كيف تبلل ثوب الجنون
وتمحو فراشات ليلي
وروحي
لتجرفني مع دمع العيون
كيف تجرف بركان ذاكرتي
وتسير إلى البحردون مراعاة يتم الحقول
وتتركني أعجن الطين أسئلة
ترتدي هيجان السيول/
محمد عرش - شاعر مغربي
----------------------------
كل قراءة لنص أدبي لا يمكنها أن تدعي الإحاطة بكل ما يزخر به النص من ظواهر ،وإذا ما ادعت ذلك سيكون ادعاؤها تهافتا .النص لا يمكن حصره أو محاصرته،والقراءة التي تقول أنها تفعل ذلك بالنسبة لنص ما إنما هي تقتله ،وبالتالي تعلن موته في الملأ.إن أية قراءة هي محكومة بزاوية التلقي ،وما دام المتلقي متعددا فمن الطبيعي أن تتعدد القراءات للنص الواحد،تتعدد إلى حد التناقض .
كانت هذه توطئة قبل الشروع في قراءة ديوان "أنثى المسافات" للشاعر المغربي:محمد عرش.أؤكد بناء عليها أن قراءتي تحمل وجهة نظر فقط،ولا تدعي امتلاك الحقيقة،لأن الحقيقة ليست ملكا لأحد ولا حكرا عليه.
إن ما يلفت نظر القارئ لهذا الديوان المؤلف من 25 قصيدة تختلف طولا وقصرا هو ولع الشاعر بالتفاصيل والتقاطها ثم الحديث عنها بأسلوب شاعري لا يسع المرء إلا الاستكانة له والإنصات إليه.ولا ريب أن ما يميز الشعر الرفيع هو البحث عن التفاصيل ومحاولة التعمق فيها ،فالشعر كما يقول فولتير:"لا يتألف إلا من تفاصيل جميلة"/كتاب:طبيعة الشعر.لمؤلفه:أحمد العزب/
فلنلاحظ هذا المقطع،مثلا:
باع كل النوى
واستوى
وارتوى بعذاب الهوى
وهوى/ص30
هذا المقطع حافل بالتفاصيل ،كلماته وجمله فيها موسيقى داخلية تسندها موسيقى خارجية تتمثل في تفعيلة بحر "المتدارك" العذبة.
ثم إن هناك هذا الحديث الذي يكون تلميحات للغة في صورها البلاغية والنحوية ،إن هاجس الحديث عن اللغة لا يأتي اعتباطا،باعتبار أن اللغة هي أداة أكثر أهمية في القصيدة،فالشعر لغة ،او هو بعبارة أخرى لغة داخل اللغة.
الشاعر الذي يجعل اللغة في مرتبة أقل من المرتبة الأولى لا يستطيع كتابة قصيدة جميلة ،الشاعر بخلاف الناثرتكون اللغة لديه وسيلة وغاية في آن واحد،إنه يسمو باللغة إلى درجة تتجاوز ذاته هو كشاعر وتتجاوز الموضوع الذي تتناوله بصفته "كائنا" خارج القصيدة.اللغة هي التي تحدد لنا الكيفية التي بواستطها نقول القصيدة.الشعر هو كيف نتحدث لا عن ماذا نتحدث ،وعليه فقد كان الشعر دائما سؤالا ،والإجابة عنه هي التي كانت ترسم مساره وتاريخ تطوره .
تتوتر الذات فتخلق لغتها ،وعندما تتفجر الذات فإن اللغة تتفجر بتزامن معها،إن الذات في توترها تلد لغة تتصف بكونها "عنقاء الكتابة".
امتلاك اللغة لا يعني دائما امتلاك القصيدة،فالفرزدق مثلا كان يأتي عليه وقت لقلع ضرس أهون عليه من نظم بيت شعر،القصيدة تحتاج إلى مراودة من الشاعر ،كما تحب منه أن يكون ملحاحا في طلبه لها:
تراود نصا
وتفتح أبوابا
لتأويل رغبة امرأة مشتعلة/ص26
سأرافق الليل
حتى أفجر نبع القصيدة/ص53
القصيدة ينبغي أن تكون مدهشة،تتبنى لغة الخلق والإبداع،الشعر الحقيقي هو الذي ينفي ما قبله ،النفي هنا ليس معنا ه الإلغاء،بل معناه البناء،لا بد للشاعر من أن يبني بيت إقامته،ولذلك عليه أن يتبنى :
لغة تساكس حبرها
وسائل الرؤيا
عن الصور التي
لبست شظايا الشمس/ص24
كما أن عليه أن يضاجع" اللغة الشائكة" ،وأيضا عليه أن تكون لغته مستمدة من "ضحايا التراب".
ونجد في الديوان بعض التلميحات والإشارات إلى عناصر نحوية أو بلاغية عنت للشاعر أثناء كتابة القصيدة، ربما كانت هي تساؤلا أو محاولة للإجابة عن تساؤل.نجد ذلك مثلا في قصيدة "جواب ابن مالك"وقصيدة"المقهى"وقصيدة "اشتباكات"وقصيدة "اشتهاء لاغتسال الرياح" الخ..الشئ الذي يفيد أن الشاعر دائم البحث عن لغة جديدة قادرة على النفاذ إلى أعماق الذات والكون:
تضحك البحارمن نضوب الرمال !
وتحلق بعيدا
لتحضن شمس لغة
سطعت/ص70-71
ونكاد نتفق أو نحن نتفق بالفعل على أن الشعر إنما هو رؤِية نابعة أساسا من تجربة الشاعر،والتعبير بصدق عن هذه التجربة هو ما يجعل الشاعر متميزا له خصوصياته.أما انعدام التجربة ،أو عدم التعبير عنها بصدق إذا كانت موجودة فلا ينتج عنه إلا شعر ضحل غارق إما في التقليد والنمطية ،وإما في الفجاجة .
شاعرنا محمد عرش يمتلك تجربة وهو يحسن التعبير عنها إلى حد ما،لكن ذلك لا يعفينا من إبداء بعض الملاحظات نجملها كما يلي:
1- عالم قصائد الشاعر يخلو من عنصر- التحول- الذي يلعب المخيال دورا بارزا في تحقيقه على المستوى الشعري،فنحن لا نجد ذلك إلا نادرا إن لم يكن منعدما.إن انعدام هذا العنصر يجعل من عالم القصيدة عالما ساكنا سكونا ثقيلا لا تخفف من وطأته تلك الانعطافات المفاجئة التي تخلق الدهشة في بعض الجمل الشعرية التي تكسر أفق انتظار القارئ.
2- بعض القصائد ليس فيها تكثيف – قصيدة:تأويل مثلا- وهو ما يجعل الجملة الشعرية انسيابية متراخية فاقدة للتوتر والحرارة.
3- خروج بعض القصائد على الوزن ،الشئ الذي يخلق في بعض سطورها أو مقاطها نشازا،قصيدة:أفروديت ،مثلا.التي لم تلتزم تفعيلة "المتدارك"إلى النهاية.كما ينبغي إضافة لام التعليل لعبارة"تشربني"من قصيدة :"المقهى" التي تجري على بحر" الكامل"،ويستقيم الوزن فتكون كالتالي:"لتشربني صباحا....الخ."
إن هذه الملاحظات لا تقلل أبدا من أهمية تجربة الشاعر محمد عرش ،فبعد ديوانه الأول:"أحوال الطقس الآتية" الذي لم يكن محظوظا على ما أرى ياتي ديوانه :"أنثى المسافات" ليكون لبنة أخرى تنضاف إلى صرح الشعر المغربي و العربي ،وهذا الديوان على عكس بعض المجاميع التي تطلع علينا بين الفينة والأخرى بأسماء ليس لها من دنيا الشعر ولا الشاعرية نصيب،ومع ذلك فهي تحظى بالقراءة وبالاحتفاء أكثر مما يجب ،أقول:هذا الديوان جدير بالقراءة وبثقة القارئ أيضا.
----------------------
* إشارة:
الديوان هو مجموعة من قصائد التفعيلة ويحتوي على 25 قصيدة،،صدر عن مطبعة :توب إمبريسيون بالدار البيضاء/المغرب سنة 1996 ،وسوف لا أعرض للقصائد شكلا ومضمونا وبسرعة حتى لا أسيء إليها .
وتمحو فراشات ليلي
وروحي
لتجرفني مع دمع العيون
كيف تجرف بركان ذاكرتي
وتسير إلى البحردون مراعاة يتم الحقول
وتتركني أعجن الطين أسئلة
ترتدي هيجان السيول/
محمد عرش - شاعر مغربي
----------------------------
كل قراءة لنص أدبي لا يمكنها أن تدعي الإحاطة بكل ما يزخر به النص من ظواهر ،وإذا ما ادعت ذلك سيكون ادعاؤها تهافتا .النص لا يمكن حصره أو محاصرته،والقراءة التي تقول أنها تفعل ذلك بالنسبة لنص ما إنما هي تقتله ،وبالتالي تعلن موته في الملأ.إن أية قراءة هي محكومة بزاوية التلقي ،وما دام المتلقي متعددا فمن الطبيعي أن تتعدد القراءات للنص الواحد،تتعدد إلى حد التناقض .
كانت هذه توطئة قبل الشروع في قراءة ديوان "أنثى المسافات" للشاعر المغربي:محمد عرش.أؤكد بناء عليها أن قراءتي تحمل وجهة نظر فقط،ولا تدعي امتلاك الحقيقة،لأن الحقيقة ليست ملكا لأحد ولا حكرا عليه.
إن ما يلفت نظر القارئ لهذا الديوان المؤلف من 25 قصيدة تختلف طولا وقصرا هو ولع الشاعر بالتفاصيل والتقاطها ثم الحديث عنها بأسلوب شاعري لا يسع المرء إلا الاستكانة له والإنصات إليه.ولا ريب أن ما يميز الشعر الرفيع هو البحث عن التفاصيل ومحاولة التعمق فيها ،فالشعر كما يقول فولتير:"لا يتألف إلا من تفاصيل جميلة"/كتاب:طبيعة الشعر.لمؤلفه:أحمد العزب/
فلنلاحظ هذا المقطع،مثلا:
باع كل النوى
واستوى
وارتوى بعذاب الهوى
وهوى/ص30
هذا المقطع حافل بالتفاصيل ،كلماته وجمله فيها موسيقى داخلية تسندها موسيقى خارجية تتمثل في تفعيلة بحر "المتدارك" العذبة.
ثم إن هناك هذا الحديث الذي يكون تلميحات للغة في صورها البلاغية والنحوية ،إن هاجس الحديث عن اللغة لا يأتي اعتباطا،باعتبار أن اللغة هي أداة أكثر أهمية في القصيدة،فالشعر لغة ،او هو بعبارة أخرى لغة داخل اللغة.
الشاعر الذي يجعل اللغة في مرتبة أقل من المرتبة الأولى لا يستطيع كتابة قصيدة جميلة ،الشاعر بخلاف الناثرتكون اللغة لديه وسيلة وغاية في آن واحد،إنه يسمو باللغة إلى درجة تتجاوز ذاته هو كشاعر وتتجاوز الموضوع الذي تتناوله بصفته "كائنا" خارج القصيدة.اللغة هي التي تحدد لنا الكيفية التي بواستطها نقول القصيدة.الشعر هو كيف نتحدث لا عن ماذا نتحدث ،وعليه فقد كان الشعر دائما سؤالا ،والإجابة عنه هي التي كانت ترسم مساره وتاريخ تطوره .
تتوتر الذات فتخلق لغتها ،وعندما تتفجر الذات فإن اللغة تتفجر بتزامن معها،إن الذات في توترها تلد لغة تتصف بكونها "عنقاء الكتابة".
امتلاك اللغة لا يعني دائما امتلاك القصيدة،فالفرزدق مثلا كان يأتي عليه وقت لقلع ضرس أهون عليه من نظم بيت شعر،القصيدة تحتاج إلى مراودة من الشاعر ،كما تحب منه أن يكون ملحاحا في طلبه لها:
تراود نصا
وتفتح أبوابا
لتأويل رغبة امرأة مشتعلة/ص26
سأرافق الليل
حتى أفجر نبع القصيدة/ص53
القصيدة ينبغي أن تكون مدهشة،تتبنى لغة الخلق والإبداع،الشعر الحقيقي هو الذي ينفي ما قبله ،النفي هنا ليس معنا ه الإلغاء،بل معناه البناء،لا بد للشاعر من أن يبني بيت إقامته،ولذلك عليه أن يتبنى :
لغة تساكس حبرها
وسائل الرؤيا
عن الصور التي
لبست شظايا الشمس/ص24
كما أن عليه أن يضاجع" اللغة الشائكة" ،وأيضا عليه أن تكون لغته مستمدة من "ضحايا التراب".
ونجد في الديوان بعض التلميحات والإشارات إلى عناصر نحوية أو بلاغية عنت للشاعر أثناء كتابة القصيدة، ربما كانت هي تساؤلا أو محاولة للإجابة عن تساؤل.نجد ذلك مثلا في قصيدة "جواب ابن مالك"وقصيدة"المقهى"وقصيدة "اشتباكات"وقصيدة "اشتهاء لاغتسال الرياح" الخ..الشئ الذي يفيد أن الشاعر دائم البحث عن لغة جديدة قادرة على النفاذ إلى أعماق الذات والكون:
تضحك البحارمن نضوب الرمال !
وتحلق بعيدا
لتحضن شمس لغة
سطعت/ص70-71
ونكاد نتفق أو نحن نتفق بالفعل على أن الشعر إنما هو رؤِية نابعة أساسا من تجربة الشاعر،والتعبير بصدق عن هذه التجربة هو ما يجعل الشاعر متميزا له خصوصياته.أما انعدام التجربة ،أو عدم التعبير عنها بصدق إذا كانت موجودة فلا ينتج عنه إلا شعر ضحل غارق إما في التقليد والنمطية ،وإما في الفجاجة .
شاعرنا محمد عرش يمتلك تجربة وهو يحسن التعبير عنها إلى حد ما،لكن ذلك لا يعفينا من إبداء بعض الملاحظات نجملها كما يلي:
1- عالم قصائد الشاعر يخلو من عنصر- التحول- الذي يلعب المخيال دورا بارزا في تحقيقه على المستوى الشعري،فنحن لا نجد ذلك إلا نادرا إن لم يكن منعدما.إن انعدام هذا العنصر يجعل من عالم القصيدة عالما ساكنا سكونا ثقيلا لا تخفف من وطأته تلك الانعطافات المفاجئة التي تخلق الدهشة في بعض الجمل الشعرية التي تكسر أفق انتظار القارئ.
2- بعض القصائد ليس فيها تكثيف – قصيدة:تأويل مثلا- وهو ما يجعل الجملة الشعرية انسيابية متراخية فاقدة للتوتر والحرارة.
3- خروج بعض القصائد على الوزن ،الشئ الذي يخلق في بعض سطورها أو مقاطها نشازا،قصيدة:أفروديت ،مثلا.التي لم تلتزم تفعيلة "المتدارك"إلى النهاية.كما ينبغي إضافة لام التعليل لعبارة"تشربني"من قصيدة :"المقهى" التي تجري على بحر" الكامل"،ويستقيم الوزن فتكون كالتالي:"لتشربني صباحا....الخ."
إن هذه الملاحظات لا تقلل أبدا من أهمية تجربة الشاعر محمد عرش ،فبعد ديوانه الأول:"أحوال الطقس الآتية" الذي لم يكن محظوظا على ما أرى ياتي ديوانه :"أنثى المسافات" ليكون لبنة أخرى تنضاف إلى صرح الشعر المغربي و العربي ،وهذا الديوان على عكس بعض المجاميع التي تطلع علينا بين الفينة والأخرى بأسماء ليس لها من دنيا الشعر ولا الشاعرية نصيب،ومع ذلك فهي تحظى بالقراءة وبالاحتفاء أكثر مما يجب ،أقول:هذا الديوان جدير بالقراءة وبثقة القارئ أيضا.
----------------------
* إشارة:
الديوان هو مجموعة من قصائد التفعيلة ويحتوي على 25 قصيدة،،صدر عن مطبعة :توب إمبريسيون بالدار البيضاء/المغرب سنة 1996 ،وسوف لا أعرض للقصائد شكلا ومضمونا وبسرعة حتى لا أسيء إليها .