يسرى أبو العينين - قراءة فى كتاب " مديح الظل " للروائى اليابانى جونشيرو تنايزاكى

كتاب " مديح الظل " للروائى اليابانى " جونيشيرو تانيزاكى " ، يطرح السؤال الذى لابد أن تطرحه كل شعوب العالم فى مواجهة الحداثة وما يعرف بحروب العولمة .

ما هى الهوية ؟ أى ما هى هويتنا كعرب حتى نحافظ على البقية الباقية منها فى الحرب الشرسة التى تديرها قوى كبيرة تحت دعوى العولمة ؟

أوهل الهوية هى الطبيعة ؟ .. بمعنى هل طبيعتنا كعرب هى هويتنا .. أم أنها التاريخ .. أى ذلك الزمن الذى يتغير ومن خلال تغيرة تتشكل الهوية .

هل هى ما نحمله من سمات وصفات فرضتها الجغرافيا والظروف الاجتماعية و السياسية و الدينية وتغيرات الزمن المتفاعل مع التاريخ ؟ .. هل هى التفرد بمعنى الخصوصية ؟ .

أم هى مجموعة القيم والمثل والمبادئ التى تشكل الأساس لبناء الشخصية الفردية أو المجتمعية .. هوية الفرد هى عقيدته ولغته وثقافته وتاريخه وحضارته .. كذلك هى هوية المجتمع هى الجوهر الأصيل للكيان وللأمة .وفى مواجهة الحداثة غدت الهوية مستهدفة بشكل رئيسى , هى التى ينظر إليها كأداة للتحصن بها .. لهذا فالهوية فى نظر بعض المفكرين تعتبر عائقا ينبغى إزالته للإنضمام إلى مسيرة الحداثة , وهناك من ينادى بالتوازن بين الأصيل من القيم والمعاصر منها حسب الضرورة , لكن تنايزاكى يقودنا إلى مواجهة حاسمة مع أنفسنا , فهو لا يجعلنا نمعن النظر فى هويتنا فقط ، ولكنه يجعلنا نتشبث بها فى مواجهة ما يمكن أن تفرضة وسائل العولمة من تلاشى التمايزات . إن " تانيزاكى " اليابانى يشير فى هذا الكتاب إلى يابان لا نعرفه ، ولم نسمع به حتى ، لأنه يابان غير مطابق للصورة الرائجة عنه .. يابان شرقى متوحد بقيمه وموغل فى خصوصيته ، يابان لم يتملكه هاجس التكنولوجيا ولم ينخرط فى حداثة الغرب ..



إن تانيزاكى حين يتذكر فى " مديح الظل " هذا العالم اليابانى القديم الذى شوهته أو غيبته قيم الثقافة الغربية ، إنما يذكرنا بأننا نقع جميعا أسرى شبكة المعلومات التى هى رهينة بتوجيه ثقافتنا ومن ثم سلوكنا .. إن العولمة فى الفن و الثقافة ، هى تسليعهما أى تحويلهما إلى سلع .. وذلك عن طريق خلق نموذج تعميمى تبدأ وظيفته بالاستهلاك وتنتهى بتدمير القدرة على التخيل . والتسليع يبدأ بالتصنيع ، حيث سيكون القطب القادر على هذا أى على تسليع الثقافة و الفن هو وحده الذى سوف يملك القدرة على الهيمنة والاحتواء الكامل .

وتانيزاكى فى مديح الظل يتشبث بكل ماهو قديم ، فهو يستعيد اليابان بأشيائه الصغيرة و الكبيرة ، من أوانى الطعام إلى أجهزة الإضاءة و التدفئة ومن عمارة البيت اليابانى وتنظيم فضائه الداخلى إلى اللباس و الموسيقى وطريقة التبرج .



يتساءل تانيزاكى.. أى منحى سيسلكه الفكر اليابانى لو كان مخترع قلم الحبر يابانيا أو صينيا ؟ أى شكل سيتخذه المجتمع اليابانى لو لم يتبن أدوات الغرب .. ؟ ماذا يحدث لو نشأ الطب الحديث فى اليابان ؟ .. يتساءل تانيزاكى ثم يجيب .. لو حدث ذلك لسار اليابان فى اتجاه مغاير نحو عالم مختلف يناسب طبع اليابانى ويثرى خصوصيته فى كل مجالات الحياة .

إلا أنه يدرك جيدا أن هذا النوع من الأسئلة ليس سوى تخيلات روائية .. فهو يقول ... لقد حدث ما حدث " والعودة إلى الوراء لم تعد ممكنة " . إنه يعرف أن اليابان قد انخرط فى إيقاع الثقافة الغربية ، ويعترف بأن " منافع الحضارة المعاصرة لا تحصى " .

لقد وجد تنايزاكى أن سمة الظل فى حياة الفرد اليابانى وحدها ممكن أن تشكل هويته .. وفى هذا الكتاب أكد تنايزاكى إن كل ما يريده هو إحياء عالم الظل ومحاولة الحفاظ على ما تبقى منه كى لا يضيع فى صخب التكنولوجيا ودوى الحضارة المعاصرة ..

أليس هذا حفاظ على التفرد أو الخصوصية ..؟ .



إنه يتحسر على حواجز السوجى التى كان اليابانيون يستعملونها لإغلاق بيوتهم والتى استبدلت اليوم بأبواب زجاجية .. لقد كانت ألواحها الرقيقة التى يلصق عليها ورق أبيض كثيف يعبر منه الضوء ولا يخترقه البصر تمنح الناظر إليها طعما لذيذا .. كما يشير إلى المدفأة القديمة التى استبدلت بالمدافىء الكهربائية ، حيث تسبب الانقطاع عن مشاهدة أشعة النار الحمراء أن زال سحر الشتاء وفقدت الحميمية العائلية قيمتها بسبب ذلك ..

و تانيزاكى يعلم أن الطبيعة تجبر المرء أحيانا أن يتناسى الشكل .. لأنه يشعر مهما كانت قدرته على التحمل أن الأيام التى ينزل فيها الثلج باردة حقا ، وأنه إذا وجد فى متناوله وسيلة لمعالجة الضرر فإن الجدل حول درجة أناقتها مسألة غير واردة . لكنه يعود ويتساءل .. رغم هذا ، ماذا يمكن أن تكون أشكال المجتمع ؟ وإلى أى حد يمكن أن تكون مختلفة عما هى عليه اليوم لو أبدع الشرق و الغرب ، كل على حدة ، وبشكل مستقل حضارات علمية مختلفة ؟ .. و بمعنى آخر ماذا لو سلكنا بخصوص الاكتشافات العلمية اتجاهات أصيلة .. يجيب تانيزاكى ، أن النتائج دون شك ستكون هائلة بخصوص طريقة لباسنا وأكلنا وسكننا ، وأيضا بالنسبة لكل من الأمور السياسية و الدينية والفنية والإقتصادية ..

فى مديح الظل نجد أن المقاربة التى يعتمدها تانيزاكى ، مقاربة مبدع ترتكز على تجربته الشخصية وعلى تخيلاته وحدوساته أكثر مما ترتكز على المناهج و التحاليل الأكاديمية الباردة ، مما أشاع فى النص حرارة إنسانية ، ومنحه نكهة خاصة .. فهو يتحدث عن منـزل أراد أن يبنيه على الطراز اليابانى القديم ، لكنه اصطدم بعنف مع ما أتلفته الثقافة الغربية فى نظام العمارة اليابانية ، فحينما تحدث عن المراحيض اليابانية ، انتابه احساس قوى بالميزة النادرة للعمارة اليابانية ، ويرى أنها بلغت ذروة الرفاهية فى بناء المراحيض .. وللمفارقة فقد وجد أن موقف أجداده الذين كانوا يضفون بعدا شعريا على كل شىء فى تحويل المكان الذى يفترض أن يكون بسبب استعماله أكثر الأماكن قذارة فى البيت إلى مكان ظريف ، أكثر حكمة إلى حد بعيد بالمقارنة مع موقف الغربيين الذين قرروا عمدا أن المكان قذر وأنه يجب تجنب حتى مجرد التلميح إليه أمام الناس .. تانيزاكى يتحدث هنا عن المراحيض التى ابتكرها أجداده لسلام الروح ، فهى توجد دائما بعيدا عن البناية ، فى حماية أجمة تنبعث منها رائحة أوراق الأشجار والطحالب ، حيث ينغمث المكان فى ضوء سوجى الناعم ، وحيث نوعا من الظلمة ونظافة تامة وصمتا عميقا يتيح سماع صوت المطر الناعم وهو يهطل ، ويلائم أزيز الحشرات وزقزقة العصافير و الليالى المقمرة . إنها بتعبير تانيزاكى أحسن مكان لتذوق كآبة الأشياء الموجعة فى كل الفصول الأربعة .



مملكة الظل ، هو ذا يابان تانيزاكى .. لقد اكتشف اليابانيون القدامى أسرار الظل وقوانينه ، إنها فلسفة أكثر ما هى رغبة تائهة .. وخلافا للغربيين المهووسين بالضوء ، برع اليابانيون فى استخدام الظل ، واستطاعوا أن يجعلوا منه عنصرا جماليا أساسيا يتفرع عن مفهوم مهم للحياة القائم على العدم و الفراغ .

ثمة علاقة سرية بين الظل و الجمال ، فالبيت اليابانى القديم لا يستمد جماله من الديكور الذى يخلو منه عادة وإنما من توظيف كثافة الظل .. و المطبخ اليابانى يفقد جزءا من جاذبيته حين يقدم فى مكان مضاء ، فالظل يضفى عليه نوعا من السحر .

يقول تانيزاكى أن مشاهدة شىء براق يسبب لنا ضيقا ما .. إنهم يتقززون حين يتناولون طعامهم فى أوانى تلتمع . إنهم يتحاشون تلميع أوانيهم الفضية كما يفعل الغربيون ، ويفرحون برؤية هذه الأدوات وقد أغبر سطحها واسود تماما بمرور الزمن . فصناعة الكريستال يعرفها الشرقيون منذ أمد بعيد ، لكنها لم تتطور كما فى الغرب ، فهم يطورونها حسب هويتهم .. وعبقريتهم الوطنية ، انهم لا يحتطاون مسبقا من كل شىء يلتمع فحسب ، وإنما يفضلون دائما الانعكاسات العميقة و المقنعة قليلا على بريق سطحى وبارد ، ويؤثرون هذا البريق شبه المغبر الذى يذكرهم حتما بآثار الزمن .



فى مديح الظل يبحث تانيزاكى عن الجمال التائه فى صخب الحضارة الغربية التى اكتسحت كل شىء .. يبحث عنه فى الظلمة والضوء الخافت الذى يبرز جمال الأشياء اليابانية المطلية باللك .. هذا الطلاء الأحمر الذى يصنع فى الصين من صمغ يستخرج من بعض النباتات . فحين يوضع شىء مطلى باللك فى مكان مظلم فإن بريق سطحه يعكس حركة شعلة الشمعة ، ويحث الانسان على التخيل .

إن جمال غرفة فى بيت يابانى ناتجا عن لعب بدرجة كثافة الظل دون وجود ملحقات ديكورية ، ربما يعتقد الانسان الغربى حين يرى هذا بأنه لا يرى سوى عراء .. إن وجهة النظر هذه تدل على أنهم لم يعرفوا أبدا لغز الظل .



يقول تانيزاكى " عندما نتأمل الظلام المخيم خلف عارضة عليا ، أو حول مزهرية أو تحت رف ، نشعر أن الهواء فى هذه الأماكن يتضمن كثافة الصمت ، وإن سكونا لم يتغير من الأزل يسود هذا الظلام .. وفى النهاية حين يتحدث الغربيون عن ( أسرار الشرق ) فهم يعنون بذلك هذا السكون المحير الذى يفرزه الظل " .

إن معرفة أسرار الظل ، واكتشاف ما بداخله من جمال خاص ، انعكس بالضرورة أيضا على طريقة الملبس بالنسبة للمرأة وحتى على طريقة مكياجها . يتذكر تانيزاكى أن النساء كن يرتدين ثيابا ذات ألوان كامدة بشكل لا يصدق ، ويتبرجن بتسويد أسنانهن .. إنه يتذكر تلك البيوت المظلمة جدا ، حيث أسنان أمه وعماته وقريباته وأغلبية نساء ذلك الجيل مسودة . إنه لم يحتفظ بذكرى عن شكل الفساتين التى كن يرتدينها ، لكنه يتذكر أنها كانت رمادية مزينة برسوم صغيرة . أن تانيزاكى يقرر أن أجداده كانوا يعتبرون المرأة كائنا ملازما للظل ليس لاعتبارها كم مهمل ، ولكن لما فى الظل من جمال ساحر .. كانوا ينظرون إليها على غرار الأشياء المطلية بالذهب أو الأشياء الصدفية . ويجتهدون قدر استطاعتهم فى إغراقها تماما فى الظل .. وهذا يفسر استعمال الفساتين ذات الأكمام الطويلة والذيول الطويلة والتى كانت تحجب بظلها الأيدى والأقدام . وبحيث يكتسى الجزء الواضح الوحيد من الجسد أى الرأس و العنق . أن جسد المرأة اليابانية بالمقارنة بجسد المرأة فى الغرب أكثر بشاعة ، ولكنهم بهذه الطريقة ينسوا ما هو غير مرئى بالنسبة لهم ، ويعتبرون أن ما لا يرى إطلاقا غير موجود ، كما أن الذى يريد أن يرى بأى ثمن هذا القبح لا ينجح إلا فى تدمير كل جمال .



لقد كان الأجداد يحددون فى الفضاء المضىء ، قبل كل شىء ، مكانا مغلقا يجعلون منه عالما من الظل ، ثم يحبسون المرأة فى أعماق الظلام مقتنعين بأنه لا يمكن أن يوجد فى العالم كائن بشرى ذو بشرة أكثر بياضا ، وإذا كان من المسلم به أن بياض البشرة هو الشرط الأساسى للجمال الأنثوى المثالى ، فيمكن اعتبار أن ما كانوا يفعلونه مشروعا تماما .. إن اللون الطبيعى للشعر هو اللون الأسود ، ومنه فهم الأجداد أن الطبيعة ذاتها تعلمهم قوانين الظل ، فراحوا يراعونها دون وعى كى يبدو الوجه الأصفر أبيض عبر لعب على التناقضات . إن أكثر من تسويد الأسنان كان هناك نساء فى الماضى يحلقن حواجبهن أيضا وذلك لإبراز سطوع الوجه بشكل أفضل .. وكان أكثر ما يلفت الانتباه فى ذلك الوقت هو استعمال " أحمر الشفاة " الأزرق والأخضر ذو الانعكسات المتلألئة .. لقد كان الأجداد بهذه الطريقة ينتزعون كل تأجج من أكثر الوجوه تألقا . وعن هذا الوجه يقول تانيزاكى أنه يعتبره أكثر بياضا من بياض أى أية امرأة بيضاء داخل العالم الوهمى الذى يحمله منقوشا فى دماغه .

إنه يعتبر إن بياض الانسان الأبيض بياض شفاف وبديهى ومبتذل ، بينما بياض تلك المرأة اليابانية هو بياض منفصل نوعا ما عن الكائن البشرى .

فى النهاية يتساءل تانيزاكى .. لماذا يتجلى هذا الميل إلى البحث عن الجمال فى الظلام بمثل هذه القوة لدى الشرقيين فقط ؟ .. لقد كان الغرب هو أيضا يجهل حتى الفترة الأخيرة الكهرباء و الغاز والنفط ، بيد أنه لم يشعر أبدا برغبة فى التلذذ بالظل .

ماذا يمكن أن يكون سبب هذا الاختلاف الجذرى جدا فى الأذواق ؟ .. وبحسب اعتقاد تانيزاكى فإنه يعود إلى اقتناع الشرقيون بالحدود التى تفرض عليهم ، وإلى أنهم كانوا دائما راضين بوضعهم الحالى ، ونتيجة لذلك فهم لا يشعرون بأى اشمئزاز إزاء ماهو مظلم ، لقد كانوا يخضعون له مثلما يخضعون لأمر حتمى .. فإذا كان الضوء فقيرا ، فليكن فقيرا ، يكفيهم ما اكتشفوا ما بداخله من جمال خاص به . وبخلاف الغربيين الذين يرصدون التقدم فى استمرار يندفعون دون انقطاع بحثا عن وضع أحسن من وضعهم الحالى .. لقد اجتهدوا بسبب بحثهم الدائم عن ضوء أكثر سطوعا فى مطاردة أدنى زاوية مخفية متنقلين من الشمعة إلى المصباح الكهربائى .

أن تانيزاكى يعترف فى نهاية " مديح الظل " بأنه لابد أن يكف عن الاحتجاج ، فهو أول من يعترف بأن منافع الحضارة المعاصرة لا تحصى ، وإن الخطب لن تغير فى الأمر شيئا ، هو يعرف أن اليابان انطلق بشكل غير قابل للإرتداد فى طريق الثقافة الغربية ، بحيث أنه لم يبق له سوى أن يتقدم بشجاعة متخليا عن الذين هم عاجزون عن اللحاق مثل الشيوخ ، لكنه يحذر من ضرورة التصميم على أن يتحملوا إلى الأبد _ حيث أن لون بشرتهم لن يتغير أبدا _ نتائج سيئة سيعانوا منها لوحدهم .

إن ما قصده تانيزاكى فى نهاية الأمر من كل ماضمنه كتابه " مديح الظل " ، هو طرح سؤال لمعرفة ما إذا بقيت فى هذا الاتجاه أو ذاك ، فى الآداب أو الفنون مثلا ، وسيلة لتعويض الضرر . على أنه يقرر فى النهاية بالنسبة له ، أنه يود لو يحاول فى مجال الأدب على الأقل إحياء عالم الظل .. هذا الذى يبددوه حاليا ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى