الدكتور محمد عوض محمد - جولة في ربوع أفريقية لمحمد ثابت

ليس من السهل أن نجد في هذا القطر كله لمحمد ثابت ضريبا ولا شبيها في حبه للرحلات البعيدة، وفي التضحية بوقت نفيس وبمال أنفس، في سبيل إرضاء هذه الرغبة السامية، التي تدفعه في كل صيف إلى أطراف العالم، لكي يرى بعينيه تلك الأقطار البعيدة التي طالما سمع عنها وتاقت نفسه لمشاهدتها. . وأي امرئ لا يملك الإعجاب الشديد حين يرى محمد ثابت ينفق من ماله القليل الذي ادخره بكثير من حرمان النفس، ينفق عشرين جنيها كاملة من أجل رحلة بالسيارة من (كمبالا) على بحيرة فكتوريا إلى (فورت بورتال) على سفح رونزوري (مسافة لا تزيد كثيرا على ما بين القاهرة والإسكندرية) لكي يمتع الطرف بالتأمل في تلك الجبال الشامخة ساعات قلائل، وقد اختفت قللها تحت غشاء كثيف من السحاب والضباب. ثم يعود أدراجه إلى كمبالا لكي يستأنف سياحته الطويلة.

وفي المصريين كثير ممن ينزحون عن قطرنا صيفا. . . ولكن هؤلاء لهم شأن غير شأن صديقنا ثابت، وقصة غير قصته. فهؤلاء قبلتهم إما فيشي أو كارلسباد يتداوون بمائها الشافي بما أنزلوه بأجسامهم من نتائج الإفراط أو التفريط. أو قبلتهم باريس حيث يحيون حياتهم في القاهرة، يجلسون النهار كله وشطرا من الليل في مقاهي مدينة النور (وهم لا يرون من نورها شيئا) يقضون وقتهم قعودا كسالى يتحدثون وهم في ميدان الأوبرا بذلك الصوت المصري الجهوري فيسمعهم جميع من بالبوليفارد، يعلنون عن أنفسهم، وما في أنفسهم شيء يستحق الإعلان، ومنهم من هو شر من هذا. . وأي شر؟ ولكن مالي أكدر نفسي بالكلام عن هؤلاء وأنا أريد أن ينشرح صدري بالكلام عن محمد ثابت؟ منذ ثلاثة أعوام جال محمد ثابت في ربوع أوربا، فلم يزل ينتقل من قطر إلى قطر حتى بلغ جزيرة أيسلندة وكان من الدائرة القطبية قاب قوسين أو أدنى. . . وفي الصيف التالي يمم شطر المشرق وجال في بلاد الهند والصين واليابان؛ وفي الصيف الماضي حملته السفينة باسم الله مجراها ومرساها إلى شرق أفريقية وجنوبها. فاخترق خط الاستواء للمرة الأولى (إذ لا أظنه اجتازه في جولته الآسيوية) ثم عاد إلى مصر بطريق البر والنهر (نهر النيل) مجتازا بلاد كينيا وأوغندة والسودان المصري.

وإني ليحزنني أن إعجابي الذي لا حد له بالرحالة محمد ثابت لا ينصرف إلى الكتاب الذي بين يدي الآن (جولة في ربوع أفريقية) فإن شخصية المؤلف لم تنصف شخصية الرحالة. ولم تقم بالواجب نحوها.

فتحت (جولة في ربوع أفريقية) وأنا أتوقع أن أطالع كتابا يصف لي رحلة المؤلف وحركاته وسكناته بدقة، ويصور لي كل شيء رآه، وما مر به من الحوادث. لكي أشعر أنني معه ألازمه في رحلته أسافر كما يسافر وأرى ما يرى. وهذه هي اللذة الخاصة التي أجدها في مطالعة كتب الرحلات. لكن محمد ثابت لم يفعل هذا بل أخرج لنا كتابا يتضمن بيانات (لا أنكر أن أكثرها نافع مفيد) عن جغرافية شرق أفريقية، وقد ضاع حديث الرحلة بين الفصول الجغرافية كما تضيع قطع الذهب وسط أكوام من التراب فكنت أجده لأقل المناسبات يترك موضوع الرحلة تماما، ويأخذ في كتابة فصل جغرافي في شيء من الإسهاب، ولكنه خارج عن موضوع الرحلة. ففي صفحة 76 بيان طويل عن السكر وزراعته لا في أفريقية وحدها بل وفي غيرها من الأقطار، ويتكلم في صفحة 56 و57 عن بلاد روديسيا والكنغو مع أنه لم يرهما ولم يمر بهما، ويكتب فصلا طويلا عن جبل كلمنجارو مع أنه رآه عن بعد مائة كيلو متر، وفصلا عن تاريخ أوغندة أو عن نقل السفن إلى بحيرات فكتوريا منذ عشرات من السنين. وبيانا عن الكركدن ولم يره، وفصلا طويلا عن الشلوك اقتبسه من دراسته الخاصة لا مما رآه في رحلته.

وهذه التفاصيل الخارجة عن الرحلة قد طغت على حديث الرحلة حتى لم يبق منه إلا القليل. وإني أريد أن أذكر لصديقنا الفاضل أن أمامنا كتبا كثيرة نستخلص منها تاريخ أفريقية وجغرافيتها!. ولكن الذي بنا إليه شغف شديد، والذي يستطيع هو وحده أن يعطينا إياه، هو كتاب عن رحلة محمد ثابت. ولهذا كان أمتع فصول الكاتب على الإطلاق هو ذلك الجزء الذي يصف لنا فيه كيف منع من دخول جنوب أفريقية، وكيف جنت عليه مصريته في تلك الأقطار النائية. هذا الفصل للقارئ هو بمثابة الجوهرة وسط الأحجار.

ويخيل إلي أن محمد ثابت لم يكن يكتب مذكرات (يومية) أثناء رحلته. ولو فعل لكان لديه محصول وافر يغنيه عن تلك الفصول الجغرافية. وإنك لتقرأ الكتاب فلا تستطيع أن تستبين منه تفاصيل حركات السائح. فقد دخل (نيروبي) ولكنه لا يذكر لنا في أي تاريخ نزل بها. وبات ليلة في (ناكورو) فلا يخبرنا أين بات. ويمر بأوغندة ويقضي بها أياما، ولكنك لا تعرف متى دخلها ومتى خرج منها. ولست أستطيع أن أعزو هذا الإغفال إلا لشيء واحد هو أنه لم يكتب مذكرات يومية أثناء السياحة. ولهذا أرجو منه في سياحته المقبلة ألا ينام ليلة قبل أن يدون مشاهدات يومه. وسيرى القراء الفرق بين الكتاب الجديد والقديم.

بقى أني وجدت هفوات يسيرة أريد أن أنبه المؤلف الفاضل اليها وهي (ص6) أن لفظ عنوان كتاب لا أسم أحد المؤلفين، وشيبا وسبأ كلمة واحدة (ص7) فيقال بالإنجليزية ملكة شيبا وبالعربية ملكة سبأ وهي بعينها السيدة الفاضلة التي دخلت صرح سليمان وحسبته لجة. . . ونهر النيل (ص169) لم يعد أعظم نهر في العالم، لا من حيث الطول ولا من حيث ما يجري فيه من الماء. . ويطليموس الجغرافي (ص169) لم يعش قبل الميلاد بل في القرن الثاني بعد الميلاد، وغابات ايثوري في الناحية الغربية لجبال رونزوري فلا يمكن أن ترى من حصن يورتال. والغورلا يا سيدي ثابت حيوان ليس له ذنب (ص197) فقد اضطر إلى أن يستغني عن هذه الزائدة استعدادا لأن يكون إنساناً مثلي ومثلك ومثل كواكب السينما، وأخيرا لا أوافق المؤلف على أن قطن الجزيرة يزرع في الشتاء ويحصد في الربيع. . بل يزرع في أواخر الصيف (ابتداء من أغسطس) ويحصد في الشتاء ابتداء من يناير. (ص269)

وإني لأرجو من صديقنا السائح الفاضل رحلة سعيدة في الصيف الآتي وأن يتحفنا بعدها بكتاب عن تلك الرحلة وعن نفسه لا عن شيء آخر.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى