كما أن الآثار والأطلال والذكريات الباقية تستمد جلالها من الحوادث والمناسبات التاريخية التي ارتبطت بقيامها، فكذلك تستمد جلالها من الزمن؛ وقد يكون الزمن كل شيء فيما تتشح به الأطلال الدوارس أحياناً من روعة الخلود؛ وأقدم الهياكل والآثار هي بلا ريب أعرقها من هذه الناحية؛ فالقديم مهما كانت ضالته من الناحية التاريخية أو الفنية يبعث إلى النفس أثراً خاصاً ويحملها إلى تلك العصور الذاهبة الذي يرجع إليها ويرتبط بها
فما بالك إذا كان هذا الأثر أو الصرح القديم لا يزال كسابق عهده يقوم بمهمته التي أنشئ لها منذ الأحقاب المتعاقبة، ويمتلئ حياة وبهجة، ويساير العصر، ويربط الحاضر بالماضي بأوثق الصلات؟
لسنا نريد أن نحدثك في هذا المقال عن معاهد أو آثار تاريخية من هياكل أو صروح أو معاهد أو غيرها مما أصطلح على اعتباره آثاراً تاريخية تمتاز بقيمتها الفنية وبالمناسبات العظيمة التي أنشئت من أجلها؛ ولكنا نريد أن نحدثك عن نوع آخر من هذه المنشآت التي قامت دون مناسبة تاريخية خاصة لتقوم بمهمة من مهام الحياة العادية، ثم استطاعت أن تغالب صروف الزمن، وأن تحمل رسالتها المتواضعة خلال أحقاب وأحقاب، وأن تبقى إلى اليوم قائمة بنفس مهمتها، وأن تكتسب بذلك جلال القديم وروعته
نريد بذلك الفنادق والمقاهي التاريخية
أنه لمن الشائق حقاً أن تنزل في فندق ما، أو تجلس في مقهى أو مطعم ما، فيقال لك إن هذا الفندق أو المطعم أو المقهى يرجع قيامه إلى أربعة قرون أو خمسة، وأنه لا يزال كما نشأ باسمه وأوضاعه القائمة لم يتغير منه شيء إلا ما اقتضاه الزمن من أعمال الصيانة، وإن كثيراً من الشخصيات التاريخية العظيمة قد مرت به قبلك، ونزلت حيث تنزل أو جلست حيث تجلس. إن في ذلك ما يذكي الخيال ويبعث إلى النفس جلالا خاصا هو جلال هذه الأحقاب الطويلة التي مرت بهذه النشأة المتواضعة، وجلال تلك الشخصيات التاريخية العظيمة التي مازالت ذكرياته وأشباحها تطوف بالمكان وتسبغ عليه من روعتها ما لم يسبغ ولقد آنست هذه المشاعر في كثير من المنشآت الاجتماعية التاريخية التي أتيحت لي زيارتها خلال تجوالي في العواصم الأوربية وآنستها هذا العام بنوع خاص خلال رحلة قمت بها في بلاد التيرول النمسوية: فذكرت أننا في مصر لا نعرف اليوم أمثال هذه المنشآت، ليس فقط لأن أحداث الزمن لم تبق منها على شيء، بل لأننا أيضاً فقدنا في عصور الانحطاط خلة الاستمرار، فلا نعرف في مصر منشأة تجارية أو اجتماعية أو فندقاً أو مقهى أو غيرها من المنشآت المماثلة تخطت قرناً محافظة على قديمها، متصلة بحديثها، وهو ما يعتبر من الأمور العادية في العواصم الأوربية حيث يرجع كثير من هذه المنشآت إلى أحقاب وقرون. ولقد عرفنا هذه المنشآت في العصور الوسطى، فكان للقاهرة فنادق ومقاهٍ، تخطت دولاً وعصوراً وهي تقوم بمهمتها الاجتماعية؛ وإنه ليحضرني الآن منها مثلٌ هو فندق مسرور أو خان (مسرور) الذي يحدثنا عنه المقريزي في غير موضع، والذي لبث عصوراً مهبط الواردين إلى القاهرة من كل صوب يتناقل السياح اسمه في جميع الأقطار الإسلامية، والذي تذكره قصص ألف ليلة وليلة في مواضع مختلفة ترجع إلى عصور مختلفة كأنه علم على القاهرة، وكانت القاهرة أيام السلاطين تموج بأمثال هذه المنشآت المعمرة من ربط وفنادق وخانات ووكالات شهيرة دثر معظمها أيام العصر التركي. وفي خطط المقريزي بيانات شائقة عن هذه المنشآت التي لعبت مدى عصور دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية المصرية.
أما اليوم فإن القاهرة التي تغص بالآثار والصروح التاريخية العامة لا تعرف شيئاً من هذه المنشآت الخاصة التي يسبغ عليها القديم جلاله، والتي تساير الحياة الاجتماعية في عصورها ومراحلها المتعاقبة
مما يلفت نظر السائح في مدينة أنزبروك عاصمة التيرول فندق (النسر الذهبي) وهو صرح متواضع يقوم على صف من الحنايا المعقودة على الطراز القوطي؛ ولكن هذا الصرح المتواضع يقوم حيث هو، ويؤدي نفس مهمته في إيواء السياح وإطعامهم منذ نحو خمسمائة عام، وفي مدينة انزبروك القديمة التي تمتاز بدروبها الضيقة وأبنيتها القوطية العتيقة، عدة من هذه الفنادق والمطاعم القديمة التي طوت أجيالاً عديدة من حياتها؛ ولكن (النسر الذهبي) يمتاز عنها جميعاً بتاريخه المجيد؛ فقد حفلت غرفه الضيقة وأبهاؤه المنخفضة التي لم يغير تعاقب الزمن شيئاً من أوضاعها بكثير من الملوك والعظماء في مختلف العصور؛ وقد وضعت على بابه لوحتان من الرخام نقشت عليهما أسماء هؤلاء الملوك والعظماء وتواريخ نزولهم فيه؛ ولفت نظرنا بين هذا الثبت بنوع خاص اسم أمير تونس حيث نزل في فندق النسر الذهبي مع حاشيته في سنة 1540م، واسم يوهان فولفجانج فون جيته شاعر ألمانيا الأكبر حيث نزل فيه سنة 1798م، وأسماء عدة أخرى من ملوك أوربا وأمرائها نزلوا فيه في القرن السادس عشر أو السابع عشر أو الثامن عشر؛ وإن الإنسان ليتلو هذا الثبت التاريخي الحافل متأثراً، وهو يرجع بذهنه إلى تلك التواريخ والعصور البعيدة فيأخذه شعور من الإجلال والروع لهذا القديم التالد الذي مازال يمتلئ حياة ورغبة في مسايرة الزمن. ولقد كان مقام جيته في فندق (النسر الذهبي) حادثاً ذا أهمية خاصة خلدت ذكراه إلى يومنا بإقامة مطعم باسم جيته إلى جانب الفندق مازال مقصد الواردين من كل صوب؛ يجذبهم اسم الشاعر وذكراه قبل أن تجذبهم الأطعمة الشهية التي يتناولونها، وروح الشاعر ترفرف عليهم
وتوجد بالمدينة أيضاً عدة منشآت أخرى من فنادق ومطاعم وأبهاء للنبيذ يرجع معظمها إلى قرنين أو ثلاثة قرون ومنها بهو النبيذ الشهير (أوتوبرج) الذي يرجع قيامه إلى نحو قرنين، ولا زال حيث هو يشرف على نهر (إن) ويقوم بنفس مهمته في استقبال الآكلين والشاربين
وفي العاصمة النمسوية فينا جملة كبيرة من هذه الفنادق والمقاهي التاريخية التي قطعت قروناً من أعمارها، وشهدت عصور الإمبراطورية الزاهرة، ولم تؤثر في حياتها أحداث الزمن، ولا زالت تقوم في جنبات العاصمة النمسوية تستطع بالليل كأنها قطع من النور؛ وهي تزهو جميعاً بماضيها كما تزهو بحاضرها. وقد يضيق بنا المقام إذا حاولنا هنا تعداد الأمثلة، وربما أتيحت لنا بعد فرصة أخرى للتحدث عن هذه المقاهي الشهيرة التي تلعب أكبر دور في الحياة الاجتماعية النمسوية، ولكنا نذكر سبيل على التمثيل مثلين يلفتان النظر بحق: أولهما مطعم (لنده) الشهير الذي يقوم حيث هو منذ أكثر من خمسمائة عام في شارع (البرج الأحمر)، (روتنتوم) والذي شهد حصار الترك الأول للعاصمة النمسوية سنة 1570م، واحتفل منذ حين بمرور خمسمائة عام على قيامه، ومن الشائق أن ترى تاريخ إنشائه منقوشاً على ما يقدم إليك من آنية الطعام، فيذكرك دائماً بعمره المديد وماضيه الحافل؛ والثاني مثل (منزل الطرب) الشهير في حي براتر، وقد أنشئ في أوائل القرن السادس عشر، ولا يزال يقوم حيث هو؛ وهو اليوم مطعم ومرقص، ولكنه كان من قبل منزل راحة ورياضة ملكيا؛ وقد بدأ حياته الجديدة من نحو قرن وكان خلال القرن الماضي مسرحاً لعدة من الحوادث الاجتماعية الشهيرة، وكان بالأخص منتدى محبوباً للأرشيدوق رودلف فون هبسبرج ابن الإمبراطور فرانز يوسف وولي عهده، يقصده مع صحبه لقضاء السهرات المرحة، ولا زالت ذكريات هذا الأمير المنكود الذي زهق في ريعان شبابه في ظروف غامضة، ماثلة في هذا البهو الأنيق تطوف بزائريه، وتذكرهم بالمأساة الشهيرة التي اقترنت بمصرعه في يناير سنة 1889م
وفي معظم العواصم الأوربية نجد أمثال هذه المنشآت تذكر السائح المتجول بالمناسبات والعصور التي قامت فيها، وتقدم إليه طائفة من الذكريات السابقة التي يلذ استعراضها وتأملها
وهذه المنشآت الاجتماعية القديمة فضلا عن كونها تزين العواصم الجليلة، تلعب في الواقع دوراً عظيماً في الحياة الاجتماعية الخارجية؛ وكثير منها يعتبر بحق نوعا من الآثار القيمة التي تجب المحافظة عليها لا من الوجهة الأثرية أو الفنية لأن معظمها يتطور ويتجدد من هذه الناحية مسايراً للعصر وللحياة، ولكن حرصاً على قديمها وعلى تراثها من الذكريات القديمة التي امتزجت بحياة المدينة وحياة الشعب. ولا زلنا نذكر بهذه المناسبة تلك الضجة التي قامت منذ أعوام في الصحف الفرنسية بمناسبة هدم البناء القديم الذي كان يشغله الملهى الباريزي الشهير المسمى (بالطاحونة الحمراء) (مولان روج) عندما أريد تجديد الشارع الذي يقوم فيه فقد ثارت الصحف يومئذ لهذا الأجراء وعز عليها أن يختفي هذا الملهى الشهير الذي امتزجت فيه ذكرياته الساحرة بالحياة الباريزية الليلية حيناً من الدهر، وأصبح من أشهر المنتديات الاجتماعية التي تجذب كل زائر لباريس
وفي معظم الأحيان تقترن أسماء هذه المنشآت الاجتماعية القديمة بأسماء كثير من الشخصيات التاريخية، فنجد مقهى أو منتدى معيناً يؤمه كتاب العصر وشعراؤه، وفي هذا المقهى يجتمعون ويتسامرون، ويكتبون وينظمون، وفيه تتفتح مواهب الكثير منهم، وفيه يتألق نجم بعضهم وتسبغ أسماؤهم فيما بعد على المكان كثيراً من رنينها وشهرتها. فمثلا نجد اسم (المقهى الإنكليزي) (كافيه أنجليه) الذي سطع في باريس في أواخر القرن الماضي يقترن بأسماء كثير من أعلام السياسة والتفكير والأدب في هذه الفترة، وفيه بزغ مجد الكثير منهم
والخلاصة أن الفنادق والمقاهي التاريخية تستحق أن تؤرخ كما تؤرخ الهياكل والصروح الأثرية، وإذا كانت الهياكل والصروح العظيمة تجد دائماً من يتصدى لدراستها وتاريخها من النواحي الأثرية والفنية، فإن الفنادق والمقاهي تستحق أن تدرس من وجوه أخرى تمت بأكبر الصلات إلى تاريخ المجتمعات التي تقوم فيها، وتاريخ الأخلاق والعادات الشعبية، وهي وجوه لا تخفى أهميتها. ولقد قرأت منذ أعوام في إحدى الصحف الفرنسية عدة مقالات شائقة لأحد مشاهير الكتاب (حياة مقهى باريزي عظيم) فأعجبت بطرافتها وتلاوتها وودت لو أننا نستطيع أن نقدم إلى قرائنا مثل هذه الصور الاجتماعية الساحرة. ورحم الله مؤرخنا الكبير تقي الدين المقريزي إذ فطن منذ خمسة قرون إلى أهمية هذه النواحي الاجتماعية في حياة الأمصار العظيمة فأنفق أعواماً طويلة من حياته في دراسة الأحياء والدروب والصروح والمعاهد والمنتديات الاجتماعية، وقدم إلينا في (خططه) مجموعة من الصور الاجتماعية والشعبية لمدينة القاهرة حتى عصره ولم ينس الفنادق والمقاهي التاريخية
(بادن فينا) في منتصف سبتمبر
محمد عبد الله عنان
فما بالك إذا كان هذا الأثر أو الصرح القديم لا يزال كسابق عهده يقوم بمهمته التي أنشئ لها منذ الأحقاب المتعاقبة، ويمتلئ حياة وبهجة، ويساير العصر، ويربط الحاضر بالماضي بأوثق الصلات؟
لسنا نريد أن نحدثك في هذا المقال عن معاهد أو آثار تاريخية من هياكل أو صروح أو معاهد أو غيرها مما أصطلح على اعتباره آثاراً تاريخية تمتاز بقيمتها الفنية وبالمناسبات العظيمة التي أنشئت من أجلها؛ ولكنا نريد أن نحدثك عن نوع آخر من هذه المنشآت التي قامت دون مناسبة تاريخية خاصة لتقوم بمهمة من مهام الحياة العادية، ثم استطاعت أن تغالب صروف الزمن، وأن تحمل رسالتها المتواضعة خلال أحقاب وأحقاب، وأن تبقى إلى اليوم قائمة بنفس مهمتها، وأن تكتسب بذلك جلال القديم وروعته
نريد بذلك الفنادق والمقاهي التاريخية
أنه لمن الشائق حقاً أن تنزل في فندق ما، أو تجلس في مقهى أو مطعم ما، فيقال لك إن هذا الفندق أو المطعم أو المقهى يرجع قيامه إلى أربعة قرون أو خمسة، وأنه لا يزال كما نشأ باسمه وأوضاعه القائمة لم يتغير منه شيء إلا ما اقتضاه الزمن من أعمال الصيانة، وإن كثيراً من الشخصيات التاريخية العظيمة قد مرت به قبلك، ونزلت حيث تنزل أو جلست حيث تجلس. إن في ذلك ما يذكي الخيال ويبعث إلى النفس جلالا خاصا هو جلال هذه الأحقاب الطويلة التي مرت بهذه النشأة المتواضعة، وجلال تلك الشخصيات التاريخية العظيمة التي مازالت ذكرياته وأشباحها تطوف بالمكان وتسبغ عليه من روعتها ما لم يسبغ ولقد آنست هذه المشاعر في كثير من المنشآت الاجتماعية التاريخية التي أتيحت لي زيارتها خلال تجوالي في العواصم الأوربية وآنستها هذا العام بنوع خاص خلال رحلة قمت بها في بلاد التيرول النمسوية: فذكرت أننا في مصر لا نعرف اليوم أمثال هذه المنشآت، ليس فقط لأن أحداث الزمن لم تبق منها على شيء، بل لأننا أيضاً فقدنا في عصور الانحطاط خلة الاستمرار، فلا نعرف في مصر منشأة تجارية أو اجتماعية أو فندقاً أو مقهى أو غيرها من المنشآت المماثلة تخطت قرناً محافظة على قديمها، متصلة بحديثها، وهو ما يعتبر من الأمور العادية في العواصم الأوربية حيث يرجع كثير من هذه المنشآت إلى أحقاب وقرون. ولقد عرفنا هذه المنشآت في العصور الوسطى، فكان للقاهرة فنادق ومقاهٍ، تخطت دولاً وعصوراً وهي تقوم بمهمتها الاجتماعية؛ وإنه ليحضرني الآن منها مثلٌ هو فندق مسرور أو خان (مسرور) الذي يحدثنا عنه المقريزي في غير موضع، والذي لبث عصوراً مهبط الواردين إلى القاهرة من كل صوب يتناقل السياح اسمه في جميع الأقطار الإسلامية، والذي تذكره قصص ألف ليلة وليلة في مواضع مختلفة ترجع إلى عصور مختلفة كأنه علم على القاهرة، وكانت القاهرة أيام السلاطين تموج بأمثال هذه المنشآت المعمرة من ربط وفنادق وخانات ووكالات شهيرة دثر معظمها أيام العصر التركي. وفي خطط المقريزي بيانات شائقة عن هذه المنشآت التي لعبت مدى عصور دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية المصرية.
أما اليوم فإن القاهرة التي تغص بالآثار والصروح التاريخية العامة لا تعرف شيئاً من هذه المنشآت الخاصة التي يسبغ عليها القديم جلاله، والتي تساير الحياة الاجتماعية في عصورها ومراحلها المتعاقبة
مما يلفت نظر السائح في مدينة أنزبروك عاصمة التيرول فندق (النسر الذهبي) وهو صرح متواضع يقوم على صف من الحنايا المعقودة على الطراز القوطي؛ ولكن هذا الصرح المتواضع يقوم حيث هو، ويؤدي نفس مهمته في إيواء السياح وإطعامهم منذ نحو خمسمائة عام، وفي مدينة انزبروك القديمة التي تمتاز بدروبها الضيقة وأبنيتها القوطية العتيقة، عدة من هذه الفنادق والمطاعم القديمة التي طوت أجيالاً عديدة من حياتها؛ ولكن (النسر الذهبي) يمتاز عنها جميعاً بتاريخه المجيد؛ فقد حفلت غرفه الضيقة وأبهاؤه المنخفضة التي لم يغير تعاقب الزمن شيئاً من أوضاعها بكثير من الملوك والعظماء في مختلف العصور؛ وقد وضعت على بابه لوحتان من الرخام نقشت عليهما أسماء هؤلاء الملوك والعظماء وتواريخ نزولهم فيه؛ ولفت نظرنا بين هذا الثبت بنوع خاص اسم أمير تونس حيث نزل في فندق النسر الذهبي مع حاشيته في سنة 1540م، واسم يوهان فولفجانج فون جيته شاعر ألمانيا الأكبر حيث نزل فيه سنة 1798م، وأسماء عدة أخرى من ملوك أوربا وأمرائها نزلوا فيه في القرن السادس عشر أو السابع عشر أو الثامن عشر؛ وإن الإنسان ليتلو هذا الثبت التاريخي الحافل متأثراً، وهو يرجع بذهنه إلى تلك التواريخ والعصور البعيدة فيأخذه شعور من الإجلال والروع لهذا القديم التالد الذي مازال يمتلئ حياة ورغبة في مسايرة الزمن. ولقد كان مقام جيته في فندق (النسر الذهبي) حادثاً ذا أهمية خاصة خلدت ذكراه إلى يومنا بإقامة مطعم باسم جيته إلى جانب الفندق مازال مقصد الواردين من كل صوب؛ يجذبهم اسم الشاعر وذكراه قبل أن تجذبهم الأطعمة الشهية التي يتناولونها، وروح الشاعر ترفرف عليهم
وتوجد بالمدينة أيضاً عدة منشآت أخرى من فنادق ومطاعم وأبهاء للنبيذ يرجع معظمها إلى قرنين أو ثلاثة قرون ومنها بهو النبيذ الشهير (أوتوبرج) الذي يرجع قيامه إلى نحو قرنين، ولا زال حيث هو يشرف على نهر (إن) ويقوم بنفس مهمته في استقبال الآكلين والشاربين
وفي العاصمة النمسوية فينا جملة كبيرة من هذه الفنادق والمقاهي التاريخية التي قطعت قروناً من أعمارها، وشهدت عصور الإمبراطورية الزاهرة، ولم تؤثر في حياتها أحداث الزمن، ولا زالت تقوم في جنبات العاصمة النمسوية تستطع بالليل كأنها قطع من النور؛ وهي تزهو جميعاً بماضيها كما تزهو بحاضرها. وقد يضيق بنا المقام إذا حاولنا هنا تعداد الأمثلة، وربما أتيحت لنا بعد فرصة أخرى للتحدث عن هذه المقاهي الشهيرة التي تلعب أكبر دور في الحياة الاجتماعية النمسوية، ولكنا نذكر سبيل على التمثيل مثلين يلفتان النظر بحق: أولهما مطعم (لنده) الشهير الذي يقوم حيث هو منذ أكثر من خمسمائة عام في شارع (البرج الأحمر)، (روتنتوم) والذي شهد حصار الترك الأول للعاصمة النمسوية سنة 1570م، واحتفل منذ حين بمرور خمسمائة عام على قيامه، ومن الشائق أن ترى تاريخ إنشائه منقوشاً على ما يقدم إليك من آنية الطعام، فيذكرك دائماً بعمره المديد وماضيه الحافل؛ والثاني مثل (منزل الطرب) الشهير في حي براتر، وقد أنشئ في أوائل القرن السادس عشر، ولا يزال يقوم حيث هو؛ وهو اليوم مطعم ومرقص، ولكنه كان من قبل منزل راحة ورياضة ملكيا؛ وقد بدأ حياته الجديدة من نحو قرن وكان خلال القرن الماضي مسرحاً لعدة من الحوادث الاجتماعية الشهيرة، وكان بالأخص منتدى محبوباً للأرشيدوق رودلف فون هبسبرج ابن الإمبراطور فرانز يوسف وولي عهده، يقصده مع صحبه لقضاء السهرات المرحة، ولا زالت ذكريات هذا الأمير المنكود الذي زهق في ريعان شبابه في ظروف غامضة، ماثلة في هذا البهو الأنيق تطوف بزائريه، وتذكرهم بالمأساة الشهيرة التي اقترنت بمصرعه في يناير سنة 1889م
وفي معظم العواصم الأوربية نجد أمثال هذه المنشآت تذكر السائح المتجول بالمناسبات والعصور التي قامت فيها، وتقدم إليه طائفة من الذكريات السابقة التي يلذ استعراضها وتأملها
وهذه المنشآت الاجتماعية القديمة فضلا عن كونها تزين العواصم الجليلة، تلعب في الواقع دوراً عظيماً في الحياة الاجتماعية الخارجية؛ وكثير منها يعتبر بحق نوعا من الآثار القيمة التي تجب المحافظة عليها لا من الوجهة الأثرية أو الفنية لأن معظمها يتطور ويتجدد من هذه الناحية مسايراً للعصر وللحياة، ولكن حرصاً على قديمها وعلى تراثها من الذكريات القديمة التي امتزجت بحياة المدينة وحياة الشعب. ولا زلنا نذكر بهذه المناسبة تلك الضجة التي قامت منذ أعوام في الصحف الفرنسية بمناسبة هدم البناء القديم الذي كان يشغله الملهى الباريزي الشهير المسمى (بالطاحونة الحمراء) (مولان روج) عندما أريد تجديد الشارع الذي يقوم فيه فقد ثارت الصحف يومئذ لهذا الأجراء وعز عليها أن يختفي هذا الملهى الشهير الذي امتزجت فيه ذكرياته الساحرة بالحياة الباريزية الليلية حيناً من الدهر، وأصبح من أشهر المنتديات الاجتماعية التي تجذب كل زائر لباريس
وفي معظم الأحيان تقترن أسماء هذه المنشآت الاجتماعية القديمة بأسماء كثير من الشخصيات التاريخية، فنجد مقهى أو منتدى معيناً يؤمه كتاب العصر وشعراؤه، وفي هذا المقهى يجتمعون ويتسامرون، ويكتبون وينظمون، وفيه تتفتح مواهب الكثير منهم، وفيه يتألق نجم بعضهم وتسبغ أسماؤهم فيما بعد على المكان كثيراً من رنينها وشهرتها. فمثلا نجد اسم (المقهى الإنكليزي) (كافيه أنجليه) الذي سطع في باريس في أواخر القرن الماضي يقترن بأسماء كثير من أعلام السياسة والتفكير والأدب في هذه الفترة، وفيه بزغ مجد الكثير منهم
والخلاصة أن الفنادق والمقاهي التاريخية تستحق أن تؤرخ كما تؤرخ الهياكل والصروح الأثرية، وإذا كانت الهياكل والصروح العظيمة تجد دائماً من يتصدى لدراستها وتاريخها من النواحي الأثرية والفنية، فإن الفنادق والمقاهي تستحق أن تدرس من وجوه أخرى تمت بأكبر الصلات إلى تاريخ المجتمعات التي تقوم فيها، وتاريخ الأخلاق والعادات الشعبية، وهي وجوه لا تخفى أهميتها. ولقد قرأت منذ أعوام في إحدى الصحف الفرنسية عدة مقالات شائقة لأحد مشاهير الكتاب (حياة مقهى باريزي عظيم) فأعجبت بطرافتها وتلاوتها وودت لو أننا نستطيع أن نقدم إلى قرائنا مثل هذه الصور الاجتماعية الساحرة. ورحم الله مؤرخنا الكبير تقي الدين المقريزي إذ فطن منذ خمسة قرون إلى أهمية هذه النواحي الاجتماعية في حياة الأمصار العظيمة فأنفق أعواماً طويلة من حياته في دراسة الأحياء والدروب والصروح والمعاهد والمنتديات الاجتماعية، وقدم إلينا في (خططه) مجموعة من الصور الاجتماعية والشعبية لمدينة القاهرة حتى عصره ولم ينس الفنادق والمقاهي التاريخية
(بادن فينا) في منتصف سبتمبر
محمد عبد الله عنان
مجلة الرسالة/العدد 222/الفنادق والمقاهي التاريخية - ويكي مصدر
ar.wikisource.org