أ. د. لطفي منصور - خاطِرَةٌ: ذِكْرَى صَديق:

في يَوْمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَعْلُو بخاطِرِي ذِكْرَى أَساتِذَةِ تِلْكَ اللُّغَةِ الذّينَ دَرَجُوا إلَى جَنّاتِ النَّعيمِ، بَعْدَ أنْ خُلِّدُوا بِمَآثِرِهِم وَأَعمالِهم وَمُؤَلَّفاتِهِم. وكُلُّهُمْ يَحْتَلُّ مَكانَةً في قَلْبِي وَنَفْسي وَفِكْرِي.
لا أُريدُ ذِكْرَ أسْمائِهِم، فَهُمْ كَالنُّجوم “بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمِ اهْتَدَيْتُمْ”.
وَمِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ التي نَظَرْتُ فيها الْيَوُمَ كِتابٌ نَفِيسٌ وغالٍ عَلَيَّ، كانَ قَدْ أَهْدانِيهِ فَقيدُ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، قُدْوَةُ الْأَجْيالِ الْخالِدُ الذِّكْرِ الْمَرْحومُ بروفيسور جورج قَنازِع. هذا الْكِتابِ هو “إصْلاحُ ما غَلِطَ فِيهِ أبو عَبْدِ اللَّهِ النَّمْري” لِأبي مُحَمَّدٍ الْأَعْرابِيِّ، تَحْقيقُ الأُسْتاذ الدُّكتور جورج قنازع 1988.
ما أَعْظَمَ ما قامَ به بروفيسور قَنازِعِ في تَحْقيقِهِ لِمَخْطُوطَةِ هذا الْكِتابِ، فَلَمْ يُبْقِ زِيادَةً لِمُزيدٍ.
وكانَ أبو عَبْدِ اللَّهِ النَّمْرِي (ت ٣٨٥ هج) قَدْ أَلَّفَ كِتابًا شَرَحَ أَبْياتَ حَماسَةِ أَبي تَمّامٍ، فَتَعَقَّبَهُ أبو مُحَمَّدٍ الْأَعْرابِيُّ وَأَشارَ إلَى أَخْطائهِ في تَفْسيرِ الْأَبْياتِ.
بَقِيَ كِتابُ الْأَعْرابِيِّ مَخْطُوطًا حَتَّى يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ بروفيسور قَنازِع فَأزالَ عَنْهُ غُبارَ الزَّمَنِ، فَحَقَّقَهُ وَنَشَرَهُ سنةَ ١٩٨٨م. وَوَضَعَ بَيْنَ أيْدينا تُحْفَةً أَدَبِيَّةً لا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ .
إلَيْكُمْ قِطْعَةً مِنْ هذا الْكِتابِ تُشيرُ إلى الْجُهْدِ الْمُضْني لِلْمُحَقِّقِ، كَضَبْطِ النَّصَِ التَامِّ، والتَّعْرِيفِ بِالشَّخْصِيّاتِ، وَكَشْفِ مَصادِرِ الْمُؤَلِّفِ، والشُّروحِ الْوافِرَةِ، والتَّعْقِيباتِ الضَّرورِيَّةِ
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ (هُوَ النَّمْرِيُّ مُؤلِّفُ كِتابِ الْإصْلاح): قالَ عَبَدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ ( شاعِرٌ مُخَضْرَمٌ، أَدْرَكَ الْإسْلامَ فَأَسْلمَ، شَهِدَ مَعَ المُثَنَّى بنَ حارِثَةَ الشَّيْباني فَتْحَ هُرْمُز) يَرْثي قَيْسَ ابْنَ عاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ (سَيِّدُ تَميم وَمِنْ أشْرافِها وَمِنْ أجوادِ الْعَرَبِ، واشْتَهَرَ بِالْحِلْمِ): مِنَ الطَّويل
تَحِيَّةَ مَنْ غادَرْتُهُ غَرَضَ الرَّدَى
إذا زارَ عَنْ شَحْطٍ بِلادَكَ سَلَّما
(تَحِيَّةَ: مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِعامِلٍ مَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ أُحَيِّي؛ غادَرْتُهُ: تَرَكْتُهُ غَرَضَ الرَّدَى: هَدَفًا لِلْمَوْتِ؛ هذا الرَّجُلُ إذا جاءَ يَزورُكَ مِنْ بَعِيدٍ أَتَى لِيُسَلِّمَ لا لِشَيْءٍ آخَرَ. الشُّحْطُ: الْبُعْدُ)
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُرْوَى عَرَضَ وَغَرَضَ، بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.
يَقُولُ الْمُحَقِّقٌ: “نَقَلَ التَّبْرِيزي (شارحُ حَماسَةِ أبي تَمّامٍ) عَنْ أبِي هِلالٍ (شَيْخِهِ) قَوْلَهُ: غَرَضَ الرَّدَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ هَدَفُ الرَّدَى صَباحَ مَساء، وَهَذِهِ صِفَةٌ ً تَصْلُحُ لجَميعِ النّاسِ (أّيْ لا مَدْحَ فيها) وَلَيْسَ فيها تَخْصيصٌ لِأَحَدٍ. وَالْجَيِّدُ عَرَضَ الرَّدَى بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلانٌ عَرَضُ الْأَمْرِ ، أيْ بِحَيْثُ يَنالُهُ وَلا يُخْطِئُهُ، وَإذا كانَ كَذَلِكَ عاشَ عِيشَةً نَكِدَةً، لِتَوَقَُعِهِ لَهُ (الضَّميرُ يَعودُ لِلْأَمْرِ) لِأَنَّهُ بصَدَدِهِ (فَيَكون عُرْضَةً لِلْأعداءِ يَتَناوَلونَهُ كَما يشاءُونَ" .
قالَ أَبُو مُحَمّد الأعْرابي: هذا مَوْضِعُ الْمَثَلِ:
مِنَ الكامل
أَعْيَتْكَ حُمْرُ الْوَحْشِ أنْ تَصْطادَها
فَعَبَأْتَ رُمْحَكَ لِلْحِمارِ الْآهِلِ
(المعنَى أنَّ النَّمْرِيُّ عِنْدَما قالَ: هُناكَ رِوايَتان: غَرَضَ وَعَرَضَ كصائدِ حُمُرِ الُوَحْشِ الذي فَشِلَ في صَيْدِها، فَرِكَّبَ سِنانَ رُمْحِهِ لِيَقْتَنِصَ الْحُمْرَ الأهْليَّةَ) وهذا يُذَكِّرُني بالمثَلِ الشَّعْبِيِّ "لِقُصْرِ الذَّيْلِ يا أزْعَرُ".
الْخُلاصَةُ: كانَ قَيْسُ بْنُ عاصِم يقَرِّبُ الشّاعِرَ عَبَدَةَ بْنَ الطَّبيبِ ويُقَدِّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَآلَى الشَّاعِرُ أنْ يَبْدَأَ سَفَرَهْ بِزِيارَةِ قَيْسٍ، وَعِندَما يَعُودُ يُعَرِّجُ عَلَى قَبِرِهِ، وَجَعَلَ هذا نَهْجًا لَهُ.
هذا نَموذَجٌ واحِدٌ مِن عَشَراتِ الْأَخْطاِء لِما أصْلَحَهُ أبو محمّد الأعرابي، والفضْل في إيصالِ هذا الْكَنْزِ انت هو الْمُحَقِّقُ المرحوم بروفيسور جورج قَنازِع.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى