مؤمن سمير - الإقامة فوق البساط السحري..قراءة في ديوان "أصابع مقضومة في حقيبة" لديمة محمود

تعد الشاعرة المصرية ديمة صوتاً مهماً وصاحب خطٍ شعريٍ مميز ضمن شعراء الجيل الجديد الذي ظهرت شعريته بعد جيل التسعينات، ذلك الجيل الذي رسخت تجاربه لوجود قصيدة النثر في الشعرية المصرية، استكمالاً وتعضيداً ومجاورةً، لتوجه وإبداع وإنجاز الموجتين الشعريتين الحداثيتين السابقتين عليه تاريخياً، جيل السبعينات وجيل الثمانينات.. لقد ظهرت تيارات شعرية شابة بعد جيل التسعينات متواشجة مع ثورة مواقع الاتصال، تسعى لأن تستفيد من الأساس الذي سبق وضعه و الحفر عليه من الأجيال الأسبق والمنجزات الفنية والأطر الجمالية المتحققة ومن ثمَّ تنطلق لحيِّزٍ أبعد وأعمق، قوامه البناء فوق مدارج القيم التي ناضلت التجارب الشعرية الأسبق لترسيخها، مثل الحرية الكاملة في المعنى والمبنى، واستبدال اللاهوت الشعري والتهويم في المطلق، بالإنسان وقضاياه وخصوصيته وتفاصيله باعتباره هو القضية الكبرى ثم النظر المتعمق في وضعية هذا الإنسان المعاصرة وملابسات وعيه وكيفية استقباله للوجود وأبعاد كينونته الحالية، وفي التخفف من المجاز الثقيل الذي ينطلق من مفهوم أن اللعب اللغوي الشكلي هو المنبع والمصب، وكذا التحرر من الرومانسية البسيطة لحساب إخراج المشاعر الإنسانية وتفكيكها وإعادة صياغتها بالتساؤل والمحاورة للكشف عن حقيقة وصيغ تموضعها في خريطة العلاقات الإنسانية المعاصرة.. ولدت الشاعرة ديمة محمود في عام 1972 واستقرت لفترة في إحدى الدول العربية الشقيقة ثم بدأت المساهمة في الحراك الشعري المصري الجديد بنشر قصائد متفرقة ثم نشرت ديوانها الأول "ضفائر روح- دار الأدهم. مصر" في عام2015 بعد ذلك أعقبته في العام 2017 بديوان "أشاكس الأفق بكمنجة- دار شرقيات. مصر" إلى أن نشرت ديوانها الثالث "أصابع مقضومة في حقيبة-دار الأدهم. مصر" في عام 2021 و الشاعرة في الدواوين الثلاثة تُصدِّر شعريةً تطمح فنياً لأن تخلق من الأنثى مركزاً للعالم حيث تعيد صياغته وتشكيله مرة أخرى بطريقة أكثر عدلاً وإنسانية ورحمة، هذه الشعرية تحدد عبورها من الذات إلى العالم وعودتها إليه بعد أن صار على مقاسها هي، عن طريق بصيرة رومانسية تلوذ بالخيال لتجعل منه مادتها الخام الذي عن طريقه تنتقي وتنظر ثم تعيد النظر وبعدها تخلق وتنفخ الروح فيما خلقته.. تبدأ الشاعرة ديوانها "أصابع مقضومة في حقيبة" بإعلان شعري يحدد منهجها ورسالتها وطريقها وطريقتها فتقول: "هذا حجرٌ في طريق العثرة/ترتطم به امرأة تركل المسافة/تسحب سقف العالم في حجرها/لا تكترث سوى/للسناجب تُعِدُّ مؤونة الشتاء" حيث نلتقي هنا بالبطل المهيمن الذي هو امرأة، لا تَعتدُّ كثيراً بالالتقاء المباشر مع العالم بل تستبدله بسحب هذا العالم إليها ومراقبته على مهل ومن ثَمَّ إعادة تفكيكه ثم صياغته من جديد عن طريق رفده بالخيال الجامح الذي ينتقل بحرية بين الزمان والمكان والأساطير والحكايات والشِعر: "للمرة التسعين بعد الألف/تمشط شعرها في اليوم ثلاثاً وثلاثين مرة/كل مرة بقصيدة/ وترقص حتى يذوي الليل لما يجن التعب/ أو تعود ذات الرداء الأحمر" إنها امرأة تقاوم حاجتها للبشر باستدعاء أجمل ما فيهم وتنتصر على الوحدة بالفن الذي يحول المكان الموحش إلى جنات.. وبعد هذا الإعلان أو اللافتة المطولة التي تحدد فيها الشعرية آليات عملها، تبدأ في القصيدة الأولى" قداس الماء" وفي الجملة الشعرية الأولى منها "بينما لا أزال في سريري رأيتني في وسط النيل بالضبط"- الأخذ بأيدينا نحو التخييل وغمسنا فيه حتى نستوعبه بديلاً كاملاً عن هذا العالم.. إنها ترسم كونها في صفحاتها، في قصيدتها بالذات: "تداعبني بلاغة الصفحة البيضاء.." ثم يزداد يقين القدرة الأنثوية التي تستعيد عنفوانها المتجدد على الدوام، يقينها في إرادتها الحرة التي سترى دوماً ما تريد: "كانت السماء قريبة والله/قريبة بما يكفي لأدسَّ وراء زرقتها أسماء عشاقي/ القدامى" ليتم اكتمال رؤيتها الأنثوية الخاصة، فبعد أن تمت إزاحة الكون خارج البيت، كانت عملية استعادته، بعد إعادة صياغته، تتم عن طريق الفن و الشِعر بالذات، حتى ظهر أن الكون في حقيقته، وأن الفن في سره الأسمى هو الحبيب والحبيب فقط.. ليصير الكون كله رجل وامرأة، حران في الزمن، تحملهما الأساطير وتحلق ويخترقان الزمان والمكان بإرادة عشقهما الموار، وأجنحتهما النشطة دوماً، الذين هم وسائل هذا الخيال الذي لا تحد قدرته قدرة: "تعالَ فمن الجائز أن نُعتَق من خراب العالم تلك/ المرة/كجناحيْن فتيين ولا يعوزنا فضاء" إذ أن فضاءنا وكوننا -والأمر هكذا- هو نحن ونحن فقط.. وتستمر بنا الحكاية حتى تزداد قوتنا وتتمدد قدراتنا فنكشف الآلهة وزيفها ونستبدلهم، بنا نحن، بجبروت عشقنا الأبدي، فنتحول من بشرٍ إلى آلهة، نتنفس عظَمةً وحكمةً ويشرق الضياء من رفة عيوننا: "أجثو في كنف "رع" بينا يلفني بذراعيه منفلتاً من/عرشه السماوي/أغمض عينيّ وأرفع رأسي نحو وردته اللاهبة/ فتشهق الحكمة لاهجةً من آبار المسام/ها هي ذي الألوهية الحقة" ونصعد عندها لحلقة أخرى من حلقات الاندماج، عندما تتماهى الألوهية مع لحظة التوحد الحسي الشفيف حيناً والعنيف حيناً، فتشرق الألوهة عند لحظة انتفاء الأين و المتى والكيف، فقط لحظة لا تتمكن اللغة من الإحاطة بها، يتوحد فيها الكائن مع الكينونة: "يمتطيني ربٌّ فأكون ربَّته/ والفرائسُ ترتعُ لن أقول لها تعالى/ لكنني آتي وآتي حتى ترفل قطع السماوات في هيئة/لؤلؤ" وكأن الربوبية الحقة لا تظهر إلا عند التوحد الكامل وكنتيجة مباشرة له.. لكنَّ هذا الواقع السحري، هذا الكون الجديد الذي صنعته الأنثى وصاغته من النور والنار، من الجائز أن يقع تحت نير نفس القوانين الفانية التي حاول استبدالها بأخرى خالدة لا تشيخ أبداً، ربما بفعل الملل أو الاعتياد على السعادة المجنونة والاحتفاظ بمذاقها نفسه في الحلق والروح لفترة طويلة، وربما من غرور السعادة كقيمة نالت مأربها من الوجود فتراجعت قدراتها على مقامة الضد، وهكذا لا يتبق إلا استحضار الموت، الذي هو قاصم الأبدية وكاشف كونها نسبية وليست مطلقة وما توهج أبدية اللحظات إلا الأمنية الكبرى التي ترفل في ماء التوهم الرقراق: "كالموتِ تماماً هو الفرح/ وحيد وعار ويتيم، للغاية/ قناص هارب/ساعاتي غشيم/نجار بلا باب" بعد ذلك لا مناص من مراجعة الذات ومساءلة المرايا و أشباحها عن سبب تسرب الأحزان من كوةٍ لم تكن مُعَدَّة إلا للفرح وجنوح الأحلام حتى الثمالة: "هل كانت ذاكرتها أكبر من العالم/ فخزنت أحزانها أكثر مما ينبغي".. إن الذاكرة ليست فقط وعاءً يجمع حوادثنا البسيطة الفانية، وإنما كرة أرضية كاملة، حيث ذاكرة الآلهة تختلف حتماً، هي الحاويةُ للمصائر والحيوات والواقع و التوهمات، هي الأم لكل رقصةٍ من قلبٍ وكل نقطة من بحرٍ.. وبما أن الأحزان قيمة لصيقة بصيرورة الإنسان ومفككة دائمة ومستمرة لأوهام سعادته، كان الطبيعي أن تترى الأحزان وتلون المشاهد كلها حتى في أوج عنفوانها، وكأنها هي الحقيقة وما سواها محض ضلالات أو أمنيات مكتوب على استمرارها الحي الفناء. تنتمي لغة هذا الديوان لبلاغة تزاوج بين ألفاظ وجمل مألوفة في التراث وأخرى أقرب لنا وللمعاصرة.. حيث لا تلقي الشاعرة بالاً لأي وصفة جاهزة تحدد للمبدع كتالوجاً لا يحيد عنه وكأن ذلك هو صك العبور إلى الانتماء لهذا المعسكر أو ذاك.. و إن كانت لغة الشعر في ديواننا هذا قد تتطرف في أحيانٍ لدرجة بناء جمل لا يمكن صياغتها إلا تحت وعيٍ قديم يؤمن بالمجاز وألعابه كمطلق وباللغة وغريبها باعتبارهما غاية الإدهاش ومناطه ولعبته الأثيرة والواجبة، وقد أدى هذا إلى جر النص أحياناً إلى كسر سياقه الجمالي والدلوف بالتالي إلى حارات من الغموض تشوش وتؤذي ترابط النص وخيطه العام، حيث تعلو الصور الشعرية الجافة والمصنوعة على الشعر الخالص الذي من لحم ودم، فتكون التجربة الشعرية المنتَجة في حالة أقرب للتعالي على حال الشعر مما قد يصنع اغتراباً وتباعداً وانفصالاً حيث تكتسب هذه الجملة الشعرية طاقة جمالية تكون في حد ذاتها موفقة إذا اقتطعناها من سياقها الجمالي لكنها وهي جزء منه لا تكون إلا عبئاً على التجربة الشعرية.. لقد نجحت الشاعرة ديمة محمود في ديوانها الثالث "أصابع مقضومة في حقيبة" في الانطلاق أبعد كثيراً من تجربتيها السابقتين وامتلاك لغة ورؤية أكثر طموحاً ونضجاً حيث تمكنت من الوصول لانتاج تجربة كاملة ومترابطة عبر الحالة الكلية للعمل، حيث تنافح عن الخيال باعتباره يقيناً مكتملاً في مقابل الواقع الذي غالباً ما يعتوره النقص والجفاف والتناقضات، وكأنها تبدِّل الهاوية التي تودينا إليها حياتنا المادية وترفع بصيرتها برافعة قوية وهائلة ومدهشة من الخيال.. هذا الخيال مرنٌ لدرجة أن يتحول مرةً لكوْنٍ كامل ومرةً أخرى يمكن اختصاره في حبيب، من الرائع اكتناز الماضي والحاضر والحياة وتفاصيلها في أعطافه ولفتاته السحرية.. يبقى الخيال إذن بساطاً سحرياً يعطي الإنسان قدراتٍ ظل طول تاريخه يحلم بها ويبقى في نفس الآن، هروباً مشروعاً من واقعٍ من العسير تحمله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى