لحسن أوزين - أصوات في ممرات النزيف: نساء على ألسنة الجحيم

مدخل

إذا كانت رواية "سدوم" لعبدالحميد شوقي قد نالت الكثير من الاهتمام من قبل مختلف القراء، وأثارت أيضا الكثير من النقاش، كما حظيت بمقاربات نقدية، فإنني أعتقد أن روايته الأخيرة "أصوات في ممرات النزيف" ستفرض نفسها على كل هؤلاء، من خلال حرقة أسئلتها التي تحايث عوالمها الفنية والجمالية الأدبية، وهي تواصل النبش والحفر وتعرية صمت وظلال وعتمة الهامش المهمش بإرادة القوة القمعية القاهرة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، كتصورات وتقاليد ومعتقدات، في جعله هامشا مغيبا ومنسيا، خارج منطق التاريخ الذي يتسيده الاستبداد القهري المتسلط، بمختلف مستوياته السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، و الثقافية الابوية ذات النزعة الذكورية، الطافحة بمختلف أشكال الفساد السياسي الاجتماعي والاخلاقي، والضامنة لمعاودة إنتاج منظومة التسلط والقهر والهدر للفرد والجماعة والمجتمع إلى حد إضعاف مناعة الكيان الوطني.
من هذه الخلفية تنسج الرواية سردية القهر والألم والتدمير الهمجي للنسيج الاجتماعي، و للفرد والمجتمع ككل. حيث تتعاضد وتتساند وتتمفصل تقنيات الشكل الروائي مع حكايات عذابات ألم القهر والذل والحكرة والمهانة، بصورة بشعة بلغت مستوى سلخ الكرامة والقيمة الإنسانية من الناس، من طرف جهاز أمني تغول الى حد التحكم في مسارات ومصائر البشر. واستباحة ما تبقى من قوقعتهم الحميمية التي يمارسون فيها انكفاءهم الذاتي بصمت الألم والقهر والذل.
الرواية تخترق لعنة الهوامش المعتمة، وتجبر الصمت على التراجع الى الخلف، حتى يفسح المجال لأصوات نازفة أرهقتها عذابات آلام القهر والظلم والتسلط الذي استباح كرامتها، وزج بها في دهاليز قراصنة الرعب، وأقبية الظلام المفككة للروابط والأواصر الأسرية، و المجتمعية والإنسانية.
الرواية تنتصر للتاريخ المنسي والمسكوت عنه في استعباد الناس وقهرهم، وهي تتكئ في انتهاكها لتابوهات الصمت والإقصاء على الصورة الأرقى الباذخة للاضطهاد والاسترقاق البشري، التي تتمثل في آلام وعذابات المرأة عبر التاريخ العربي والإسلامي، في تسلطه السياسي الاجتماعي، في معتقداته وتصوراته، في أفكاره وتمثلاته، في دلالاته وعلاقاته الاجتماعية.
من هذا العمق المحصن بسراديب القهر، وأقبية الظلام تؤسس الرواية بناءها الفني والجمالي، وهي تتفجر بلغة جميلة شاعرية، مؤلمة بوخزها الحاد، لا تقبل ترف القراءة العابرة، المتنصلة من مسؤولية ما تنتجه سيرورة تفاعلاتها مع النص، من معاني، وما تولده منعرجاتها المؤلمة من دلالات، وهي تطارد خبث العلامات وتتعرف على بشاعة ما نتستر عليه من همجية في أقبية الخنوع والظلام الممسوس بهوامات الترفع الأخلاقي الزائف عن منطق الربح والخسارة، الهزيمة والنصر، التي تحول الانسان الى شيء تافه فاقد للقيمة والحصانة الإنسانية.
أقبية عطنة، لا تنقصها حيل الغش والنهب والتدليس والسطو، تحت غطاء خبطة صدف بشاعة ثقافة الحظ العاثر، الزهر والنحس، الزلط والغنى، في انتقاء كبش الفداء( حميدو شهيد) قربانا لمنظومة الفساد التي تتلاعب بالقيم الإنسانية سحلا وتنكيلا وتمريغا للكرامة البشرية، دون أن يرف لها جفن الضمير الإنساني، إزاء ما تنتجه من مآسي وكوارث، وهي تقذف في العراء بالإنسان في قيمته وحرمته الإنسانية. متسلحة في ذلك بالقانون (المفتش عثمان الشادلي)، كرشاش أخلاقي يمنحها حق إطلاق النار على الكرامة والعدالة والحرية في شخص الانسان والنيل منه وتدميره بأسلحة الخير والإحسان، وألغام العطف والحنان والرحمة الكاذبة للدار الكبيرة (الحاج سعيد) التي جمعت مصائر متقاطعة لأربع فتيات: شهدة، فوزية، فايزة، وفريدة. حيث تحمل كل واحدة منهن تاريخ عبء ثقيل من صرخات مقموعة، مكتومة الصوت، ومن عذابات آلام القهر والهدر أُمّا عن جدة.

هذا ما عاشته مجموعة من النساء في ممرات النزيف التي استنزفت وجودهن الإنساني، وهن يتوارثن اللعنة الأبوية الذكورية ودنس الاحتقار والعزل والاقصاء والاغتصاب.
ويتقاسمن القدر المشؤوم في اختزال وجودهن البشري، كشيء قابل للرهان على طاولة قمار أو للتبادل والبيع والشراء، والتلويث بدنس الاغتصاب (صبحية) التي زوجت بمغتصبها سترا للفضيحة والشرف الرفيع و(راضية) حماية للسلالة من هواجس الانقراض، التي تؤدي الى القتل (موحى الهبيل) حماية للشرف الرفيع. مع إسقاط وحل القذارة الذكورية في إعلان الشرف البطريركي المهزوم في جوفه العميقعلى الحلقة الأضعف- المرأة- المضطهدة بشكل مضاعف في المجتمع. لا لشيء إلا لكونها امرأة كما أرادت لها الثقافة الاجتماعية التاريخية والدينية.
يحدث هذا في ظل إخفاء جهنمي لخلفية ظروف وملابسات الجريمة والقتل العمد للإنسان كمشروع وجودي حر ومستقل، وبكرامة تضمنها القوانين والعهود والاتفاقات والأعراف الإنسانية الدولية.
1- عتبة العنوان والغلاف:
هل هي صرخة ذوات مكتومة مقموعة، تعرضت للمسخ الى درجة صارت مجرد أشباح، سلخت منها ملامحها الإنسانية، فاقدة هويتها الفردية وتاريخها الشخصي، وقد مس القهر نرجسيتها الخاصة التي تسوغ حقها في الوجود؟ فما الذي يمكن أن تكونه أصوات شكلتها ممرات النزيف الذي لن يكون غير نزيف سيرورة عذاباتها في اكتساب قيمة وجدارة الصوت/ الصرخة، في وجه القامع القاهر؟ وبين ظلال خطوط وتجاعيد ممرات النزيف لن يكون لليد غير معنى القهر والسطو والتملك والاسترقاق في رسم مسارات وممرات النزيف التي تستنزف الانسان الى حد مسخه تأبيدا للسيطرة والهيمنة.
وقد يكون الفرد قويا إن استطاع الحفاظ على ما هو إنساني فيه: صوته. جدل الإضاءة بين العنوان والصورة يفجر مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير في ذهن المشاهد/ القارئ وهو يستقبل بشكل أو بآخر تحية الكتاب/رواية، الواعدة بالكثير من الحكايات القادمة من طيات وخدوش الحفر العميقة، المفعمة بالألم والرعب والإرهاب، لصورة غلافه. إنها أصوات لا تتوقف عن الصراخ، والتعبير عن نفسها على أنها " أصوات في ممرات النزيف".
تلك ايحاءات اعتلت عتبة عنوان الكتاب الموشوم بممرات النزيف التي جعلت هذه الأصوات جديرة بامتلاك حق الكلام، رفضا للقمع والموت والنسيان في أقبية الظلام. فمن يحيي رميم روح الانسان وهي نزيف، غير صوته في بعث الحياة والولادة من جديد.
لكم هي مغرية هذه الصيغة الجماعية في محنة انتهاك صمت عتمات ممرات النزيف، وتعرية ما تحمله في أحشائها من رعب رهيب، ينفث لهيبه من فوهة محاجر العينين، ومن صرخة الفم المقموع. صرخة تعبر عنها كل تقاسيم الوجه على أنها أصوات لحكايات مؤلمة لن يطالها البتر والنسيان، مهما كانت في عنفها، وقهر إرهابها، جراحات سردية ممرات النزيف.
2-نساء على ألسنة الجحيم
"هل سأعود يوما الى الضفة الجنوبية...؟"ص11
ما كان لرعب ظلام القهر الذي اكتسح المدينة، وسكن تجاويف قلوب وعقول الناس، وتحكم في زمام مساراتهم محددا مصائرهم الوجودية، عبر ممرات جحيم حياة نازفة باستمرار أُمّا عن جدة، ما كان له أن يعرف ليلة الفلق الواعدة بانبثاق أصوات وحي الكلام الجميل الساحر الخلاب، المفجر لشلال الحكي المتدفق عبر منعطفات رهيبة تشد الأنفاس والقلوب، وهي تحترق بشظايا ما تقذف به مِحْرقة نساء في ممرات النزيف.. وما كان لضوء الحكي أن ينبلج في وجه عتمة القهر هذه، إلا على لسان امرأة عانقت جغرافية الحرية بكل أريجها الجذاب، الذي يبعث الكرامة الإنسانية، وهي رميم رماد خلفه جحيم الضفة الجنوبية.
من هناك يشتعل السرد ونتعرف على مآسي مرعبة ومروعة لمجموعة من النساء، هنا، عشن تجارب حياتية رهيبة بنوع من التوارث الاجتماعي الثقافي الآسن، القريب الى سيرورة القدر المحتوم أُمّا عن جدة.
واقع تضافرت فيه كل جذور القهر السياسي والاجتماعي والثقافي والديني، لتنتج جحيم الإرهاب النفسي والجنسي والعاطفي والاجتماعي السياسي. هكذا تضعنا شهدة شهيد في كواليس آليات اشتغال سلطة القهر السياسي الاجتماعي، وهي تولد في سيرورة اشتغالها ظواهر ومفارقات ومآسي مجتمعية، شبيهة بمنطق وظروف وملابسات أجواء الحروب التي يجد الناس في ظلها أنفسهم مجبرين على ترك منازلهم، وفقدان أعز الناس إليهم، وليس أمامهم خيارات نابعة من الشرط الذاتي، بل يساقون كما يشتهي أمراء الحرب بالوكالة.
وغالبا ما تدفع النساء والأطفال الثمن الغالي دون أن يدركن خلفيات صناع الخراب والموت والتهجير القسري"كان العالم أمامي في أقسى فظاعاته، وحيدة بلا أب، بلا أم، بلا مأوى، بلا عنوان. حاولت استبطان أعماقي للعثور على نقطة تقودني إلي، لعلي أجد إشارة واحدة تدلني على هدف ما، وجوه ما. للحظات لم أتذكر اسم بابا عندما وقفت دورية شرطة، وسألوني من أكون. لم يكن معي أدنى وثيقة رسمية تثبت هويتي. عندما رمت القوات العمومية أغراضنا في الشارع، رمت كل شيء: بزطام الجيب الجلدي الذي كنت أضع فيه بطاقتي المدرسية وكارت الباص السنوي، وبعض صوري وبطائق أخرى تحمل عناوين وهواتف أصدقاء ومقربين ومعارف."10
الرواية توقظنا من غفلتنا، أو سباتنا العميق على أن للحرب وجوها مختلفة، قد يكون أحدها، وهو ليس أقل شراسة وتوحشا، ما تعرضه الرواية علينا من جحيم مسعور، تكتوي وتحترق وتتعذب بألسنة نيرانه الصاعقة مجموعة من النساء.
فعلى طاولة قمار بكازينو القراصنة خسرت شهدة منزلها وأمها، بعد أن طالهما رهان الربح والخسارة. فقد سِيق الأب بمنطق سطوة عدوى فساد القهر السياسي، ولوثة الذكورة الأبوية المتجذرة في نزعة الهيمنة والتملك، الى توقيع عقد التنازل عن البيت وجسد زوجته، مقابل تسديد خسارته، أو هزيمته على طاولة القمار. "كل ما أعرفه هو أنه كان لي أب جاء بي الى الحياة، ولم يقدم لي سوى صمت مريب كانت تنهشه سوسة القمار التي انتهت الى طردنا من منزلنا بعد أن وقع بابا صك تفويته لسداد ديونه في بارتيات قمار"34 فوجدت شهدة نفسها في عراء الشارع وحيدة، كما لو أن قذيفة اعتباطية مزقت شمل الأسرة الصغيرة.
وما بدا لها في البداية قدرا رائعا، وهي تحظى بعطف مفتش الشرطة (عثمان الشادلي)، وحنان أبوي من طرف صاحب الدار الكبيرة (الحاج سعيد) المفتوحة في وجه فتيات تحالفت ضدهن مجموعة من الظروف والأسباب الشديدة التعقيد على وعيهن البسيط في جحيم مجتمع يتفكك وينهار باستمرار في قيمه وأطره الاجتماعية والثقافية التقليدية، التي كان يجد فيها الفرد الضائع مأوى وملاذا. سرعان ما تدرك شهدة مع الزمن، وهي تعبر ممرات النزيف، منطق وآليات اشتغال منظومة الفساد الممعنة في إفساد من لم يفسد بعد.
هذا يعني أن اللص الذي سطا على المنزل، والخنجر القاتل الذي استباحة كرامة أمها، واغتصاب جسدها باسم القانون، وسطوة مكارم الأخلاق الرفيعة لمجتمع يمارس هدره الذاتي في المراقبة والعقاب.. هذا الخنجر الذي جعل أسرتها مزقا مرمية على قارعة الطريق، كان مخبأ تحت رداء عطف المفتش عثمان الشادلي الذي وضع يده الدنيئة المغتصبة على جسد مليكة مسلوب أم شهدة، وداخل جبة الحنان الأبوي للحاج سعيد صاحب الدار الكبيرة، الذي تملك المنزل بضربة خنجر حظ مغشوش غادر من الخلف. في بارتية قمار كان فيها للغش والتزوير والمؤامرة وقع رصاصة الإعدام.
تحت وقع صدمة الحقيقة المرعبة في التدمير الوحشي للبيت والأسرة، أدركت شهدة أي عالم فظيع ينتظر خطواتها في العبور على جسدها الهش، على شكل أصوات في ممرات النزيف، أصوات آلام جراحات السرد العاري.
على امتداد صفحات الرواية نتعرف على المؤامرة القذرة التي تعرضها لها الأب، من طرف شلة القمار الذين يحسبون أنفسهم من "الكبار"، وهم يختبئون وراء الشهامة والأناقة والحكمة والنبل الأصيل مع ادعاء أنهم تخطوا في سعيهم الجنوني المزعوم سقف الاخلاق ومنطق الخسارة والربح.
هكذا انكشفت، وتعرت عناصر الجريمة، الأقرب الى حالة حرب تخاض بصمت خفي داخل بنى التركيب المجتمعي مستهدفة أمان وأمن الناس العزل الأبرياء، كما لو كانوا فئرانا بشرية في مختبر منظومة فساد القوى الأمنية، أو اعتبار فعلهم الشنيع الوحشي مجرد أخطاء تغسلها مياه زمزم،وتطويها في قعر النسيان رحلة الصفا والمروة، والطواف السبع، المتبوع برمي الجمرات بعد أن تركوا الأبرياء العزل على ألسنة الجحيم تبدل جلودهم كلما احترقت ونضجت ليتواصل عذابهم الأليم.
هكذا انقلب الحاج سعيد من يد تذبح الى يد تسبح، وفم يلهج كل مساء بعواء الذئب الحافر في أعماقه قذارة الفعل الشنيع في تخريب الأسر، وتفكيك هوية الأفراد، خدمة لسطوة القانون القهري.
في الدار الكبيرة ستلتقي شهدة بكل من فايزة وفوزية وفريدة، كما ستتعرف في كازينو القراصنة على فاديا.
ولكل واحدة منهن جحيم لا تكف ألسنة لهيبه الحارقة الموجعة عن التهام جوفهن العميق الممتد في المحنة والحكرة والمهانة والقهر والاغتصاب باسم السلالة والشرف الرفيع، والهيبة والمكانة الجليلة، وبؤس الحياة في أحياء شعبية (عين البومة) و(باب الشعلة) (سانية الشامي) غارقة في الذل والمهانة والحكرة، في شروط ما دون خط الكرامة البشرية، أُمّا عن جدة.
هكذا تنفتح الرواية على أصواتهن مفسحة المجال، وموسعة الفضاء الرحب، لما تشكل في الأعماق من ممرات النزيف التي ولدتها محن وآلام وعذابات التوارث الآسن للعزل والاقصاء والاحتقار، والاغتصاب والنبذ والنسيان.
فكل واحدة تحمل إرثا ثقيلا من الرعب المأساوي في النبذ (لالة صافية)، والنسيان والهجر والاغتصاب، في نوع من التكرار القهري للتجارب المريرة المؤلمة التي مست نيرانها المسمومة الحارقة الجدات والأمهات والحفيدات.
فخلف كل حكاية لكل واحدة منهن تدق الرواية أجراس الأبواب المحظور للحكي، منتهكة الموات الأبدي لصمتهن المألوف، دون خوف هؤلاء النساء من حرج نشر الغسيل القذر لمجتمع أجمعت سلطته ونظامه الأبوي الذكوري على اضطهاد النساء، بمختلف أشكال العنف والاستغلال والتملك والقهر الصريح والمضمر.
وخلف كل فتاة كم هائل من الآلام والعذاب الرهيب أُمّا عن جدة. حيث وضعية النساء تعرف نوعا من العود الأبدي لما عاشته الجدة والأم من إهمال واغتصاب ونسيان ونبذ، وانعدام القيمة والكرامة الإنسانية في وجود اجتماعي مشروط بالذل والمهانة والقهر والاحتقار، وبمختلف ألوان الهدر التي تحدث عنها مصطفى حجازي في كتابه القيم "الإنسان المهدور".
الرواية تعري وتنزع حجاب القمع والصمت عن تراث مرعب ومؤلم لم تقو المجتمعات العربية والاسلامية على الاعتراف به، وتنصيب جلسات الاستماع للنساء، أي للحقيقة التي ظلت حبيسة الكتمان في دهاليز وسراديب أقبية القهر والاضطهاد. في أصوات حكايات هؤلاء النساء نوع من الاعتراف والتقدير اللامشروط بأحقية النساء في التعبير عن آلامهن ومعاناتهن عبر ممرات النزيف التي شكلت وجودهن الاجتماعي والانساني.
وبالتالي الانصات الى الحقيقة المؤلمة التي نتستر عليها بضغط من القهر السياسي، وخوفا من مزاعم مكارم الاخلاق الزائفة في حماية وصيانة الشرف الرفيع، بين فخدي امرأة لا تملك ذاتا إنسانية مستقلة، مقهورة مسلوبة الحرية والإرادة والاختيار، متروكة لصدف الأيام تبعا لمنطق سلطة الذكورة الاجتماعية والسياسية والثقافية في صناعة مصير النساء، بين الرغبة الفحولية، والهجر القريب من النبذ والنسيان، أو مجرد ورقة رهان (مليكة مسلوب) (فرح زوجة المحلل النفسي هشام معتوق) على طاولة قمار، وقع فيها موظف البلدية، لمفتش شرطة تحايل على القانون باسم حماية الاخلاق، عقد تنازله عن زوجته، أم شهدة، التي أرعبتها الرقابة المجتمعية لمكارم الاخلاق الكاذبة، فعاشت حياة الاغتصاب خوفا من تهمة كلام الناس: البغاء والدعارة. كما حلل، من الحلال، المحلل النفسي زوجته لصاحب الدار الكبيرة، في مساومة قمار، لكن زوجته اختارت الانتحار بدل السقوط في مستنقع كازينو القراصنة.
3-متعة السرد في عذابات آلام الحكايات
" ملامحك كانت ملامح طفلة كبرت قبل الأوان، وهذا لا يعني سوى أنك تنتمين الى نفس العالم الذي جئت منه: الألم. وأنك تمتلكين نفس اللغة الموصلة للألم: النظرة."356
لا يمكنك كقارئ أن تتورط في سردية نص روائي، وتجد نفسك جزءا عضويا في بنائه الفني والجمالي، ومعنيا بشكل أو بآخر بعوالمه وفضاءاته، وبالأفكار والرؤى، والخصائص المعنوية والفكرية والدلالية، من موقع الاختلاف كمسافة نقدية، وليس من زاوية نظر محكومة بالتماهي، إلا إذا تمكنت الرواية من تملك أدواتها وآليات اشتغالها ككتابة أدبية.
فمتعة الخطاب السردي في رواية" أصوات في ممرات النزيف" تحفز القارئ على التفاعل الخلاق الذي لا يكتفي بالحزن والقلق والتعاطف العابر إزاء ما يشهده من قهر، ويشهد ضده، سواء كان رجلا أو امرأة، إذ يكتشف تورطه في ديناميات وجوده واستمراره كقهر وجودي طال النساء عبر التاريخ أما عن جدة.
وفقا لسيرورة هذا التفاعل الجمالي الذي وفرت الرواية أسسه الفنية، حيث تتناسل الأسئلة، وتتسع الرؤية لرؤية الوجوه المنسية، التي لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام والتفكير والفعل الاجتماعي على مستوى المرأة كمسألة أساسية في أي تغيير ذاتي وجماعي ومجتمعي وعلى المستوى الاجتماعي الثقافي الديني، كتصورات وقيم ومعتقدات، وقواعد أخلاقية، وعلاقات اجتماعية، بعيدة ومناقضة لحياة صحية ونفسية واجتماعية وثقافية.
يمكن للوعي بهذه الاسئلة أن ينتج تحولات مجتمعية أكثر إنسانية في قيمها الثقافية والاجتماعية والسياسية.
تؤسس الرواية أبعادها الفنية والجمالية انطلاقا من الواقع الاجتماعي التاريخي لسيرورة البؤس والظلم والقهر للمرأة. وما نتج عن ذلك من كوارث ومآسي في حق النساء وما خلفه كل هذا، على مستوى رؤيتهن للحياة، ونمط تفكيرهن الوجودي، من تصورات و معتقدات خرافية وغيبية (سوار الموت الفضي)، و من آلام وعذابات، لا حد لها في التناسل والتوارث من أُمّ لجدة.
تتكئ الرواية في تشكلها الفني على عذابات آلام مجموعة من النساء من الجدات وصولا الى الحفيدات ومرورا بالأمهات: صبحية، زبيدة، شهدة، فوزية، فايزة، فريدة، فاتن، فايدة، فرح أم فاديا، وفرح زوجة هشام معتوق التي انتحرت عندما قرأت ورقة تنازل زوجها عن جسد زوجته، في بارتية قمار، فاتن التي وجدت نفسها مورطة في حمل غير شرعي، شميعة، الزاهية، لالة صافية...
تنفتح الرواية تبعا لتعدد في التعبير الفني، أملته الحاجة الموضوعية في متخيل الكتابة الأدبية لتمثيل وتشخيص تركيب الواقع في تعقد علائقه وديناميات سيرورته الاجتماعية على أصوات حكايات نساء تعرضن لأنواع مختلفة من الظلم والقهر والعذابات النابعة من بؤس الحياة في أحياء شعبية هامشية بئيسة ترزح تحت وطأة استبداد سياسي، وتحكم ذكوري أبوي، واضطهاد ثقافي اجتماعي.
تحقق الرواية بذلك بناء فنيا لما يصطلح عليه بالرواية الحوارية (الديالوجية).
من ممرات النزيف هذه، كمتن حكائي، ينهض الخطاب الروائي كأصوات متعددة لحكايات القهر والاضطهاد والنفي والنسيان (زوجة الريفي مثلا) (لالة صافية) " لا مكان لك هنا، أنت تسببت في موت ابنتي، اخرجي، أنت طالق... عندها تهت في الشوارع، تناهى الى مسامعي ما كانت تردده نساء الحي: كيف لم تنتبه الى غاز الحمام...؟ هل توجد أم يستغرقها النوم الى هذا الحد؟ يعلم الله ما الذي خدر وعيها وحواسها... زمان ماسخ." 373. كما يتأسس هذا الخطاب على تيمة العنف المتفاوت الحدة والشدة النفسية والجسدية والوجودية(من الاغتصاب الى رهان المقامرة).
حيث يجد القارئ نفسه أمام الوجوه المختلفة لكل ما يمكن أن تتعرض له المرأة من قهر واقصاء وهجر ونبذ وتفويت لملكية الجسد في اختزال رهيب لذات المرأة ككيان إنساني حر ومستقل.
يتم هذا من خلال حكايات نساء. تصوغ- الحكاية- عذابات آلامهن بلغة شعرية جميلة، تجذب القارئ، وتخلق لديه نوعا من المتعة السردية القريبة من الأمل النابع من اليأس، أو الأخضر المتولد من أحشاء التعفن العطن.
هكذا هي أصوات النساء في هذه الحكايات التي تتضافر وتتقاطع في مصائرها المرعبة في صورة معبرة عن التضامن النسوي لمواجهة القهر والمأساة وتعرية فضيحة مثلث الموت: الاستبداد، والذكورة، والفساد الاجتماعي الثقافي والقيمي الأخلاقي، ليس بالمعنى الديني المحدود السقف الإنساني.
4-في مِحْرقة مثلث الموت: الاستبداد والذكورة والفساد
لم تكن رواية "أصوات في ممرات النزيف" تملك خيارا آخر في صنعة الكتابة الروائية غير تعدد الأصوات كرواية حوارية لأن محرقة النساء في مثلث الموت: الاستبداد والذكورة والفساد، ماكان ممكنا كشف جذورها التاريخية التي تتلبس قوانين الطبيعي، والمقنعة اجتماعيا وثقافيا، إلا من خلال هذا التعدد الصوتي الذي انفتحت فيه الأبواب المحظورة لحكايات عذابات آلام عاشتها النساء عبر تاريخ طويل من القهر والإهمال والاضطهاد، والاغتصاب والهجر والنسيان.
لهذا تناسلت وتشعبت الحكايات من الحفيدات الى الجدات مرورا بالأمهات، فجميعهن حرمن من شراكة عاطفية وجنسية ووجودية كأسلوب حياة، ونمط تفكير وعيش علائقي وجودي، فقد كانت الثقافة الذكورية شرسة وهمجية في علاقتها بالمرأة.
بناء على أصوات هؤلاء النساء استطاعت الرواية أن تقدم تشريحا لأصول القهر والاضطهاد والفساد، التي يمثل فيها الاستبداد قاعدة المثلث في معاودة إنتاج السيطرة والقهر والتسلط. ليس في حق النساء فقط، بل طال المجتمع والبلد في صحتهما ومناعتها الداخلية والخارجية.
فكما كان الجهاز الأمني وراء بشاعة وجود كازينو القراصنة، لنشر ثقافة المحظوظ /المنحوس، المرضي /المسخوط، الربح /الخسارة، عين البومة، وباب الشعلة، وسانية الشامي/ والأحياء الراقية...، فذلك لتكريس المراتب الاجتماعية السائدة والمواقع الطبقية، واخفاء البنى الريعية للثراء غير المشروع. وجر الى مستنقع كازينو القراصنة المثقفين والمناضلين واليائسين والممسوسين بوهم أمل الارتقاء الاجتماعي بضربة حظ تخسف البيت والزوجة، مع حضور عملاء البوليس السياسي. بالإضافة الى تشويه العلاقات الاجتماعية والإنتاجية الى حد تفكيك بنى المجتمع، والروابط والقيم الأسرية، بالاعتماد على كل ما يمكن أن يساعد على هذا التكريس، لتأبيد البنيات الاجتماعية والثقافية القهرية الظالمة.
فحضور الرجل في الرواية من أولها الى آخرها لم يكن يمثل بصيص أمل مفقود، أو بقعة ضوء في جنح الظلام الشديد السواد الممزوج بالقلق والحزن والإرهاب. بل كان حاضرا كنظام أبوي بنزعته الذكورية القائمة على الفحولة والرجولة والقوة والعنف والقتل والاغتصاب، والضغينة والكراهية، وعبادة الشرف الرفيع المندس بحكمة الشيطان، كشر محتوم بين فخدي امرأة، مقهورة، مسلوبة، مغتصبة، مغلوبة على أمرها، ومعرضة في أي لحظة للانتهاك والغدر والاغتصاب."أنا سليلة مغتصب ما وحفيدة مغتصب سكير، وابنة أم كان حظها أنها ركبت سيارة رجل مجهول، أقلها من البار الى شاطئ ضائع على تخوم الساحل الأطلسي بين الرباط وتمارة، وحفيدة لالة صبيحة التي ماتت دون أن تنجح في ستر فضيحتها التي لم تكن مسؤولة عنها."363
هكذا هي المرأة في مجتمعنا متهمة، ولا يمكن أن تثبت براءتها، بل ترغم بالإكراه على الزواج من مغتصبها من طرف الأسرة، التي تخشى فضحية الرقابة الاجتماعية الأخلاقية، للنظام الأبوي، دون أن تذرف العائلة دمعة على الكرامة المهدورة للفتاة.
لهذا يكرس الاستبداد ثقافة وعقلية الذكورة، خوفا من نشوء وتكون وتطور التواصل الإنساني، والتفاعل الخلاق المنمي للرجل والمرأة معا، بعيدا عن سطوة مكارم الأخلاق القهرية والظالمة لإنسانية المرأة والمجتمع.، في أفق مجتمع آخر بديل يضمن كرامة النساء والرجال معا.
لذا كان حضور الرجل في الرواية كذات ممسوخة مزورة تجربتها الحياتية والوجودية (سعيد الحارثي، الحاج سعيد بوهلال، المغامر...) بتأثير من سلطة القهر السياسي في قمع الطاقات الفاعلة والنشيطة بين صفوف الطلاب، وكل القوى العاملة.
فاختزلت الذكورة الرجل في بعده الحيواني، خارج دائرة الكينونة الإنسانية، في الشعور والاعتراف بالإثم والذنب والخطأ، وفي الحاجة والرغبة في المرأة كذات حرة فاعلة ومستقلة في البناء والنماء للفرد والمجتمع. لا شيء في الرواية من هذا الحلم الأقرب الى السراب الذي يجعل المقهور يتجاوز الواقع بالخيال المرضي.
هكذا كانت مصائر النساء مفجعة ومؤلمة "ماما عادت لتموت بائسة في حي الشعلة مثل أي حيوان لا تطاله العناية الإلهية... رأيتها متشردة على باب ضريح سيدي عبد الله بن حساين. هي لم تنظر إلي، لم تعرفني، عندما قرفصت قربها، وهمست في أذنها: أنا فاديا، ماما فرح، أنا ابنتك." 377 .
والمصير المؤلم والمأساوي عاشته أغلب نساء الرواية من الجدات إلى الحفيدات في ظل الثقافة الذكورية التي وجدت في القهر الاستبدادي بأساليبه الجهنمية، في" إفساد من لم يفسد بعد ليصبح الجميع مُدانين تحت الطلب"، سندا ودعما في تكريس المحرقة الرهيبة في حق النساء، مما انعكس سلبا على الأفراد والمجتمع ككل. فيدفع الرجل من حيث لا يدري عبء الذكورة المثقل بالاستبداد وكل أنماط القهر وانعدام الكرامة البشرية.

يتبع....
عبد الحميد شوقي أصوات في ممرات النزيف ط1س2012



لحسن أوزين-46085

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى