محمد السلاموني - العقل الإسلامى والخُرْدَة الأسطورية

اللغة كائن حى ، يحيا مع الناس وبالناس وفى الناس ... بل وأكثر من هذا ، فالكلمة كالإنسان تماما ، متعددة المعنى ، ومرنة تماما لدرجة الغموض ؛ إذ يستحيل السيطرة عليها ، حتى أن أفلاطون قال بأن (الكلمات كالزئبق) لا ركيزة لها ، وباشلار وصفها بـ (الخائنة) ؛ فهى تخون الأشياء التى تمثلها ، وسبق لهيجل أن قال بأن اللغة عندما تحل محل الأشياء فإنما (تميتها) ، أما دى سوسير فقد أكد على أن علاقة اللغة بالأشياء إعتباطية تماما ...
والنص القرآنى والأحاديث النبوية ، مجرد لغة ، ولأن اللغة لا (تمثل) الأشياء ، وإنما (تدل) على معانى تلك الأشياء (كما يقول سوسير أيضا) ، والمعانى مراوغة ومستعصية على الإمساك ، فالنص القرآنى والأحاديث – عندما نتلقاهما ، فإنما تتشظى وتنشطر فى أذهاننا ، ويختفى فى نهاية الأمر، إذ يتحولان إلى خطابات بشرية (لا علاقة لها بما أراده الله) .
مما يعنى أن لا سبيل للإنسان أمام (النصوص اللغوية عامة- لاسيما التاريخية و التراثية)
للوصول إلى (المعنى الأصلى) ، فالمعنى الذى أراده المؤلف الأصلى (الله) ، يذوب ، يتحول ، عبر اللغة ، لأن النص اللغوى يتوالد من حيث المعنى- بما لا يمكن حصره- فى أذهان المتلقين له .
ما سبق يعنى الآتى :
// المعانى نسبية تماما وليست مطلقة ، أى أن المعنى مجرد (منظور) ؛ مما يرتد به إلى النظر أو الرؤية ، وهذان يرتبطان بالشخص الذى ينظر ويرى ، وكل شخص إنما يرى من زاوية ما أو موقع ما ، لذا فهو محكوم بسياقه التاريخى وبمعارفه ومصالحه وتركيبته النفسية وتجربته الوجودية ... إلخ .
// لا مفر لنا من إدراج النص التراثى – أيا كان هذا النص- فى إطار نسق أيديولوجى من خارجه ، يرتبط بنا نحن وليس بالنص نفسه .
وهذا هو ما يفسر لنا لماذا يلجأ الإسلاميون عادة إلى (الإجتزاء) من القرآن والإحاديث ، أى إنتقاء آيات محدَّدة وأحاديث معينة و تجريدها من سياقها النصى والتاريخى وأعادة شحنها بالمعانى (التى تخدم مصالحهم) ، وادعاء العماء إزاء آيات وأحاديث أخرى ... ثم الزعم بأن
ما يقولون به يمثل (المعنى الأصلى – المعنى الإلهى) الذى هو الإسلام الصحيح فى كُلِّيَّته،
هذا على الرغم من أنهم لم يستندوا سوى إلى "الدوال" فقط ، أى إلى "الألفاظ"... وهو ما يدل دلالة قاطعة على أنهم - فى حقيقة الأمر - يعملون على تأكيد سلطتهم ، بالإستناد إلى (الله ورسوله) ، فى الوقت الذى يتقَوَّلون فيه عليهما .
وسنلاحظ أيضا بأنهم يلجأون إلى آلية (الإستبعاد) ؛ إذ يستبعدون التفسيرات والتأويلات المختلفة والمتعارضة مع ما ذهبوا إليه ، هكذا ، أى أنهم يطابقون بين خطابهم وبين النص القرآنى أو بين ما يريدونه هم وما يريده الله ، وبذا يصيرون هم (رجال الله ، العارفين بالسر الإلهى - بل إن كلا منهم يتصور أنه هو نفسه ظل الله على الأرض والمنفذ لمشيئته ... إلخ) .
هكذا ، فهم يبسطون أو يسعون لأن يبسطوا سلطتهم على العالم ، من خلال بسط سيطرتهم على النص القرآنى ، عبر المطابقة بين اللغة والمنطق (أو ما يعرف باللوغوس الإسلامى)
، هذا على الرغم من أن اللوغوس نفسه لم يعد سوى (خردة فلسفية) ومعه المنطق (الأرسطى) – بعد أن أعمل فلاسفة الغرب معاولهم فى مبادئه ومسلماته الصورية ..
الخلاصة : كل قراءة للقرآن الكريم هى إعادة تقديم له فى سياق تاريخى مغاير ومن ثم بشروط مغايرة لتلك التى شهدت مولده ، كما أن تلك الوضعية المغايرة التى يعاد فيها تقديم القرآن ، تعيد ترتيبه (من حيث الأهمية النسبية التى تتمتع بها الأيات المختلفة)- وما يمكن قوله إجمالا ، هو أن القرآن ، فى كل مرة يعاد تقديمه فيها ، فإنما يستمد قيمته من فقرات معينة ، يتم شحنها بمعان ودلالات محددة ، تتناسب مع المصالح الجديدة ..
هكذا ــ ولو أمكن لهم التساؤل عن سبب تعدد واختلاف المذاهب والتفسيرات الإسلامية ، وكيف أن كل مذهب أو تفسير منها يدَّعى أنه هو الذى يقدم الصورة الأصلية والصحيحة ، لتبينوا أن تعدُّد تلك الصور لا يعنى سوى أن هناك قبورا عديدة لقديس واحد ، ضاعت حقيقته ، بل ولا وجود له فى الحقيقة ..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى