عندما يضاء المسرح لا نجد إلا ديكوراً بسيطاً: كراسي ليست عالية، والمعنى أن من سيجلس عليها قريب أو صديق، سيحكي (معنا)، وليس متعالياً بعلمه يعلمنا مالا نعلم وبالتالي يحكي (لنا)، إنه يجلس في هذه الوَنَسَة، ليذكرنا وينشط أرواحنا ويجلو صدأها.. وعلى الجانب أعمدة أو أبواب عليها نقوش إسلامية رقيقة وكأنهم حراس الحالة التي يفوح بها المنظر أو طريق الولوج إليها.. في المبتدأ تدخل الموسيقى لتقوم بتهيئتك للجو الروحاني أو الصوفي ثم يدخل المطرب وراقص المولوية.. الأغنية الأولى هنا لابد وأن تكون في مدح الرسول وجماله الصافي، مصدر الإلهام وباعث النور وأساس الولاية.. ثم يدخل الممثلون/الرواة/الأصدقاء/الحكاؤون ويجلسون و يشرعون في الحكي و كأنهم يستأنفون المديح النبوي حيث يجاوبهم المطرب أو تتجاوب الأنغام مع حكيهم.. الحكي الأول يتناول قصة مولانا العظيم، أبو الحسن الشاذلي الذي تتلمذ عند نشأته على الإمام عبد السلام بن مشيش في المغرب، ساكن "وادي حميثرة"، قطب الصعيد، وحارس جبالها.. و لا يظهر الحكي في نَص الحكاية سرداً أو كلاماً شعبياً وإنما هو حكي شعري صاف، يتواشج معه الغناء والموسيقى و رقص المولوية حيث يدور الراقص و يدور مع الموسيقى ببطء ثم يزيد سرعته رويداً رويداً متعانقاً مع الغناء لتملأ الآفاق كلها حالة التجلي بعد أن يردد الجميع كلمة "الله" وجملة "أنا شاذلي".. ثم ببساطة وانسيابية دالة ومعبرة ننتقل لحكاية الولي الثاني مولانا السيد البدوي وهنا يمارس أحد الممثلين الرواة العزف على العود و الموسيقى في الخلفية وتكتمل حكاية البدوي في العراق مع فاطمة بنت بري، بالعزف وحده، حيث يصفق الجمهور بعد جملة "ودي الحكاية" لنرى النغمات وقد تلبسها النور فحكت وملأت العين والبصيرة ثم يعاود الممثل حكيه وتفاعله الحي حيث يسأل الجمهور ما هي "طنتدا" ليردوا ويقولوا "طنطا" وكالعادة يدور راقص المولوية متجاوباً وهو يضع يديه على قلبه ثم يرفع يديه للسماء في حالة من التماهي التام مع كلمات وأداء الأغاني ..أما الحكاية الثالثة فهي حكاية سيدي إسماعيل الإمبابي.. ونتابع مع الممثلين الذين يشخِّصون ويقومون بالتمثيل بتعبيراتهم الحية رغم جلوسهم طول العرض، لتدخل الربة إيزيس ببساطة في قصة مولانا الإمبابي، أبو السباع، فيتسع معنا المفهوم المقصود بالتصوف والولاية ليجوس في الزمان والمكان والتاريخ الذي بهذا، هو كائنٌ حيٌّ لا يفنى، خاصة مع الغناء الذي يبهجنا وهو يذكرنا بأن فيضان النيل هو دموع إيزيس، وهذا بالضبط ما يعرف بحكاية "نقطة إيزيس" حيث فاضت دموع الربة الخالدة على أوزوريس ففاض النيل.. هذا الولي بالذات، و الذي كان يمشي وتحت كفيه سبعان، مربوط بالنيل وبالخير والبركة و بالأنوار على الدوام، فعندما يقول الحاكي "مدد يا بو السباع يا ساكن إمبابة.. افتحلنا البوابة"، نحس بالفعل برعشة استقبال فيضان النيل المبارك.. إن حكايات الأولياء الملضومة ببعضها كحكاية واحدة طويلة ومستمرة، تخبرنا بأن حبل الولاية له سرٌ واحدٌ وكبيرٌ وعظيم، خالدٌ ومستمر في فيضانه على الأرواح العطشى وفي روائه لأراضي الروح التي جففتها سفاسفُ الحياة.. والآن تهل علينا أو (من داخلنا، بمساعدة الحكي الصديق) حكاية السيدة نفيسة.. نفيسة العِلم.. و رحيلها من الحجاز لمصر بعد أن زارها النبي الكريم في المنام وأخبرها بأن أرض مُقامها هي مصر المحروسة.. ومع هذه البشارة تفيض أعين الحاكية دمعاً وشوقاً لنفيسة الدارين، فتتحول قصة مناشدات أهل مصر لها بكل صدق وتبتل، بعدم الرحيل، بعدما علموا أنها اشتاقت لمسجد جدها الرسول في المدينة: إلى حكاية تتخلق الآن وهنا، مع مناشدات جمهور العرض الذي يجد روحه معلقه مع التضرعات الحرَّى لحبيبة المصريين ومصدر بركة مصر، فيسلم زمام نفسه للحاكية، علَّ حبيبتنا جميعاً ترضى بالبقاء معنا لتنقذنا من التيه وراء الدنيا ووراء نفوسنا الغليظة.. وتصل الحكاية إلى مرضها الذي أحزن القلوب وأدماها ثم موتها، فيحدث استدعاء تلقائي في النص لبداية قصتنا وبداية العرض، فنعيش مرة أخرى مع مدح النبي العدنان عليه أفضل وأزكى وأنقى الصلوت و التسليمات وعلى آله الطيبين الطاهرين: إنهم جالبوا البركات والرحمات لبلادنا، ولا ينقطع نورهم وبهاهم طول الزمان.. ويقول المنشد "اقرا كتاب الله وتوه في أسراره" وتتجه عيوننا تلقائياً كالعادة إلى راقص المولوية الذي يقدم منذ بداية العرض معادلاً حركياً بديعاً لكلمات الأغاني، حيث نصعد مع كفوفه الممدودة للسماء مع الراكضين وراء النور.. إن هذا الشِعر المكتوب به العرض مثير جداً للانتباه، حيث نجح المؤلف في حكي الحكايات بطاقة سردية مترابطة رغم الشعرية العالية الطازجة الساخنة، لتتعانق في هذا العرض الحالة الشعرية الصافية مع حالة الحكي الشعبي مع الموسيقى مع الغناء مع الرقص، لنجد حالتنا المسرحية تموج بالحركة رغم ثبات معالم النص ومؤديي حالاته من الممثلين الذين تظن أن هذه الحكايات التي كالذهب والتي تنسال من أفواههم، تكتسب طاقة سحرية تسلب الأرواح وتجمعها في صرة كبيرة، تنفتح فجأة لتجد نفسها، ونحن معها، في قلب النور.. لن تجد في هذا العرض خطاً درامياً يسير ويتقدم ويتصاعد ولكنه عرضٌ يستعيض عن كل المكونات ويجردها من ثقلها المادي، ربما ليتماهى مع فلسفة الصوفية التي تلقي بكل ما يثقل الروح بعيداً، فنجد التمثيل متحقق بجلاء مع تلوين الممثلين لأصواتهم وحركاتهم وإيماءاتهم، ومع الدراما ذاتها التي تتكون منها وبها ومعها الحكايات، ونجد الحضرة الصوفية ونجد الغناء ونجد الرقص ونجد أنفسنا في القلب من حركة موَّارة لا تتوقف رغم الثبات الديكوري و الحركي الظاهر، وهذا بالضبط هو السحر واللعب والمكر الفني والجسارة.. ثم نواصل لنصل إلى أمير الشهداء مار جرجس، الشهير ب"سريع الندهة"، أي سريع الإغاثة والاستجابة لإنقاذ الأجساد و النفوس، ونمضي وسط دروب حكايته مع التنين الكبير/الشر/الشيطان الذي كان يلتهم فتيات وجميلات البلدة، حتى أنه لم تتبق معنا، الآن وهنا، إلا ابنة الملك، فنشهد الجميع وهو يلتم ويندهون من قلوبهم ويقولون "يا سريع الندهة"، فيتقدم البطل المبارك من الرب، ويحارب التنين ويطعنه بحربته، وتظهر في مخيلتنا بتأثير الحكي، صورته الشهيرة وهو في ثيابه العسكرية على حصانه وهو يطعن التنين بحربته، والتي نجدها دائماً في الموالد وعلى جدران الكنائس ونراها كأنها منتصبة أمامنا تدب الحياة فيها، ويتحول العرض في ساعتها إلى دقات أجراس الكنائس، والراقص يتفاعل ليثبت أنه لا فرق بين دين ودين أو بين ولي وآخر، فجوهر النور واحد.. وبالطبع تكون الأغاني ليست مجرد ترانيم مسيحية و إنما هي ألحان السماء أو هكذا تصل إلينا.. بعدها يجمع الحكاء الحكايات معاً ليذكرنا بما فات ويلفتنا ثانيةً إلى وحدة مفهوم الولاية وجوهرها رغم اختلاف الجغرافيا أو التاريخ أو حتى الدين.. ونرى الراقص يضم يداه ليحاول تجميع النور ولضمه في خيط واحد، يريد شهوده ويرنو إلى الاندماج التام به.. بعدها نواصل لنصل إلى حكاية مولانا أبو العباس المرسي ورحلته من الأندلس وحتى الإسكندرية مروراً بالطريق إلى مكة حيث فارق كل أحبابه وحملته الأخشاب العائمة إلى تونس ليقابل مولانا أبو الحسن الشاذلي الذي حلم به وصار بعدها تلميذه و مريده، ثم الوصول المبارك إلى مصر التي تجذب بأرضها الطيبة الولاة والصالحين ثم إلى الإسكندرية بالذات والتفاف الصالحين حوله حتى وفاته لنغني جميعا "اقروا الفاتحة لا بو العباس.. يا اسكندرية يا أجدع ناس" ويعاود الحكاء جمع خيط الأولياء معاً ويشير سريعاً لتجار الدين، أهل الظاهر فقط، الذين يتجاهلون الأرواح وأحوالها والقلوب ودرجاتها فتكرههم وتنساهم.. لتعم بنا جميعاً الفرحة مع الإضاءة التي تزيد وكأنها نور الولاية والأولياء الصافي الممتد منهم نحونا قد ملأنا وملأ الآفاق.. وتتعانق المفردات كلها في حالة وَجْد صادقة وتتسارع رقصة الراقص مع عبارة "والعاشقين أفواج" ليمتلئ المكان بالظامئين والباحثين عن النور و الصفاء.. و هكذا نصل إلى النهاية ونختتم كما بدأنا بالمديح والطواف حول كلمة "الله الله" وكأننا في الحضرة الحية التي هي حقاً، هذا العرض.. "صاحب مقام" عرض ناجح وموفق وصادق، حقق حالة مسرحية خاصة و مميزة، قدمه "مسرح الغد" بالقاهرة هذا العام 2021وعُرض في عدة محافظات مصرية.. العرض من كتابة وأشعار/مسعود شومان، ديكور و أزياء/محمد هاشم، موسيقي وألحان/حازم الكفراوي.. أداء الممثلين/أحمد مجدي، ومحمود الزيات، وهبة قناوي، وعادل رأفت، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد العزايزي، وأحمد عبد الجواد.. أداء و غناء وإنشاد /سمير عزمي وإخراج/عادل حسان..