د. علي خليفة - صورة المرأة في مقامات بديع الزمان الهمذاني

لا نستغرب أن نرى حضور المرأة في مقامات بديع الزمان الهمذاني ضعيفًا، ففي قليل من المقامات تشارك فيها بشخصها، وفي مقامات أخرى قليلة يتم الحديث عنها في غيبتها بضمير الغائب؛وذلك لأن بطل المقامات أبو الفتح الإسكندري جَوَّال متنقل لا يستقر في أرض؛ ليحتال ويشحذ، ويتبعه الراوية عيسى بن هشام في بعض هذه المقامات، وفي مقامات أخرى يفاجأ به عيسى في بلاد وصل إليها؛ ولهذا لا نستغرب حين نرى أكثر المقامات تسمى بأسماء بلاد في مشرق العالم الإسلامي تدور فيها أحداثها، وبالطبع لم يكن يسمح للمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية قديمًا بالخروج من البيت إلا لضرورة قصوى.
والمقامات تجري أكثر أحداثها في أماكن مفتوحة، كالشوارع والأسواق، ويقل جدًّا وجود المرأة في هذه الأماكن المفتوحة، وفي المرات القليلة التي ظهرت فيها المرأة بشخصها في المقامات كان ظهورها في أماكن مغلقة.
ومن المقامات التي نرى الحديث عن المرأة يأتي عرضًا فيها ومن خلال الحديث عنها في غيابها–المقامة "المكفوفية"، ففيها نرى أبا الفتح الإسكندري بطل المقامات الذي يتقمص في كل مقامة شخصية تختلف–في الغالب–عن الشخصيات التي جسدها في مقامات أخرى–يتنكر في هيئة متسول أعمى، ويمسك بعصا فيها جلاجل يخبط بها الأرض، ويدعي في شعر ينشده يتسول به أنه فقير، وأن زوجته تطالبه بدفع مهرها الذي لها عليه، ويقول: إنه كان عزيزًا فذل، ويكشف عيسى بن هشام حقيقته في نهاية المقامة، كما هو الحال في كثير من مقامات الهمذاني.
وكما رأينا فذكر المرأة في المقامة السابقة يأتي عرضًا فيها، ومن خلال الحديث عنها بضمير الغائب، وكذلك الأمر في المقامة "المضيرية"، فَيُذْكُرُ فيها التاجرُ الانتهازي الذي عرض على أبي الفتح استضافته في بيته؛ ليأكل معه مضيرة، أنه أخذ بانتهازية عقدًا من فتاة في ضائقة تعرضت لها مع أسرتها، ويصف الطريقة التي نال بها هذا العقد من تلك الفتاة بقوله: "فأخذته أخذة خلس، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفع ظاهر".
وفي المقامة "الوصية" نرى المرأة يُتحدث عنها في غيابها عن المنظر بها، ولا يُكتفى بمجرد الحديث العارض عنها في تلك المقامة، بل هي تُذم في كل مرة تُذكر فيها من قبل زوجها -الذي يجسد شخصيته أبو الفتح الإسكندري فيها -حين نصحه لابنه، وقد جهزه ليعمل تاجرًا،وبعد أن ينصحه بعدة نصائح يتعلق أكثرها بالبخل يقول له: "أفهمتها يابن الخبيثة"، وينصحه نصائح أخرى في مجال البخل، ويقول له بعدها: "أفهمتها يابن المشئومة"، ويواصل نصحه كبخيل لابنه، ثم يقول له: "أفهمتها لا أم لك"، وبالطبع هذا التكرار له مع كل وصلة يقولها لابنه عن الحرص والبخل يضحكنا، وقد علل برجسون في كتاب "الضحك" ضحكنا من التكرار؛ لأن فيه ما ينحرف بالحياة في اتجاه الآلة.
وإذا كنّا قد رأينا المرأة يتم الحديث عنها في المقامات السابقة في غيابها، وقد تذم دون جريرة منها على لسان الرجل، ويكون دورها في هذه المقامات هامشيًّا جدًا - فإن هناك مقامات للمرأةدور مؤثر فيها حتى إنها لتشارك أبا الفتح وعيسى بن هشام بطلي المقامات دور البطولة فيها، كما نرى في المقامة "الشامية" التي تقف فيها امرأة أمام زوجها–أو طليقها –أبي الفتح الإسكندري في حضرة القاضي عيسى ابن هشام، ويتبادلان الاتهامات فيمن أساء منهما للآخر، وتبدو المرأة هنا فصيحةًجريئة لا تستنكف عن اتهام أبي الفتح بأبشع الاتهامات؛ لتقنع القاضي بحقها عليه.
وفي المقامة "الخمرية" والمقامة "النهيدية" نرى حضورًا مشخصًا للمرأة، ولكن حضور المرأتين في هاتين المقامتين حضور ثانوي، فالتركيز فيهما على البطلين أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام.
نماذج المرأة في مقامات بديع الزمان الهمذاني
وفي المواضع القليلة التي نرى للمرأة تواجدًا في المقامات الهمذانية - سواء أكان ذلك بحضورها بشخصها فيها أم بالحديث عنها في غيبتها - تبدو صورتها فيها- بعين مبدع المقامات والأشخاص الذين فيها-سلبية إلا في مواضع قليلة جدًّا منها، فنراها زوجة مشاكسة ترهق زوجها بالنفقات الكثيرة، وتطالبه بمهرها الذي لها عليه في المقامة "المكفوفية"، ونراها في المقامة "الشيرازية" تلحق بزوجها أضرارًا كثيرة،فقد شيبته في شبابه حتى ليتحول أبو الفتح هنا من محتال لمحتال عليه، والطريف أن نرى هذا المحتال العتيد في أكثر المقامات تنتصر عليه هنا زوجته، وبالطبع هذا يدعونا للضحك، يقول برجسون: "فإذا ما جعل الكاتب الموقف ينقلب والأدوار تنعكس في مشهد ما -أو موقف -حصلنا على مشهد هزلي".
ونرى المرأة في المقامة "الشامية" جريئة بذيئة اللسان، حتى لتتحدث عن علاقتها بزوجها على الفراش أمام القاضي عيسى بن هشام دون خجل منها، وحجتها في ذلك أنه هو الذي بدأ بالحديث في هذه الأمور، فكان عليها -من وجهة نظرها -أن ترد عليه، فهو يتهمها بأنها عاقر، فتقول للقاضي: بل لقد كنت حبلى منه، ولكنه بسوء معاملته لي وضربه إياي أسقطت، ثم يستطردان لأمور الفراش مما
لا يمكن ذكره في هذا المقام.
وفي المقامة "الخمرية" نرى جارية غانية تعمل في حانة، وبالطبع هي تحرص على إيقاع الرجال في غرامها وسلب أموالهم -وقد حدثنا الجاحظ عن هذه النوعية من النساء في كتاب "القيان"، وكذلك حدثنا عنهن الوشاء في كتاب "الموشى" -وترى هذه الغانية أبا الفتح الإسكندري في مكان، وتحاول خداعه لاستنزاف ماله، ويلتقي بها مرة أخرى في حانة، ونحن نتوقع أنها بلا شك ستكون ضحية منه، وسترتد عليها حيلها معه،وهي تقول عن أبي الفتح: إنه "شيخ ظريف الطبع طريف المجون مر بي يوم الأحد في دير المربد، فسارني حتى سرني، فوقعت الخلطة، وتكررت الغبطة، وذكر لي من وفور عرضه وشرف قومه في أرضه ما عطف به ودي وحظي به عندي، وسيكون لكم به أنس وعليه حرص".
وبالطبع يضحكنا نمط هذه المرأة الغانية التي تثق في قدراتها في إيقاع الرجال في حبائلها، ولكنها تصير ضحية المحتال الكبير أبي الفتح الإسكندري.
ومن المرات القليلة التي تذكر فيها المرأة في مقامات الهمذاني في موضع مدح حتى لتبز الرجل فيه -المقامة "النهيدية"،وفي تلك المقامة نرى عيسى بن هشام ورفاقًا له قد مشوا كثيرًا في طرق وصحارى، وأصابهم الجوع الشديد، ووجدوا بيتًا في طريقهم ظهر أمامه صاحبه،ويصوره الهمذاني في شكله بأسلوب ساخر، فيقول: إنه قصير أصلع،ويدرك هذا الرجل حاجتهم للطعام، فيقول لهم: هل لكم في طعام؟ ويصف لهم أكلة لذيذة، فيزداد جوعهم، ثم يفاجئهم بعد هذا الوصف بأن يقول لهم: "وعمكم والله يشتهيها"، ثم يصف لهم أكلة أخرى من الطعام يسيل لها لعابهم، ويقول لهم بعد ذلك: "وعمكم والله لا يبغضها"،ثم يذكر لهم صنفًا ثالثًا من الطعام، وفي نهاية كلامه يقول لهم عبارة شبيهة بما سبق، ولا ينقذ هؤلاء الرجال من الجوع الذي زاد عليهم بعد حديث هذا الرجل لهم إلا ابنته التي أحضرت لهم طعامًا بسيطًا أشبعهم بعد جوع شديد.
الأوصاف والإحالات الجنسية في مقامات الهمذاني
في الحقيقة أن الإشارات والأوصاف الجنسية قليلة في مقامات الهمذاني، ويقتصر وجودها في ثلاث مقامات، هي المقامة "الشامية"
-وهي أكثر المقامات مجونًا؛ ولهذا حذفها محمد عبده ومحمد محيي الدين عبد الحميد من طبعتيهما للمقامات -والمقامة "الرصافية" والمقامة "الشيرازية" -وقد حذف محمد عبده ومحمد محيي الدين عبد الحميد المواضع التي فيها مجون في هاتين المقامتين من طبعتيهما للمقامات -.
وقد يُظَنُّ أن دافع بديع الزمان للإقلال من ذكر المجون في مقاماته وازع ديني أو أخلاقي، ولكنني أظن أن دوافعه لقلة المجون فيها غير ذلك، وأولها: أن المقامات يحدث أكثرها في أماكن مفتوحة، وقل أن تتواجد فيها النساء؛ فلهذا قل حضورهن في المقامات، والحديث عن الأمور التي تتعلق بهن، ومنها أمور الجنس، وثانيًا: من أهداف بديع الزمان في بعض مقاماته أن تكون نماذج لتعليم الفتيان بما فيها من معارف وألفاظ غريبة، واستدعى هذا الدافع التعليمي قلة ذكر المجون في هذه المقامات.
وقد ذكرنا أن أكثر هذه المقامات مجونًا هي المقامة "الشامية" التي يتحدث فيها زوج وزوجته -أو طليقته-أمام قاضٍ عن أمور تتعلق بالجنس بلا حياء منهما في ذكرها، بل إن القاضي هو الذي شعر بالحرج من هذا الحديث، فدفع من ماله للمرأة المال الذي لها على زوجها -أو طليقها - ليتخلص من هذه القضية الغريبة، ومن هذين الشخصين المتبجحين في الحديث.
وفي المقامة "الرُّصَافية" نرى مجونًا غريبًا لا علاقة للمرأة به، ولكنه يشير لجانب من العصر الذي كتبت فيه المقامات، فقد فسد فيه بعض الناس ومالوا للواط -ويعلل الجاحظ في كتاب مفقود له أسباب انتشار اللواط في بعض البيئات في العصر العباسي بتداخل الفرس مع العرب، فقد كان اللواط شائعًا عند الفرس في دولتهم الساسانية البائدة - وفي هذه المقامة يحتال أبو الفتح الإسكندري على فتى لينال منه.
وهكذا نرى أن حضور المرأة في المقامات الهمذانية ضعيف، مما يعكس وضع المرأة المتردي في العصر العباسي الثاني الذي كتبت فيه هذه المقامات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى