو ما يدلّ عليه من أعطيات هو العنصر المميّز، على حين أنّ الكريم المعيّن بطبيعته الإنسانيّة هو المميّز. ويتحوّل عند محمود درويش إلى نوع من مخالفة اللغة.
والصورة المجازيّة هي بطبعها «مخالفة» أو إخبار غير مألوف، يمكن أن يخالف القواعد السّياقيّة الماثلة في معنى الكلمات نفسه، وأن يتعلّق بالاستعمالات اللّغويّة العاديّة، على قدر ما يتعلّق بالاستعمالات الخارقة للعادة والألفة؛ ممّا نعتبره عادة نتاج المخيّلة الشّعريّة والزّخرفة البلاغيّة، بل هو يخصّ الكلمات مثلما يخصّ الفكر وبنية نظام الإدراك نفسه، فالاستعارة ممكنة في اللّغة لأنّ هناك استعارات أكثر من أن تحصى في نظام الإدراك عند أيّ منّا. فالمصطلح «مذكّر» عند درويش يستدعي المعنى، والمعنى يستدعي اسم الجنس أو الذكر. وهذا يستدعي «الأنثى». واللافت أنّ «مذكّر» في نصّه جاءت بصيغة التنكير، فيما جاءت كلمة «الأنثى» بصيغة التعريف وهو هنا تعيين. أمّا قديما فإنّ زاوية النّظر عند هذا القارئ هي نفسها عند ذاك؛ إذ تتذرّع كلّها بالأقيسة اللّغويّة والفقهيّة ذاتها. وهي أقيسة استدلاليّة جدليّة تضفي على القراءة طابعا حجاجيّا لا يخفى يمكن أن ننعته بالمعياريّ. والمقصود به هذا الحجاج القائم على البحث في التّرابط الدّلاليّ بين جزئين في الخطاب ومدى صحّته: فالكعاب تقوم مقام البكر عند الآمدي، لأنّ هذا محتمل الوقوع ما دامت الكعاب في «الأكثر» هي البكر غير المفترعة. وليست « الأكثر» سوى الاستعمال الغالب أو المعنى الحافّ الذي يمكن أن يحلّ محلّ الأصل. والأيّم تقوم مقام الثـيّب عند القاضي الجرجاني، لأنّ عادة الاستعمال تجوّز ذلك. وهو ما يعترض عليه الآمدي احتجاجا بالآية: «وانكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم». ويعقّب الآمدي: «أفتراه قال انكحوا الثّيّبات من النّساء دون الأبكار؟». وكلام الآمدي لا يخلو من تناقض، ما دام لفظ الأيّم لفظا جامعا، تدخل فيه بصريح عبارته الثـيّب والبكر والصّغيرة والكبيرة ممّن لا زوج لها. والمرأة الثـيّب هي التي فارقت زوجها بموت أو طلاق.
إنّ هذا النّوع من الحجاج المعياريّ هو أبعد من أن يجوّز دلالة الصّورة في بيت أبي تمّام، القائمة بدورها على الحِجاج، شأنها شأن الصورة نفسها في قصيدة درويش، لكنّه حجاج من نوع آخر يمكن أن ننعته بالمخالف أو الانتهاكيّ التّجاوزيّ المتحقّق داخل النصّ حيث لا تحتوي الكلمات الأربع (الثـيّب/ الكعاب/البكر/الأيّم، والمذكّر/ الأنثى) على أيّ من هذه المعاني المتداولة.
ويبدو من ظاهر المثالين أنّ الخطاب الشّعريّ نفسه يضع مقدّمة (الصّنيعة الثـيّب) لا يمكن إلاّ أن تترتّب عنها نتيجة واحدة هي صورة (الصّنيعة البكر) وعند درويش في صورة البلاغة التي «تجرحُ المعنى وتمدح جرحه، كمذكّر يملي على الأنثى مشاعرها». فهو مركّب من صورة أولى لا يسلّم بها حتّى تلزم عنها لذاتها صورة ثانية، ولا تقع الأولى حتّى يسبق الخاطر للثّانية. ذلك أنّ العقدة منهما «عقدة دلاليّة» تنسجها خيطان من المعنى على الأقلّ أو بعبارة أدقّ معنى مزدوج أو معنيان متنافران؛ فـ«المذكّر» كالبكر تحفّ به جملة من المعاني الإيجابيّة. وأكثر ما يستعمل «الذكر» بشتى مشتقّاته لمعاني الفحولة والشدّة والهول والصيت والثناء… و«البكر» للوصف بما طاب وحسن (البكر: الفتيّة، العذراء، أوّل كلّ شيء، ما لم يتقدّم مثله، ونار بكر لم تقتبس من نار، وكرم بكر حمل أوّل حمله) فيما تعلُقُ بـ«الثّيّب» في منظومة القيم عند العرب، جملة من المعاني الحاطّة، أو التي هي بين بين. والصّورة الغالبة عليها إنّما هي صورة المرأة المفارقة لزوجها بموت أو طلاق. وربّما اقترنت في المخيال بصورة المرأة التي طال مكثها في بيت أهلها بعد إدراكها، أو هي أسنّت ولم تتزوّج أي المرأة العانس. وكلمة «أنثى» كذلك فهي في التصوّر اللغوي والديني، أدنى منزلة. وفي القرآن «إِن يَدْعُون دونه إِلا إِناثاً» (النساء 117) وتقرأ: «إِلا أُنُثاً» جمع إِناث، ومَن قرأَ إِلا «إِناثاً» أَراد إِلا مَواتاً مثل الحَجَر والخَشَب والشجر والمَوات، كلُّها يخبر عنها كما يُخْبر عن المُؤَنث؛ وفي لغة العرب يقال للمَوات الذي هو خلاف الحَيوان: الإِناثُ أي الأشياء التي ليس فيها روح. وقرأَ ابن عباس: إِن يَدْعون دونه إِلا أُثُناً؛ وهو جمع الوَثَنْ فضم الواو وهمزها.
على أنّ مزيّة الخطاب في هذا النّوع من الصّور«الجندريّة» أنّه يبني الصّورة بما تبنى به الأملوحة عادة أي بملء «المعنى الشّاغر». ومن وظائف اللّغة الثّابتة التّخاطب والتّواصل، ولذلك من الطّبيعيّ أن يكون كلّ جزء في اللّغة قابلا للفهم. فإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها على مقتضى المعنى المبذول في الظّاهر، وكان قصده منها معنى آخر؛ فإنّ المحصّلة ليست الغموض كما هو الشّأن في اللّغة الخاصّة، وإنّما المعنى المزدوج . فلا غرابة في أن يتعطّل التّواصل وتتفكّك «مفهوميّة» اللّغة، وتخيب العلاقة بين المتكلّم والمخاطب؛ إذ يكفي أن يذهب المتلقّي إلى المحسوس فيما المجرّد هو المقصود، أو أن يعود إلى المعنى الحرفيّ فيما المجاز هو المقصود. وكلمة «أيّم» عند أبي تمّام، مثل كلمة «أنثى» في نصّ درويش، أشبه ما تكون بـ«اسم بلا مسمّى» فهي اسم موضوع على جوهر أو عرض، لكن دون تعيينه أو تمييزه، لأنّ مسمّاها لا هو بالمعلوم ولا هو بالمعيّن؛ ما دامت تتّسع لكلّ هذه الحالات التي ذكرها. ومن المفيد أن نذكّر في هذا السّياق بضرورة التّمييز بين إشارة إراديّة تواصليّة «مشفّرة» وأخرى غير إراديّة أي تعبيريّة تتعلّق بالمشاعر والانفعالات التي تثيرها الأشياء/ الكلمات في النّفس؛ وهذه قد تندّ عن تعريف قرينتها.
والقراءة التي نقترحها لا تقوم على عقد علاقة مفترضة بين الصّورة و«حالات الأشياء»خارجها، فالصّورة ليست رسالة لاحقة على رسالة سابقة «محذوفة».

كاتب تونسي

منصف الوهايبي


أعلى